«سفاح براغ»: يُداوي خيباته بالحرب
كلما طرأ حديث عن الحرب العالمية الثانية، يقتصر النقاش، في المدونات العربية، عن أدولف هتلر، أو «الفوهرر» أي القائد كما نصب نفسه، بوصفه العقل المدبر للفظائع، ورأس كتائب الموت، وأنه من رسم خرائط القتل والدم، ونتغافل في غمرة التأريخ له أن هناك رجالا كانوا يتحلقون من حوله، لا نذكر إلا نادراً أسماءهم أو أفعالهم، لاسيما رينهارد هايدريتش، الذي عاش أيضاً مقرباً من هيملر (قائد الغيستابو) أكثر من ظله، فكان هايدريتش مديراً لأمن الرايخ، سيد المخابرات الأول، كان شرطياً داخل نظام بوليسي، فهو الذي فكّر في مسألة (الحل الأخير) قصد إبادة اليهود، ودبّر اضطهاد العرقيات التي لا تنتمي إلى الصنف الآري، كان يد النازية في البطش بمن يختلف عنها، ونادراً ما يرد ذكره في الأوساط العربية، من هنا تتكرس أهمية رواية «سفاح براغ» (دار كلمات، ترجمة إكرام صغيري) وهي رواية لمؤلفها الفرنسي لوران بيني. إنها رواية تقف في منطقة وسطى بين السيرة والتأريخ، بين السياسة والتشويق، تتقاطع فيها سيرة المؤلف مع سيرة رجل عاش قبله بأكثر من ثلاثين سنة، فيُحيلنا إلى قراءة مغايرة في جزئيات الحرب العالمية الثانية، مع استعادة الخيط الضائع منها، وما كان يدور في الغرف المغلقة، من تخطيط وتبشير باحتلال أراضٍ أو التخلص من خصوم أو من رفاق منشقين، فهذه الرواية تجعلنا نتساءل: كيف يمكن لشخص عادي أن يصير سفاحاً؟ فالمؤلف ينطلق من تفاصيل حميمة في حياة هايدريتش، ثم تتشكل صورته، شيئاً فشيئاً، مع توالي الصفحات، في ذهن القارئ وهو يحاول فهم هذا الانتقال المتطرف، من زير نساء راغب في متع العيش إلى واحد من أشهر الدمويين الذين عرفتهم أوروبا، منذ صعود النازية وسقوطها، بين ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي.
بين الذاتي والمشترك
مثلما كان هايدريتش يُداوي خيباته وعقده النفسية بالقفز في المراتب وتقلد المناصب السياسة، استعان المؤلف بحياته الشخصية في سرد سير غيره. سيجد القارئ نفسه إزاء رواية حلزونية، في خطوط قصصية تدور حول نفسه، كل نقطة تسير في حلقة كي تعود إلى نقطة البداية، فهي ليست رواية كلاسيكية، تبدأ من مولد البطل/ الغائب إلى نهايته، بل يتزاحم فيها الذاتي مع المشترك، كما إن لوران بيني نصب نفسه ناقداً لعمله، قبل أن يصل إلى المطبعة ثم إلى يدي القارئ، يستحضر صديقة له (اسمها ناتاشا) ويقول على لسانها رأيها في كل تفصيل أو فصل، كما لو أن الكاتب يفكر بصوت عالٍ، كما أنه لا فرق بين المخطوطة والنص النهائي، فهو يربط تاريخ هايدريتش بتاريخه الفردي، وقد سافر إلى الأمكنة التي عاش فيها هذا النازي، في تشيكوسلوفاكيا سابقاً، تقفى أثره ليس كي يكتب عنه فقط، بل كي يستعيد روح المكان، في كتابة سينمائية في بعض الأحيان، تسرف في التفاصيل إلى درجة يشعر فيها القارئ بألفة مع الأسماء والأمكنة التي يتحدث عنها المؤلف، إلى درجة أن زمن الحرب العالمية الثانية يبدو زمناً معاصراً، وليس زمناً منقضيا.
هذا الخيار الفني كان من شأنه أن يفتتح استطرادات مطولة، ويرهق النص، لكن المؤلف استطاع أن يضبط الإيقاع مثل عازف في أوركسترا، لم يخرج عن الخط الأساسي سوى حين يستوجب الأمر ذلك، كما أن تفرعات الحكي تتيح للقارئ إحاطة أوسع بتاريخ تلك الحرب، في فهم دوافعها وسياقاتها ومآلها، إنها حرب في تعقيداتها استجوبت تعقيدات في الحكي، تمكن مؤلفها في الوصل بين خيوطها من غير أن يخرج عن السكة التي رسمها لنفسه في البداية. بالتالي فإن أهمية «سفاح براغ» ليا تنحصر في ثيمتها وفي طبيعة الشخصية التي تتعامل معها، بقدر ما تبدو أهميتها في المقترح الفني الذي تنبني عليه، والذي يعيد تحيين التاريخ كما لو أنه حدث يجري في زمن حاضر، فندرك في الأخير أن التاريخ والتخييل مترابطان مثل توأم، فهي رواية التخييل الذاتي، أو اللا تخييل في مرات، تنطلق في فصول منها من وقائع متفق عليها، كما لو أننا بصدد كتاب بحثي، لا أدبي، وهو ما راهن عليه المؤلف في المحو بين الفواصل التي تفرق بين الأنواع الأدبية، مثلما محا النازيون الفوارق بين خصومهم ونكلوا بهم بالطريقة عينها.
مديح المقاومة أم تفكيك عقل الجلاد؟
ما يُساعد على تلقي هذه الرواية هو الترجمة الحسنة، فقد تصدت المترجمة للنص ليس فقط في شقه الأدبي، بل أيضاً البحثي والتاريخي، بما احتشد فيه من أسماء ومواقع ومسميات عمليات عسكرية، استوجبت العودة إلى الأرشيف قصد تعريبها كما ينبغي، في رواية قد يلتبس علينا فهم مسعى مؤلفها: هل أراد منها تحية للمقاومة التشيكوسلوفاكية التي خلصت البشر من أبشع النازيين، أم هي استعادة مفصلة لحياة هايدريتش؟ ففي «سفاح براغ» كلما تقدمنا في القراءة ننسى البطل/ الغائب، ونهتم بالسياقات التاريخية، كما إننا ننطلق من اسمي المقاومين الذين نفذا عملية تصفية الجلاد وننتهي معها. في توثيق أدبي لعملية شهيرة، أطلق عليها اسم: «أنثروبيد». ففي صباح 27 مايو/أيار 1942، سوف يلقى السفاح مصرعه، وهو على متن سيارته المرسيدس، على يدي غابتشيك وغوبتش، الأول سلوفاكي والثاني تشيكي، وهي عملية كادت أن تفشل بعدما تعطل سلاح غابتشيك لكن غوبتش فجّر لغماً، وأنهى حياة واحداً من عرابي الموت في الحرب العالمية الثانية، لكن سكان المدينة التشيكية التي وقعت فيها العملية دفعوا الثمن في اليوم التالي من تصفيات واعتقالات. في رواية جاءت بأسلوب يحاكي تعقيدات أن نحكي تاريخ تلك الحقبة، ليست نصاً أدبياً كما تعودنا عليه، ولا هي رواية تاريخية، بل هي إعادة كتابة التاريخ من منظور ذاتي، كما لو أن مؤلفها لا يثق في التخييل، بل يثق في شرط البحث، أن يكون الكاتب مطلعاً لا مجرد راغب في ابتكار حيوات للآخرين. لا يحول شخصياته إلى سرديات، بل يعيدهم كما عاشوا، محترماً ما ورد في سيرهم، ثم يجمع قطع الحكاية، فتصير رواية، هكذا يقترح أن الواقع متخيلا والمتخيل واقعاً.
روائي جزائري