
الاســتعصـاء الفلسطيني
01-07-2023
في تطور ملحوظ على سياقات المواجهة في فلسطين المحتلة، خاصة في الضفة الغربية، بدأ المستوطنون يتسيدون مشهداً لم يكن مألوفاً في السابق بالمستوى القائم حالياً.
إن ما يقوم به المستوطنون الصهاينة ضد المدنيين الفلسطينيين، والمحاولات المتكررة لاقتحام حرم الأقصـى في القدس وقبله الحرم الإبراهيمي في الخليل، يعيد بالذاكرة ما كان يقوم به المستوطنون قبل إقامة الحركة الصهيونية لكيانها السياسي على أرض فلسطين. وفيما كان المستوطنون الذين انتظموا في عصابات إرهابية “كالهاغانا” يغيرون على السكان المدنيين بغض نظر وتشجيع من قوات الاحتلال البريطاني، لخلق مناخات ترهيب من خلال القتل والتنكيل والتدمير لدفع الفلسطينيين لمغادرة مدنهم وقراهم وتفريغها من أهلها، لأجل تمكين الصهاينة المستقدمين من كل بقاع العالم استيطان المدن والقرى التي هجّر أهلها بالقوة. فإن المشهد يتكرر اليوم مع تبدل في شخصية الجهة الراعية لعملية ترهيب المواطنين الفلسطينيين لدفعهم إلى النزوح في عملية “ترانسفير” جديد.
إن “إسرائيل”، بما هي سلطة احتلال هي التي توفر الغطاء والحماية للمستوطنين الذين ينفذون إغاراتهم على القرى وكان أفظعها تلك الذي تعرضت له قرية “ترامسعيا” وقبلها “الحوارة” وما تعرض له حرم الأقصى.
إن هذا الذي يقوم به المستوطنون في القدس وسائر مدن وقرى الضفة الغربية، سجل تطوراً نوعياً في الإرهاب والإجرام الصهيونيين بعد النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات التي أوصلت قوى دينية لم تتأخر دعوتها إلى عسكرة المستوطنين وانتظامهم في تشكيلات أمنية تحت عنوان ما يسمى “بالحرس القومي”. وإذا كانت هذه الدعوة لم تشق طريقها إلى الإقرار، إلا أن ما يجري على الأرض يبين أن المستوطنين يجري تسليحهم ودفعهم للقيام بأعمال الترهيب والتنكيل وبرعاية القوات النظامية، وكل ذلك لتحقيق ما تسعى إليه سلطة الاحتلال دون أن تتحمل التبعات القانونية المترتبة عليها، لأن القانون الدولي والمواثيق الدولية المعنية بإسباغ الحماية للسكان الواقعين تحت الاحتلال، تفرض على السلطة القائمة بالاحتلال توفير الحماية للسكان المدنيين، وهو الأمر غير القائم في ظل ما تشهده الضفة الغربية بكل مدنها وقراها وحتى مخيماتها.
هذه الإغارات التي يقوم بها المستوطنون والتي أدت مؤخراً إلى إحراق قرية “ترامسعيا” وهي بالأساس ليست تابعة إدارياً للسلطة الفلسطينية، سبقتها إقدام القوات النظامية على اقتحام جنين ومخيمها، وكانت شوارعها مسرحاً لمواجهة بطولية أدت إلى تدمير عدة آليات للعدو وإصابة العديد من عناصره بجراح، وهو ما يدلل أن الذي ما يقوم به العدو عبر قواته النظامية ومستوطنيه، وإن كان يروج له في تصريحات العدو وإعلامه بأنه رد على أعمال المقاومين في الأرض المحتلة على مساحة كل فلسطين، إلا أن البعد الحقيقي لهذه العمليات المنسقة هو فرض مناخ من الترهيب العام على كل مساحة الضفة الغربية لدفع سكانها إلى المغادرة والنزوح، وذلك تنفيذاً للمخطط الصهيوني الرامي إلى تهجير فلسطيني الضفة وتدمير غزة.
إن إغراق الضفة الغربية بالمستوطنات منذ تعرضها للاحتلال في الخامس من حزيران سنة ١٩٦٧، أعطى الإشارة الأولية، بأن “إسرائيل” لن تنسحب من الضفة إلى الحدود التي رسّمها قرار التقسيم وما طرأ عليه من تعديلات على الأرض بفعل إجراءات القضم التي حصلت بعد ١٥ أيار ١٩٤٨. فمنذ تلك اللحظة بدأت عملية إغراق الأرض الفلسطينية بالمستوطنات تمهيداً لتهويدها واعتبارها جزءاً لا يتجزأ مما تسميه دولة الاحتلال أرض “إسرائيل التاريخية”، وأن تدمير المسجد الأقصى الذي هو في صلب المخطط الصهيوني لزعم بأنه مبني على أنقاض ما يسمى بهيكل سليمان، بدأ تنفيذه يوم أحرق سنة ١٩٦٩، وهو يتواصل اليوم بالانتهاك المتواصل لحرمه وصولاً إلى اعتصام المستوطنين في باحاته وبرعاية القوات الأمنية الصهيونية.
إن من يعي أبعاد المشروع الصهيوني واستهدافاته لا تُخفى عنه ما ترمي إليه الحركة الصهيونية. وهي إذ تعمل على اعتماد سياسة القضم والهضم، فهذه الخطة المتدرجة للاستيلاء على كل أرض فلسطين التاريخية، لن تحد من تماديها القرارات الدولية وتلك التي تنص على منع الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، كما على حق الشعوب بمقاومة الاحتلال وحقها في تقرير المصير. ومن غرائب الأمور أن الدول التي توفر الحماية الدولية للكيان الصهيوني، تدرج أعمال العدو سواء تلك التي تنفذها القوات العسكرية والأمنية ضد المدنيين في الأرض المحتلة بالاستعمال المفرط للقوة وتتحاشى وصفها بالأعمال الإرهابية فيما تصف مقاومة الاحتلال بالإرهاب وتُسْقط أي مشروع لقرارٍ دوليٍ بإدانة الإجراءات الصهيونية ضد السكان الواقعين تحت الاحتلال.
إذاً، إن المراهنة على انسحاب العدو من الضفة الغربية إنفاذاً لقرارات دولية وان كانت مبهمة، هي مراهنة في غير محلها، لأن تكريس واقع الاحتلال للضفة الغربية لا يقتصر على ما يخطط العدو له ويعمل على تنفيذه وإن على مراحل وحسب، بل يمتد ليطال مواقف الدول التي توفر مظلة حماية دولية “لإسرائيل” وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، التي أبلغ رئيسها ليندون جونسون صيف سنة ١٩٦٧ للملك حسين، “أن الأرض تؤخذ إما بالشراء وما بالحرب، وان “إسرائيل”، أخذت الأرض بالحرب ولكل ثمنه”. ومنذ ذاك الحين وأميركا تدعم كل إجراءات “إسرائيل” لتهويد ما تم احتلاله في حزيران. وإن اعترافها بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني ونقل مقر سفارتها إليها والتسويق لما يسمى بصفقة القرن والترويج “لاتفاقات إبراهم” والتي على أساسها تمت عمليات التطبيع مع العديد من الأنظمة العربية، ما هو إلا خطوة في سياق تنفيذ استراتيجية أميركا لتأسيس نظام إقليمي تحت مسمى الشرق الأوسط الجديد.
هذا النظام يفترض أن تكون “إسرائيل” وإيران وتركيا من ركائزه. وحتى تكون هذه الدول من ركائز هذا النظام الإقليمي، يجب أن تكون العلاقات مطبّعة في ما بينها من ناحية، ومطبّعة مع كيانات المكون القومي العربي على تعدديتها من ناحية أخرى. وما يجري من اتصالات تحت الطاولة وفوقها بين هذه الدول غير العربية من جهة، وما بينها وبين دول عربية محورية من جهة ثانية، إنما تصب محصلتها في ما ُيرمى إليه من رسم معالم النظام الإقليمي الجديد. وإذا كانت الاتصالات جارية لتطبيع سوري- تركي برعاية روسية، وقبلها التطبيع السعودي- الإيراني الذي فتحت نوافذه برعاية صينية، فإن التطبيع الإسرائيلي- الإيراني يتم برعاية أميركية بدءاً من مقدماته في “إيران غيت” ومروراً “بعوفر غيت” (صفقة الفستق) وصولاً إلى ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان الصهيوني نظرياً، وبينه وإيران عملياً. وأما عن مسار التطبيع بين الكيان الصهيوني والنظام الرسمي العربي فقنواته مفتوحة على نطاق واسع وفق ما حددت آلياته اتفاقات إبراهم.
أمام هذا الواقع الذي تعيشه المنطقة العربية وما تعاني منه من إسقاطات سياسية بعد احتواء مصر واحتلال العراق وإسقاط نظامه الوطني والتدمير البنيوي الذي أصاب أكثر من ساحة عربية ووصل مشهده حالياَ إلى السودان، لم يبق إلا حالة استعصاء واحدة أمام تمهيد الأرضية الكاملة لمشروع الشرق الأوسط الجديد، ألا وهي حالة الاستعصاء الفلسطيني، حيث لا يمكن تمرير هذا المشروع إلا بحل هذا الاستعصاء، والذي لا ترى “إسرائيل” سبيلا له إلا بما تسميه الوطن البديل، الذي سبق طرحه ونظّر له إيغال ألون بعد صدور القرار ٢٤٢ بسنتين. وهذا يعني، أن لا وطن للفلسطينيين ولا دولة لهم على أرض فلسطين ومهما بلغت مساحتها، بمواصفات قرارات المجلس الوطني الفلسطيني، ولا بمواصفات ما يسمى بحل الدولتين الذي يتم تداوله في بعض المنتديات الدولية، وما تشير إليه ما يسمى بمبادرات السلام.
إن كل المقدمات ما هو مضمر منه وما هو معلن يدلل بأن “إسرائيل”، لن تنسحب من الضفة إلا إذا استشعرت أن ثمة ميزان قوى أخذ بالتبلور وقادر على تحرير فلسطين بكاملها وعندئذٍ تُقْدِم على ترك الجزء حتى لا تطرد من الكل بالقوة. وطالما أن المعطيات القائمة لا تشير إلى تبلور هكذا موازين قوى، فإن ليس ما يجبر “إسرائيل” على الانسحاب، وستبقى تعمل على تنفيذ استراتيجيتها التي لا خلاف عليها بين يمين أو يسار وبين ديني وعلماني، أو بين متطرف ومعتدل، إذ كل الصهاينة تحكمهم خلفية استئصال العرب من فلسطين والقذف بهم خارج حدودها التاريخية. وعندما تصنف “إسرائيل” دولة “أبارتهايد” أي دولة فصل عنصري، فإنها تصنف كدولة تديرها مؤسسات حكم بغض النظر عن الخلفية الفكرية والسياسية للحزب أو التحالف الحاكم.
إن قيام النظام الإقليمي الجديد، مرهونة نجاح خطواته الإجرائية بحل مسألة الاستعصاء الفلسطيني، وطالما لم تستطع “إسرائيل”، تنفيذ استراتيجيتها القائمة على أساس التهجير للضفة والتدمير لغزة، فإن حالة الاستعصاء تبقى قائمة. وهنا تكمن أهمية الصمود الفلسطيني في الداخل والتمسك بالأرض وعدم مغادرتها برغم كل الظروف الضاغطة.
إن المواجهات التي تخوضها جماهير فلسطين في مواجهة الصهاينة، قوات نظامية ومستوطنين، هو تطور نوعي في أعمال المقاومة، وهي التي تعيق عملياً تنفيذ الاستراتيجية الصهيونية بدفع الفلسطينيين خارج فلسطين، وهذا هو عنصر الرهان عل إبقاء الصراع مع العدو صراعاً مفتوحاً على الزمن. وأمام الإصرار الصهيوني على اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، والإصرار الشعبي الفلسطيني على المقاومة بكل الأشكال المتاحة والتمسك بالأرض حتى الاستشهاد، لن يكون هناك أية إمكانية لأية ترتيبات تطبيعية بين الطرفين. وعندما تنعدم احتمالات التطبيع في فلسطين المحتلة، فإن الأمر سيؤدي إلى ارتدادات عكسية على مسار التطبيع مع النظام الرسمي العربي وجعل مشروع النظام الإقليمي الجديد يتعثر بعد اصطدامه بحاجز الاستعصاء الفلسطيني.
من هنا يمكن الجزم، بأنه من فلسطين التي بدأ منها تنفيذ مشروع الهيمنة على الوطن العربي عبر فرض واقع تقسمي عليه، ينطلق منها مشروع إسقاط النظام الإقليمي الجديد الذي تخطط له دوائر النظام الاستعماري الجديد استناداً إلى عامل الاستعصاء الفلسطيني. وبتعثر خطوات هذا المشروع ستتوفر الأرضية لإطلاق دورة جديدة من النضال العربي تعيد إنتاج واقع عربي جديد يلبي الطموح العربي في الوحدة والتحرر الاجتماعي والقومي والتقدم والديموقراطية والتنمية القومية المستدامة.
إن عامل الاستعصاء الفلسطيني يبقى الأمل في الدفع نحو تفجير البنية الصهيونية والدفع باتجاه الهجرة العكسية، كما هو الأمل المرتجى في إعاقة وتعطيل تشكيل النظام الإقليمي الجديد بمتكآته الإقليمية وقيادته الاستراتيجية التي تتجسد اليوم بالمرجعية الأميركية
إن ما يقوم به المستوطنون الصهاينة ضد المدنيين الفلسطينيين، والمحاولات المتكررة لاقتحام حرم الأقصـى في القدس وقبله الحرم الإبراهيمي في الخليل، يعيد بالذاكرة ما كان يقوم به المستوطنون قبل إقامة الحركة الصهيونية لكيانها السياسي على أرض فلسطين. وفيما كان المستوطنون الذين انتظموا في عصابات إرهابية “كالهاغانا” يغيرون على السكان المدنيين بغض نظر وتشجيع من قوات الاحتلال البريطاني، لخلق مناخات ترهيب من خلال القتل والتنكيل والتدمير لدفع الفلسطينيين لمغادرة مدنهم وقراهم وتفريغها من أهلها، لأجل تمكين الصهاينة المستقدمين من كل بقاع العالم استيطان المدن والقرى التي هجّر أهلها بالقوة. فإن المشهد يتكرر اليوم مع تبدل في شخصية الجهة الراعية لعملية ترهيب المواطنين الفلسطينيين لدفعهم إلى النزوح في عملية “ترانسفير” جديد.
إن “إسرائيل”، بما هي سلطة احتلال هي التي توفر الغطاء والحماية للمستوطنين الذين ينفذون إغاراتهم على القرى وكان أفظعها تلك الذي تعرضت له قرية “ترامسعيا” وقبلها “الحوارة” وما تعرض له حرم الأقصى.
إن هذا الذي يقوم به المستوطنون في القدس وسائر مدن وقرى الضفة الغربية، سجل تطوراً نوعياً في الإرهاب والإجرام الصهيونيين بعد النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات التي أوصلت قوى دينية لم تتأخر دعوتها إلى عسكرة المستوطنين وانتظامهم في تشكيلات أمنية تحت عنوان ما يسمى “بالحرس القومي”. وإذا كانت هذه الدعوة لم تشق طريقها إلى الإقرار، إلا أن ما يجري على الأرض يبين أن المستوطنين يجري تسليحهم ودفعهم للقيام بأعمال الترهيب والتنكيل وبرعاية القوات النظامية، وكل ذلك لتحقيق ما تسعى إليه سلطة الاحتلال دون أن تتحمل التبعات القانونية المترتبة عليها، لأن القانون الدولي والمواثيق الدولية المعنية بإسباغ الحماية للسكان الواقعين تحت الاحتلال، تفرض على السلطة القائمة بالاحتلال توفير الحماية للسكان المدنيين، وهو الأمر غير القائم في ظل ما تشهده الضفة الغربية بكل مدنها وقراها وحتى مخيماتها.
هذه الإغارات التي يقوم بها المستوطنون والتي أدت مؤخراً إلى إحراق قرية “ترامسعيا” وهي بالأساس ليست تابعة إدارياً للسلطة الفلسطينية، سبقتها إقدام القوات النظامية على اقتحام جنين ومخيمها، وكانت شوارعها مسرحاً لمواجهة بطولية أدت إلى تدمير عدة آليات للعدو وإصابة العديد من عناصره بجراح، وهو ما يدلل أن الذي ما يقوم به العدو عبر قواته النظامية ومستوطنيه، وإن كان يروج له في تصريحات العدو وإعلامه بأنه رد على أعمال المقاومين في الأرض المحتلة على مساحة كل فلسطين، إلا أن البعد الحقيقي لهذه العمليات المنسقة هو فرض مناخ من الترهيب العام على كل مساحة الضفة الغربية لدفع سكانها إلى المغادرة والنزوح، وذلك تنفيذاً للمخطط الصهيوني الرامي إلى تهجير فلسطيني الضفة وتدمير غزة.
إن إغراق الضفة الغربية بالمستوطنات منذ تعرضها للاحتلال في الخامس من حزيران سنة ١٩٦٧، أعطى الإشارة الأولية، بأن “إسرائيل” لن تنسحب من الضفة إلى الحدود التي رسّمها قرار التقسيم وما طرأ عليه من تعديلات على الأرض بفعل إجراءات القضم التي حصلت بعد ١٥ أيار ١٩٤٨. فمنذ تلك اللحظة بدأت عملية إغراق الأرض الفلسطينية بالمستوطنات تمهيداً لتهويدها واعتبارها جزءاً لا يتجزأ مما تسميه دولة الاحتلال أرض “إسرائيل التاريخية”، وأن تدمير المسجد الأقصى الذي هو في صلب المخطط الصهيوني لزعم بأنه مبني على أنقاض ما يسمى بهيكل سليمان، بدأ تنفيذه يوم أحرق سنة ١٩٦٩، وهو يتواصل اليوم بالانتهاك المتواصل لحرمه وصولاً إلى اعتصام المستوطنين في باحاته وبرعاية القوات الأمنية الصهيونية.
إن من يعي أبعاد المشروع الصهيوني واستهدافاته لا تُخفى عنه ما ترمي إليه الحركة الصهيونية. وهي إذ تعمل على اعتماد سياسة القضم والهضم، فهذه الخطة المتدرجة للاستيلاء على كل أرض فلسطين التاريخية، لن تحد من تماديها القرارات الدولية وتلك التي تنص على منع الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، كما على حق الشعوب بمقاومة الاحتلال وحقها في تقرير المصير. ومن غرائب الأمور أن الدول التي توفر الحماية الدولية للكيان الصهيوني، تدرج أعمال العدو سواء تلك التي تنفذها القوات العسكرية والأمنية ضد المدنيين في الأرض المحتلة بالاستعمال المفرط للقوة وتتحاشى وصفها بالأعمال الإرهابية فيما تصف مقاومة الاحتلال بالإرهاب وتُسْقط أي مشروع لقرارٍ دوليٍ بإدانة الإجراءات الصهيونية ضد السكان الواقعين تحت الاحتلال.
إذاً، إن المراهنة على انسحاب العدو من الضفة الغربية إنفاذاً لقرارات دولية وان كانت مبهمة، هي مراهنة في غير محلها، لأن تكريس واقع الاحتلال للضفة الغربية لا يقتصر على ما يخطط العدو له ويعمل على تنفيذه وإن على مراحل وحسب، بل يمتد ليطال مواقف الدول التي توفر مظلة حماية دولية “لإسرائيل” وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، التي أبلغ رئيسها ليندون جونسون صيف سنة ١٩٦٧ للملك حسين، “أن الأرض تؤخذ إما بالشراء وما بالحرب، وان “إسرائيل”، أخذت الأرض بالحرب ولكل ثمنه”. ومنذ ذاك الحين وأميركا تدعم كل إجراءات “إسرائيل” لتهويد ما تم احتلاله في حزيران. وإن اعترافها بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني ونقل مقر سفارتها إليها والتسويق لما يسمى بصفقة القرن والترويج “لاتفاقات إبراهم” والتي على أساسها تمت عمليات التطبيع مع العديد من الأنظمة العربية، ما هو إلا خطوة في سياق تنفيذ استراتيجية أميركا لتأسيس نظام إقليمي تحت مسمى الشرق الأوسط الجديد.
هذا النظام يفترض أن تكون “إسرائيل” وإيران وتركيا من ركائزه. وحتى تكون هذه الدول من ركائز هذا النظام الإقليمي، يجب أن تكون العلاقات مطبّعة في ما بينها من ناحية، ومطبّعة مع كيانات المكون القومي العربي على تعدديتها من ناحية أخرى. وما يجري من اتصالات تحت الطاولة وفوقها بين هذه الدول غير العربية من جهة، وما بينها وبين دول عربية محورية من جهة ثانية، إنما تصب محصلتها في ما ُيرمى إليه من رسم معالم النظام الإقليمي الجديد. وإذا كانت الاتصالات جارية لتطبيع سوري- تركي برعاية روسية، وقبلها التطبيع السعودي- الإيراني الذي فتحت نوافذه برعاية صينية، فإن التطبيع الإسرائيلي- الإيراني يتم برعاية أميركية بدءاً من مقدماته في “إيران غيت” ومروراً “بعوفر غيت” (صفقة الفستق) وصولاً إلى ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان الصهيوني نظرياً، وبينه وإيران عملياً. وأما عن مسار التطبيع بين الكيان الصهيوني والنظام الرسمي العربي فقنواته مفتوحة على نطاق واسع وفق ما حددت آلياته اتفاقات إبراهم.
أمام هذا الواقع الذي تعيشه المنطقة العربية وما تعاني منه من إسقاطات سياسية بعد احتواء مصر واحتلال العراق وإسقاط نظامه الوطني والتدمير البنيوي الذي أصاب أكثر من ساحة عربية ووصل مشهده حالياَ إلى السودان، لم يبق إلا حالة استعصاء واحدة أمام تمهيد الأرضية الكاملة لمشروع الشرق الأوسط الجديد، ألا وهي حالة الاستعصاء الفلسطيني، حيث لا يمكن تمرير هذا المشروع إلا بحل هذا الاستعصاء، والذي لا ترى “إسرائيل” سبيلا له إلا بما تسميه الوطن البديل، الذي سبق طرحه ونظّر له إيغال ألون بعد صدور القرار ٢٤٢ بسنتين. وهذا يعني، أن لا وطن للفلسطينيين ولا دولة لهم على أرض فلسطين ومهما بلغت مساحتها، بمواصفات قرارات المجلس الوطني الفلسطيني، ولا بمواصفات ما يسمى بحل الدولتين الذي يتم تداوله في بعض المنتديات الدولية، وما تشير إليه ما يسمى بمبادرات السلام.
إن كل المقدمات ما هو مضمر منه وما هو معلن يدلل بأن “إسرائيل”، لن تنسحب من الضفة إلا إذا استشعرت أن ثمة ميزان قوى أخذ بالتبلور وقادر على تحرير فلسطين بكاملها وعندئذٍ تُقْدِم على ترك الجزء حتى لا تطرد من الكل بالقوة. وطالما أن المعطيات القائمة لا تشير إلى تبلور هكذا موازين قوى، فإن ليس ما يجبر “إسرائيل” على الانسحاب، وستبقى تعمل على تنفيذ استراتيجيتها التي لا خلاف عليها بين يمين أو يسار وبين ديني وعلماني، أو بين متطرف ومعتدل، إذ كل الصهاينة تحكمهم خلفية استئصال العرب من فلسطين والقذف بهم خارج حدودها التاريخية. وعندما تصنف “إسرائيل” دولة “أبارتهايد” أي دولة فصل عنصري، فإنها تصنف كدولة تديرها مؤسسات حكم بغض النظر عن الخلفية الفكرية والسياسية للحزب أو التحالف الحاكم.
إن قيام النظام الإقليمي الجديد، مرهونة نجاح خطواته الإجرائية بحل مسألة الاستعصاء الفلسطيني، وطالما لم تستطع “إسرائيل”، تنفيذ استراتيجيتها القائمة على أساس التهجير للضفة والتدمير لغزة، فإن حالة الاستعصاء تبقى قائمة. وهنا تكمن أهمية الصمود الفلسطيني في الداخل والتمسك بالأرض وعدم مغادرتها برغم كل الظروف الضاغطة.
إن المواجهات التي تخوضها جماهير فلسطين في مواجهة الصهاينة، قوات نظامية ومستوطنين، هو تطور نوعي في أعمال المقاومة، وهي التي تعيق عملياً تنفيذ الاستراتيجية الصهيونية بدفع الفلسطينيين خارج فلسطين، وهذا هو عنصر الرهان عل إبقاء الصراع مع العدو صراعاً مفتوحاً على الزمن. وأمام الإصرار الصهيوني على اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، والإصرار الشعبي الفلسطيني على المقاومة بكل الأشكال المتاحة والتمسك بالأرض حتى الاستشهاد، لن يكون هناك أية إمكانية لأية ترتيبات تطبيعية بين الطرفين. وعندما تنعدم احتمالات التطبيع في فلسطين المحتلة، فإن الأمر سيؤدي إلى ارتدادات عكسية على مسار التطبيع مع النظام الرسمي العربي وجعل مشروع النظام الإقليمي الجديد يتعثر بعد اصطدامه بحاجز الاستعصاء الفلسطيني.
من هنا يمكن الجزم، بأنه من فلسطين التي بدأ منها تنفيذ مشروع الهيمنة على الوطن العربي عبر فرض واقع تقسمي عليه، ينطلق منها مشروع إسقاط النظام الإقليمي الجديد الذي تخطط له دوائر النظام الاستعماري الجديد استناداً إلى عامل الاستعصاء الفلسطيني. وبتعثر خطوات هذا المشروع ستتوفر الأرضية لإطلاق دورة جديدة من النضال العربي تعيد إنتاج واقع عربي جديد يلبي الطموح العربي في الوحدة والتحرر الاجتماعي والقومي والتقدم والديموقراطية والتنمية القومية المستدامة.
إن عامل الاستعصاء الفلسطيني يبقى الأمل في الدفع نحو تفجير البنية الصهيونية والدفع باتجاه الهجرة العكسية، كما هو الأمل المرتجى في إعاقة وتعطيل تشكيل النظام الإقليمي الجديد بمتكآته الإقليمية وقيادته الاستراتيجية التي تتجسد اليوم بالمرجعية الأميركية