فلسطينمقالات

أطلال بابل ودموع ميحانة… رحلة العراق ج١ … بقلم المؤرخ الفلسطيني حسام أبو النصر

بقلم المؤرخ الفلسطيني حسام أبو النصر -رام الله -فلسطين

أطلال بابل ودموع ميحانة… رحلة العراق ج١ …
بقلم المؤرخ الفلسطيني حسام أبو النصر
 
انطلقت السيارة متجهة إلى بابل على بعد ساعة ونيف تقريبا من بغداد، كان ينتابني شعور الرهبة وتطاردني تخيلات التاريخ لهذا المكان الاسطوري، فمن عظمة بابل ذكرت في التوراة والانجيل والكتابات المقدسة، هذه الرهبة جعلتنا نتوه عدة مرات عن بوابتها، حتى وصلنا وكانت في استقبالنا بوابة عشتار المقلدة التي أمر الرئيس صدام حسين ببناءها عام ١٩٧٩، بعد أن سرقت البوابة الاصلية، ووضعت في متحف برلين بعد عام ١٨٨٩م، اصطحبنا الدليل السياحي (صباح) الذي ولد وعاش في المكان، وبدأ الحديث عن تأسيس المدينة، الذي يعود لآلاف السنين ولكن هدمت، حتى جاء الملك نبوخذ نصر ليعيد بنائها عام ٦٠٤ ق.م أي قبل ٢٦٠٠ سنة تقريبا، حين إمتد حكم بابل للبحر المتوسط، وبحر العرب، والشرق الأوسط، وعند دخولنا البوابة كانت في الواجهة خريطة العالم البابلية القديمة والتي سرقت ووضعت في المتحف البريطاني، فيما خريطة أخرى توضح امتداد بابل الذي يصل إلى ٩ كيلو متر، فيما ترقد الامبراطورية على ٤٠٠٠ دونم تقريبا ويظهر فيها برج بابل القديم الذي أصبح الان عبارة عن حفرة، حيث كان يبلغ ارتفاعه ٩١ متر، وقد مرت على المملكة ١١ اسرة بدأت في ١٨٩٤ ق.م، ولها سور خارجي على امتداد ١٦ كيلو، بدأنا نسير على طريق المجاور لشارع الملك المرصوف بالبلاط الكلسي الابيض والذي يصل طوله ٩٠٠ متر تقريبا، يحتوي على بعض النقوش المسمارية فيما هناك طريقين آخرين لعامة الناس، وللنساء، فقد بنيت بابل على مرحلتين، المرحلة الاولى غمرتها مياه النهر فغرقت، وهي مدفونة على عمق ٩ متر يظهر أقواسها وحجارتها المدفونة للعيان، ثم أعاد بناءها نبوخذ نصر ورفع أسوارها فيما بعد، وخلال مسيرنا لاحظت على الجدران صور الالهة، ومنهم مردوخ الاسطوري الذي جاء على شكل رأس تنين، وذيل أفعى، وجسم سمكة، ومخالب عقرب، ونقش آخر يجسد إله المطر والرعد والخصوبة، فيما تتزين الجداريات بوردة البابونج التي كانت واضحة على بوابة عشتار، التي استخدموا فيها اللون الازرق الذي يعكس لون السماء، والمياه، والعاكسة للضوء، وأيضا من أبرز المعالم، الأسد واكيش ومعه ١٢٠ اسد آخر يزينون القصر، كان البلاط في شارع الموكب الملكي يحمل اللون الابيض كدليل على صفاء القلوب، وحجمه متر في متر ، وفي الممرات الأخرى، كان يحمل اللون الأحمر والأزرق، وقد تعرض لعمليات نهب بما يحمله من كتابات مسمارية، هو نفسه شارع الموكب الذي كان يشهد احتفالات رأس السنة البابلية، من أول نيسان حتى ١٢ نيسان، تقام فيه الطقوس إلى أن يتوج ملك بابل، علما بأن القصر الجنوبي للملك يرقد على ٥٧ الف متر مربع، يضم ٦٠٠ غرفة، على الجانبين، الأيمن والأيسر، فيما بواباته الرئيسية أخذت شكل الانحراف، وذلك لإصابة الأعداء عند محاولات إقتحامه، فتصيبهم السهام في القلب، كما يمنع وصول الأمطار والرياح واختراقها، يضم القصر ٢٥ بئر وأماكن لخزن الحبوب، وعلى يمين القصر يقع معبد (ننماه)، أي معبد السيدة العظيمة، أعاد بناءه نبوخذ نصر، والذي كان اوجه في الفترة الآشورية، وطبعا هدم كثيرا من القصر، لنجد أن جزء من البناء الحالي هو تدخل حديث أمر به الرئيس صدام ليعيد شكله القديم، وطبعا هذا كان مخالفا لطبيعة المكان الاثرية، فأصبح النصف الأعلى من الاسوار حديثا، فيما الجزء الاسفل يمثل زمن نبوخذ نصر، بل ونلاحظ بين كل ١٠ امتار تقريبا هناك نقش حديث يوضح تاريخ تحديثات المرحوم صدام حسين للمكان، وهذا الاجراء عطل اعتماد الموقع الاثري لسنوات ضمن لوائح اليونسكو، فيما لاحظت بين القصرين الجنوبي والشمالي مسافة تفصلهما، يقع فيها أسد بابل حارس المدينة، الذي عثر عليه أثناء عمليات التنقيب عام ١٧٧٦م، والذي نقش من صخر البازلت الأسود، وبناءه كان يدل على هيبة وعظمة المدينة، وانفه مكسور في العهد العثماني دلالة على كسر قوة بابل بالنسبة لهم، استمريت بالمسير على بقايا الطريق متجها إلى القصر الشمالي الذي يضم عرش الملك، مررت من بقايا آثرية منقوش عليها عبارات مستشرقين عبروا من المكان قبل أكثر من قرن، وهناك ظهرت لي بقايا قوس باب قديم يظهر خلفه قصر المرحوم صدام حسين الذي شيده على أعلى تلة في بابل ليبقى شاهدا على زمن حكمه. كان الوصول للقصر الشمالي من خلال متاهات يضيع فيها العدو لو حاول اقتحامه، فيما يضم مخازن للحبوب عالية البناء مظلمة للغاية، يسكنها الان الخفافيش، وداخل المتاهات والسراديب، بئر رئيسي، فيما كانت الاساطير تقول أن المكان مليء بالشياطين والأفاعي التي تحمي المكان، بالتأكيد لم أرى الشياطين، لكن الافاعي تزحف من بعيد، لذلك قررنا المغادرة قبل مغيب الشمس، وفي طريق العودة على بعد كيلومترات، طلبت من السائق ابا شهد أن أرى نهر الفرات الذي يمر من الحلة وكان أيضا له مسار قديم بإتجاه بابل واندثر، ومع أول مدخل لجسر المسيب نزلت متجها إلى ضفة النهر اترقب غروب الشمس، وكأنها نفس اللحظة ونفس المكان التي غنت فيها البنت العاشقة لحبيبها (عبدالله) حين فقدته في أحد أيام المسيب الحزينة، كانت في انتظاره ليغني لها كما كل يوم، فظهر قاربه من بعيد دونه، فإنفطر قلبها، وبدأت تغني مخاطبة صديقتها ميحانة، تقول لها: “ميحانة ميحانة غابت شمسنا والحلو ما جانا”، لترثي حبيبها المفقود، عادت بي الذاكرة للأغنية وكأني أراها أمامي، فرثيت نهر الفرات الذي عانى الجفاف بعد فقدان هذه الذاكرة الجميلة، ولكن ما يواسينا أن أصبحت الأغنية من التراث الشعبي العراقي ليشدوها ناظم الغزالي لكل عاشق وحبيب، وتظل شاهدا على قصة حب ملأت العراق والمعمورة، غابت الشمس، فقال أبا شهد: حان وقت الرحيل إلى بغداد، ودعت الحلة وبابل عائدا ومحملا بذكريات التاريخ وحكايات العراق، أحكيها لكم في الأيام القادمة.
المصدر -الحياة الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب