مقالات

لبنان القضاء وشاحنات القدر / بقلم صبحي حديدي

 

لبنان القضاء وشاحنات القدر

صبحي حديدي

أقدار اللبنانيين أعربت عن بعض عجائبها مؤخراً من خلال واقعة الشاحنة المحمّلة بذخائر «حزب الله»، وتكشفت على نحو دراماتيكي تعجز المصادفات عن اجتراحه: الشاحنة انقلبت في منطقة الكحالة، التي لا تفتقر إلى المخزون الرمزي المسيحي؛ وخلال المناوشات، بين الأهالي ومرافقي الشاحنة، سقط قتيل أوّل مقرّب من «التيار الوطني الحر»، حليف الحزب الوحيد داخل الصفّ المسيحي؛ وسقط قتيل ثانٍ، من أفراد الحزب.
لا حاجة، في صدد كهذا، إلى استعادة أية جزئية رمزية تخصّ الجيش اللبناني أو مخابراته أو مفارز التحقيق الجنائي المرتبطة به، فالسيناريو معروف متكرر كلاسيكي لجهة تجرّد هذا الجيش من أي، وغالباً: كلّ، صلاحية قرينة بأدواره الأمنية والعسكرية؛ ما دام الأمر يتصل بسلاح «حزب الله»، أو حتى بعربدة بعض عناصره في ميادين الاغتيالات الفردية واستهداف النشطاء، والدوس على القانون بالأقدام تارة أو بالأعلام الصفراء/ الخضراء تارة أخرى. وليس هذا لأنّ رمز سيادة لبنان وصلت طلائعه بعد نحو 3 ساعات من وقوع الواقعة، بل أساساً لأنّ مجرّد الركون إلى الرمزية هنا يصبح أقرب إلى اقتراح مشهد لا يُضحك، في مسرح كوميديا السلوك.
طريف إلى هذا أن يجنح كبير كبار التيار، الرئيس السابق ميشيل عون، إلى الحكمة والتهدئة والتعقل، فيُرجع الواقعة إلى قوى عليا فوق إرادة البشر، محذراً من تحويل الشاحنة المنقلبة إلى فتنة: «شاء القضاء والقدر أن تقع حادثة الأمس في الكحالة، وتطوّرت تداعياتها، وكاد التحريض والاستثمار أن يجعلا منها مدخلاً لفتنة نعرف كيف تبدأ ولا نعرف كيف تنتهي». والعاجل المطلوب، في نظره، هو «التهدئة بدل التحريض، ومدّ جسور الثقة بدل بثّ سموم الكراهية». غير أنّ البيان الرسمي الذي أصدره التيار لم يستطع تجاهل احتقان أهالي الكحالة، فاعتبر الواقعة «جرس إنذار للخطر المحدق بدولة تتحلّل ومجتمع يتشنّج»، محملاً حليفه مسؤولية «قصور» تسبب في سقوط ابن الكحالة المسيحي.
ليس أقلّ طرافة أنّ الحزب، عبر بيان أصدرته «كتلة الوفاء للمقاومة» دون سواها، عزف من جانبه الأنغام المعتادة ذاتها بصدد «موتورين ينتمون إلى ميليشيا مسلّحة» ارتكبوا «اعتداء موصوفاً»، هو «نتاج التحريض والتعبئة الغبيّة والحاقدة التي تشكّل مادّة فتنويّة». وهذا نحت جديد نسبياً، يبتعد في كثير أو قليل عن مفردة الفتنة كما استخدمها عون، ولكنه يقترب (كثيراً، هذه المرّة!) من تحميل التيار الحليف مسؤولية ضبط أنصاره بعيداً عن تأثيرات قوى مسيحية أخرى تتقصد الفتنة. وأمّا اللافتة التي احتشد خلفها جمهور الحزب، فإنها قالت «السلاح دفاعاً عن السلاح»؛ وبذلك انتفت الحاجة إلى تبيان سبب توجّه شاحنة السلاح إلى بيروت، وعفّت عن التذكير بغزوة الحزب في العاصمة يوم 7 أيار (مايو) 2008.
«الدولة»، أياً كان المعنى الملموس أو الغائم الذي تبقى من وجودها، تنتقل من شغور إلى آخر، في تعاقب خالٍ حتى من العواقب الإدارية أو البيروقراطية: لا رئيس جمهورية، منذ تسعة أشهر؛ وحكومة تصريف أعمال، عمرها 14 شهراً؛ وحاكم مصرف مركزي يغادر إلى التقاعد، بعد أن أبلى أحسن البلاء في خسران العملة الوطنية أكثر من 90% من قيمتها؛ وقائد للجيش، ينتظر مغادرة مقرّه مطلع السنة المقبلة، وتسمية خَلَفه دونها خرط القتاد. وحين استغرقت «الدولة» ثلاث ساعات قبل الوصول إلى موقع انقلاب الشاحنة، فلأنها لا تصمت عن سلاح «حزب الله» إلا لأنّ الحزب لا يصمت على فساد أركانها فحسب، بل هو شريك مشترك فيه أيضاً.
وتبقى ماثلة سطوةُ البُعد المأساوي في تزامن الأقدار والمصادفات، كأنْ تحلّ ذكرى مرور ثلاث سنوات على جريمة انفجار مرفأ بيروت (أكثر من 220 ضحية وآلاف الجرحى)؛ ولا حياة لمَن تنادي في علاقة «الدولة» العتيدة إياها بأية محاسبة أو قضاء، أو حتى… قدر!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب