الكاتب والناقد
بقلم أ.د.محمد عبد العزيز ربيع
ينقسم القُراء عامة إلى نوعين: نوع يبحث عن شيء جديد يتعلمه وربما يشكل تحديا لعقله، ويفرض عليه أن يعيد النظر فيما لديه من قناعات قد يكون معظمها قد تقادم بفعل الزمن وانتهت صلاحيته، أو كان خاطئا أو مزيفا منذ البداية؛ وهذا من شأنه أن يساعد القارئ هذا على تعلم شيء مفيد قد يسهم في تغيير القليل أو الكثير من مواقفه وقناعاته. أما النوع الثاني من القراء، فيبحث فيما يقرأ عن معلومات وآراء تعزز ما لديه من قناعات ومعتقدات وتقاليد ومعلومات، علما بأن كثيرها أو قليلها كان قد تكوَّن في مراحل الوعي الأولى حين كان صاحبها لا يملك الحد الأدنى من القدرة على التحليل العلمي لاختبار مدى توافقها مع العقل والمنطق والواقع؛ الأمر الذي يجعل هذا القارئ يهدر وقته لأنه لن يتعلم شيئا يساعده على تطوير فكره ومواقفه وقيمه. وفيما يتواجد القارئ الأول في المجتمعات الصناعية والمعرفية بكثرة، إلا أنه يغيب غيابا يكاد يكون كليا عن المجتمعات العربية عامة، والفئات العقائدية خاصة.
القراءة النقدية التي توصف بكونها علمية عليها أن تنظر لكل نص فكري أو أدبي من ثلاث زوايا مختلفة: الأولى إبراز ما هو ايجابي وجديد في النص من معلومات وأفكار وطرق في طرح الافكار المعنية، وشرح الأسباب والنتائج المترتبة عليها. والثانية، تحديد مدى النقص في المعلومات الواردة في النص، والأخطاء التي قد يكون الكاتب قد وقع فيها لعدم قدرته على شرح ما في نصه من أفكار ومعلومات للقارئ، وقيام الناقد في ضوء ذلك بشرح الأسباب التي يرى أنها مسؤولة عن النقص أو الخطأ. والثالثة، هي النظر إلى ما جاء في النص من فكر وتحليل بوصفه رأيا يحتمل الصواب والخطأ، مع إبداء الأسباب والتبعات وترجيح كفة على أخرى. أما التوقف عند التشكيك في المعلومات والآراء المطروحة في النص، أو التهجم على كاتب النص والتشكيك في أمانته العلمية أو الوطنية أو الأخلاقية، فليس نقدا، وإنما عيبا في الناقد يعكس ضحالة في الفكر، وعجزا في القدرة على النظر إلى النص بصورة علمية؛ الأمر الذي يجعل الناقد هذا يتصرف كما يتصرف كل جاهل مستبد في عالمنا العربي الذي يكاد يغرق حتى أذنيه في مستنقع التخلف والتفاهة الفكرية والبلادة العقلية.
وعلى صعيد آخر، يمكن القول أن أعظم تحد يواجهه الإنسان في حياته هو التحدي مع الذات، النابع من الذات بغرض نقد الذات واصلاحها؛ وهذا موقف يعكس شكا في صلاحية المخزون الثقافي بوجه عام، ووعيا بضرورة مراجعته بين الحين والآخر، خاصة بعد تبدل معطيات الحياة وتكاثرت تحدياتها تزايدها تعقيدا. وهذا أمر لا يحدث في العادة إلا نادرا حين يمتلك الإنسان المعني ما يكفي من المعرفة العلمية والأمانة الأخلاقية والجرأة للاعتراف بخلل بعض ما لديه من أفكار وآراء ومعلومات، ويكون لديه الشجاعة لإعادة النظر في مخزونه المعرفي وقناعاته الايمانية وتقاليده الثقافية والاجتماعية. التحدي مع الذات هو الأكثر تأثيرا في حياة الإنسان، لأنه القوة الوحيدة القادرة على تحرير الإنسان من مكبلات الماضي والتراث والتقاليد والخرافات وكل ما يكبل يديه ويشل عقله من شعارات غوغائية وحتميات، وتعزيز امكاناته العقلية على اتخاذ القرارات المصيرية دون معاناة نفسية أو تعذيب من ضمير صحا بعد نوم طويل. فقبول التحدي مع الذات لا يأتي نتيجة لضغوط خارجية عقائدية أو سياسية، وإنما يأتي نتيجة لشك في قناعات ذاتية تشكلت في ظل ظروف تجاوزها الزمن أو بسبب أزمات طارئة جعلت المواقف والقناعات بمثابة ردود أفعال عاطفية، وليس أفعال خضعت للعلم والفكر والتجربة الإنسانية.
بينما كانت هزيمة 1967 تتضح معالمها ساعة بعد ساعة على أنها هزيمة حضارية شاملة لم تستثني وجها واحدا من أوجه الحياة العربية، كنت طالبا في جامعة هيوستن في ولاية تكساس. نتيجة لذلك قررت أن لا أتكلم مع عربي لمدة أسبوعين على الأقل، قضيتها في التأمل والتفكير وإعادة النظر فيما كان لدي من قناعات فكرية مترسخة، وإيمان بحتميات دينية وتاريخية تراكمت عبر نحو 15 سنة من الدراسة في مدارس وجامعات عربية، إضافة إلى النشاطات الطلابية والحوارات الفكرية. وبعد مرور نحو 10 أيام قضيتها في التجوال في الغابات وحيدا مع الطبيعة والحيوانات البرية والطيور، بدأت أستعيد تجربة حياتي شيئا فشيئا من الطفولة حتى ذلك اليوم، وكأنها شريط سينمائي يمر أمام عيني فيما أجلس في مقعد مريح أشاهدها مبهورا بما أرى. خرجت بعدها بجملة واحدة واضحة كشمس الظهيرة: “لو لم يكن كل ما آمنا به خطأ لما حدث ما حدث”.
ومن هناك كان علي أن أبدأ رحلة جديدة مع الفكر والعلم والوعي والحياة تتجاوز الماضي بكل ترسباته الاجتماعية والثقافية والفكرية والسلوكية؛ الأمر الذي أوصلني إلى ما أنا عليه اليوم من علم ووعي ومواقف وقناعات لا تتوقف أمام شعارات غوغائية أو ايديولوجيات مهما كانت طبيعتها وأهدافها. وفي الطريق إلى هذه النقطة، اكتشفت أنه كان علي أن استخدم أربعة معايير للحكم على مدى صحة كل حدث وفكر ورأي: العلم أولا، والعقل أو المنطق ثانيا، والتجربة الإنسانية ثالثا، ومنطق الأشياء رابعا. وبناء على ذلك قمت بمراجعة كل ما كان لدي من مخزون فكري وثقافي ومعلوماتي وإيماني ديني وغير ديني؛ الأمر الذي مكنني من تصحيح العديد من الأخطاء، وتحديث معظم المعلومات، وتطوير الأفكار والمواقف الأساسية، وإعادة ترتيب الاهداف والأولويات. نعم، لقد كانت رحلة المراجعة صعبة ومرهقة ومخيفة أحيانا، لكنها كانت قارب النجاة الذي أنقذني من غوغائية الشعارات والمهاترات الفكرية والقيود الايديولوجية والخرافات والأساطير التي تقتل الروح قبل أن تقتل الجسد. وما دام أنه كان باستطاعتي ان أفعل هذا وأنا مازلت طالبا، فإن بإمكان كل إنسان متعلم أن يفعل الشيء نفسه، ويصل إلى النتائج نفسها، لكن عليه أن يتحلى أولا بالجرأة، وثانيا بالأمانة مع النفس ومع غيره من الناس في الوقت نفسه.
بروفسور محمد عبد العزيز ربيع