ثقافة وفنون

نعيمه عبد الجواد تكتب / وللضحك ألوان برَّاقة حتى في العتمة

وللضحك ألوان برَّاقة حتى في العتمة

 

نعيمة عبد الجواد

٭‭ ‬أكاديمية‭ ‬مصرية

في القرن السادس عشر، إبان عصر النهضة في بريطانيا، كتب الكاتب المسرحي كريستوفر مارلو Christopher Marlowe (1564-1593) رائعته «دكتور فاوست» Doctor Faustus التي اكتسبت شهرتها لكونها عملا تراجيديا شديد الجديَّة، يغلب عليه الطابع الديني، لكنه في الوقت نفسه شديد الثورية. أمَّا الغريب فهو أن المسرحية تخيِّم على أحداثها الكوميديا، على الرغم من أنها تدور حول أرواح معذَّبة من الإنس والشياطين.
واستطاع الكاتب اجتذاب الجمهور ليس فقط بحبكة وحوار وخيال فريد، بل بإرغامهم على التعاطف حتى مع العاصين؛ وأيضا لومهم على اقتراف المعاصي. ومن أشهر الجمل الحوارية في المسرحية التي تواترت وتناقلت عبر الحضارات المختلفة، هي تلك التي صرَّح بها أحد كبار الشياطين «ميفيستوفيليس» Mephistophilis حينما قال: «ما يبث الرَّاحة في قلوب التعساء هو صحبة أشباههم»، وتم تحوير هذه الجملة إلى أن أصبحت مثلا إنكليزيا دارجا ترجمته: «التعاسة تعشق الصحبة».
وفيما يبدو أن الكاتب إبراهيم أصلان (1935-2012) سار على الدرب نفسه في إبداعه الروائي الذي يدور حول المهمَّشين التعساء، الذين يعيشون خارج حدود المكان، دون علم أحدهم شيئا عن تفاصيل حياتهم البائسة، إلى أن كشف النقاب عنها في رواياته ذات الطابع الثوري الفريد المُثير للجدل. وما يثير الدهشة هو أسلوبه الساخر الذي يُجبر القارئ على الضحك حتى الثمالة، رغم أنه يروي حكايات أشخاص تصيبهم الحياة الاجتماعية والحالة النفسية والمكانة الاجتماعية بتعاسة قصوى. ويجب الأخذ في الاعتبار أن أعمال إبراهيم أصلان لا تنتمي إلى فصيل «الواقعية القذرة»، بل هي أعمال تنقل الواقع وتنتقده مع الاحتفاظ بروح الشخصية المصرية التي تعتمد على السخرية من مآسيها، وتحويل الأحزان إلى مواقف كوميدية.
واستطاع أصلان الغوص في أعماق شخصياته وتقديمها بصورة لا يختلف عليها أي فرد؛ لأنه نفسه جزء من واقع المهمشين المهملين في الفناء الخلفي من المجتمع، والمعزولين عنه بأسوار عالية سميكة شيَّدها التباين الاجتماعي والثقافي، الذي بدوره عمل على اختلاف منظور المهمشين لطبيعة الأفعال وطريقة الحياة عن هؤلاء الذين يعيشون داخل حدود المجتمع النظامي. وتأتي مصداقية إبراهيم أصلان من كونه أحد سكَّان المناطق المهمشة، وبالتحديد حي «الكيت كات» في منطقة إمبابة؛ حيث نشأ وتربى، بعد أن نزحت أسرته إلى القاهرة من قرية «شبشير الحصَّة» في محافظة طنطا. وكان لعمله «بوسطجيا» الفضل في التمعُّن جعله في عالم المهمشين ومشكلاته ودفعه لتأليف مجموعته القصصية الأولى «بحيرة المساء». وعندما اتخذ وظيفة ثابتة في مكتب البريد، كتب مجموعته القصصية الثانية «وردية ليل». ومن الجدير بالذكر، أن إبداع إبراهيم أصلان نادر، ويأتي على فترات متقطعة، لكنها تلقى ترحيبا واسعا واحتفاء جماهيريا وأدبيا. ويجب الأخذ في الاعتبار أن لمكان مولده في طنطا، ومكان نشأته في حي الكيت كات في إمبابة حضورا واسعا في جميع أعماله، ولربما كانت السبب في لفت الأنظار إلى إبداعه؛ حيث أنه قدَّم في فترة الستينيات نموذجا اجتماعيا مغايرا لم يألفه سكَّان أحياء القاهرة، ولهذا كانت أعماله ثورة على تقاليد الكتابة السائدة في ذاك العصر.

«مالك الحزين» هي بوتقة لألوان من الضحك الأسود والأبيض والرمادي، ولكل منهم وجوده الخاص في حياة التعساء من المهمشين أو من هم دونهم؛ فالكل شركاء في الهم والضحك.

وتأنِّي «أصلان» في الكتابة جعله ينتظر عشر سنوات (1972-1981) حتى ينتهي من كتابة أولى رواياته «مالك الحزين»، وقد قضى تلك السنوات العشر في ملاحظة ودراسة شخصيات تحيط به عن كثب، فكتب عنها وعن واقعها، لدرجة أن الرواية تحتوي على 90 شخصية، واستطاع ببراعة فائقة رسم ملامح كل شخصية بشكل عميق، والعجيب كانت قدرته على طبع كل شخصية على ذاكرة القارئ، وجعلِ كل منها بطلا. فالبطل الرئيسي في «مالك الحزين» المكان؛ حي «الكيت كات»، الذي أخرجه إلى النور بعد كبوته الاجتماعية والثقافية. فقد كان حي الكيت كات في الماضي بقعة يرتادها الملوك وعِليَة القوم، إلى أن أصبح بقعةً الفقر والبؤس روَّادها. وواصل أصلان ثورته على الواقع وتقاليد الكتابة الروائية عندما جعل الأحداث تدور في يومين فقط، دون الالتزام بحبكة واحدة وأسلوب روائي واحد؛ فالعالم المتكامل الذي صوَّره «أصلان» في نص روائي قصير (نوفيلا) شخصياته المتباينة تقتضي تعدد الأساليب الروائية. ولهذا، نأى بنفسه عن تنميق الكلمات، وآثر الاقتصاد في الوصف والجمل الحوارية؛ وكأنه يؤكِّد أن المهمَّش يجب عليه أن يعبِّر عن نفسه بجمل مقتضبة حتى يجذب انتباه من لا يمرّ بظروفه البائسة نفسها، فأهل السعادة أو من ينعمون بحياة كريمة لا يمكن لهم فهم ما يقاسيه التعساء.
رواية «مالك الحزين» عمل أدبي استثنائي في الرواية المصرية، شكلا ومضمونا. وشخصيات الرواية وجودهم لا يخدم النص الأدبي، بل إن النصّ الأدبي هو في خدمة إبراز وجودهم حينما يتوارون بتلقائية عن الأحداث عند ممارسة حياتهم اليومية. ومن ثمَّ، لم يحاول تنميق الشخصيات أو إضفاء لمحة جمالية على سلوكهم أو لغتهم، حتى ألقاب الشخصيات كانت واقعية: «سيد طلب المسخرة، ورمضان الفطاطري الهايف، والأسطى سيد الإنكليزي، ومجاهد بائع الفول، والهرم بائع الكيف». وقد حازت رواية «مالك الحزين» إعجاب النخبة وجمهور القرَّاء، وتم إدراجها ضمن أفضل مئة رواية في الأدب العربي.
ولمَّا تلقَّفت السينما المصرية هذا العمل الغني في فيلم أخرجه داوود عبد السيِّد، تحت اسم «الكيت كات»، عام 1991، حقق الفيلم أيضا نجاحا جماهيريا واسعا على الساحة المصرية والعربية، علما بأن الرواية كانت تركِّز على شخصية «يوسف النجَّار»، ذاك الشاب الجامعي الذي أصبح مثل حي الكيت كات؛ فعلى الرغم من كونه مثقَّفا، هو غريب عن مجتمع الشباب الجامعي، وحبيس حي إمبابة الذي يعيش فيه حياة من الوحدة والحزن. أمَّا الفيلم، فركَّز على شخصية والده، الذي حكايته واحدة ضمن أخريات عدَّة. وكما جعل أصلان من البؤس والسخرية من قسوة الحياة رابطا قويا بين أبطال العمل، جعل من الفكاهة والكوميديا مغناطيسا. وتباينت ألوان الكوميديا والضحك بين الأسود والرمادي والأبيض. ففي المواقف شديدة القسوة الطاغية على الرواية، كانت الكوميديا سوداء، يضحك فيها القارئ وقلبه يذرف الدمع. وكانت رمادية في المواقف التي تثير الدهشة كما في حكايات وأفعال «الهرم بائع الكيف» ومغامراته في التهرُّب من الشرطة. أمَّا الكوميديا البيضاء الصافية فهي تعبِّر عن مواقف خفيفة مثل سرقة رأس العجل من «الأسطى سيد الإنكليزي» في الأوتوبيس، وكشف «الشيخ حسني» أسرار أهل الحي في الميكرفون إبَّان العزاء، وغيرها من المواقف، مع الأخذ في الاعتبار أن جميعها بائسة.
«مالك الحزين» هي بوتقة لألوان من الضحك الأسود والأبيض والرمادي، ولكل منهم وجوده الخاص في حياة التعساء من المهمشين أو من هم دونهم؛ فالكل شركاء في الهم والضحك.

كاتبة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب