مقالات

العولمة بين المثالية والواقعية.د. سالم سرية :أكاديمي وكاتب (فلسطين)

د. سالم سرية :أكاديمي وكاتب (فلسطين)

العولمة بين المثالية والواقعية

د. سالم سرية :أكاديمي وكاتب (فلسطين)

 

لقد جرفت العولمة الكثير من المفكرين بحيث ركزوا على جوانبها الإيجابية وسوقوا مفهوها المثالي الذي تطرحه امريكا عبر مفكريها ومؤلفاتهم لغرض جذب الأخرين اليها دون تردد .

الجانب المثالي : ان العولمة في مفهومها المثالي المغري والبراق هي بناء عالم واحد موحد لا قيمة ولا معنى للخصوصيات الوطنية والقومية ولا للحدود ألجغرافية فيه وأساس هذا الوحدة العالمية هو توحيد المعايير الكونية لحقوق الإنسان ومحاربة المخدرات ومحاربة الإرهاب الذي تعولم ومحاربة التجارة بالبشر والقضاء على الديكتاتوريات الوطنية واعطاء المرأة حقوقها من خلال منظمات اقليمية ودولية والغاء عقوبة الإعدام في الدول من خلال تشريعات خاصة بذلك أي بكلمة واحدة تعزيز الروابط الانسانية بين الشعوب .، وتحرير العلاقات الدولية، والسياسية والاقتصادية من كل القيود، وتقريب الثقافات وتمازجها عبر كل وسائل الملتيميديا ، ونشر المعلومات والافكار بلا حدود عبر الثورة الرقمية ، وتشجيع عالمية الانتاج المتبادل حيث يمكن الاستفادة من اليد العاملة في الدول النامية والاستفادة من المواد الخام فيها بدل نقلها للدول المصنعه ، وانتشار التقدم التكنولوجي ، وعالمية الإعلام. ومن يفتح صفحة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على الانترنت يلاحظ المثالية المفرطة لمبررات وجودهما . فكل منهما مجرد بنك تسليف احدهما يعطي قروض قريبة الأجل والأخر بعيدة الأجل للدول لغرض مساعدتها .وهذا الطرح المثالي يبدوا مغريا ومشوقا في ظاهره.وهذا المفهوم لا يمكن أن يتم إلا بين القوى المتكافئة سياسيا واقتصاديا وثقافيا، بحيث لا يستطيع طرف فرض التغيير على الطرف الآخر، وبذلك يسير التغيير في اتجاهين بدلا من اتجاه واحد. ولكن شتان بين المثالية والواقع.

الجانب الواقعي : أما العولمة ـ كما هي مطبقة في عالم الواقع ـ فهي عملية إلحاقية انتقائية استعبادية تجعل الدول النامية عربة في القطار الذي تقوده امريكا ومعها الدول السبع الصناعية الكبار في العالم .كما انها تقسم العالم إلى عالمين : عالم القوى الكبرى ذات المصالح المتبادلة، والمؤسسات العالمية ، والشركات الصناعية والتجارية والإعلامية العملاقة ، وعالم الدول النامية أو الضعيفة . والعالم الثاني عليه أن يقبل دور التابع للعالم الأول ويبقى مسلوب الإرادة، وحتى طاقاته التكنولوجية القليلة التي طورت بشق الأنفس يتم استنزافها والاستيلاء عليها بواسطة دول العالم الأول .

ان العولمة لها اوجه عديدة ومتداخلة مع بعضها البعض سنذكر بعضها ادناه :

1-العولمة ألاقتصاديه : وتعني فيما تعنيه إقصاء المستضعفين نهائيا عن أي مشاركة في ميادين التنافس لانهم اصلا لا يمتلكون مقومات التنافس لا من حيث الرأسمال ولا من حيث امتلاكهم لتقنية الإنتاج فهم مستوردون ومستهلكون بالمقام الاول والأخير.كما ان اذرع العولمة الاقتصادية(البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية ) لا تقدم أي قرض لأي دولة الا بشروط مذلة ومجحفة عدا عن الفوائد وفوائد الفوائد المطلوب دفعها في توقيتات معينة .ومن هذه الشروط تحطيم القطاع العام في مؤسسات الدولة وفرض الخصخصة بحجة تخفيف العبء عن الدولة.او رفع اسعار الخبز او تخفيض عدد موظفي الدولة….الخ وهكذا يتم تعرية نفوذ الدولة وسيطرتها على اقتصادها ولقمة عيش افرادها خطوة بخطوة . وهذا ما جعل كل الدول العربية الغير نفطية ترزح تحت النفوذ الامبريالي وتفقد سيادتها .ومؤخرا استدان العراق من صندوق النقد 500 مليون دولار وكان شرط الصندوق ايقاف التعيينات في دوائر الدولة لمدة خمس سنوات .بينما كان العراق في عهد النظام الوطني السابق يخلو من الخصخصة لانه كان يمتلك المال الذي يغنيه عن صندوق النقد وبالتالي كان سيد نفسه. وفي تجربة مهاتير محمد في ماليزيا عبرة للدول النامية حيث نجح في النهوض ببلده من شرنقة التخلف دون الاستعانة بقروض صندوق النقد وكذا الحال في سنغافورة ايضا. ان العولمة ألاقتصاديه تفسح المجال للشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات لكي تفرض قوانينها وأسعارها وشروطها على أصحاب الكيانات الاقتصادية الهشة من الدول الفقيرة والمطحونة دون أي اعتبار لإنسانية الإنسان فيها لانها تفرض دخول المليارات وخروجها بحرية وعندما تسحب ملياراتها بين ليلة وضحاها تنهار فورا اقتصاديات تلك الدول كما حدث مع اندونيسيا ودول جنوب شرق اسيا والنتيجة معروفة سلفا، وهي أن يبقى الضعفاء ضعفاء وفريسة لجشع الحيتان الكبار ، واقفين في انتظار الموت أو الانتحار..

2العولمة ألأخلاقية وتعني تعزيز الأنانية الفردية لان الفرد سيعتبر نفسه خارج الارتباط الوطني والقومي ومرتبط بالفضاء الإنساني الاوسع وإطلاق العنان له بلا قيود لنوازع الجنس من خلال الافلام وإدمان المجتمعات على مشاهدتها تماما كإدمان المخدرات حيث تدر هذه الصناعه مليارات الدولارات على اصحابها من جهة وتجعل الافراد غائبة عن همومها الوطنية المتنوعة.كما يتم اشاعة الفردية والحس ألغليظ والتحلل الأخلاقي للأفراد وتدمير القيم الإنسانية الباقية في نفوسهم وتدمير ألأسرة وإشاعة الشذوذ من خلال التشريعات التي تسمح بزواج المثليين واعتبار ذلك سمة حضارية يجب ان يقتدى بها .وعندما تنظر للصورة التذكارية لزوجات رؤساء الدول السبع الكبار تصاب بالدهشة لان بين الزوجات رجل مثلي مقترن برئيس وزراء للكسمبورج. بالإضافة لإشاعة الإلحاد تحت مسميات علمية لرؤية الأديان وخاصة الطعن بالدين الإسلامي وقيمه السمحاء .فصار المشاهد العربي يرى بكل وقاحة المناظرات التلفزيونيه في القنوات الفضائية المصرية واللبنانية وغيرها حول الإلحاد والعلاقات المثلية. وتعتبر بيروت ومراكش والقاهرة هي العواصم العربية الابرز (ومؤخرا القبانجي في بغداد ) التي يشاع فيها المناظرات المتلفزة والكتابات التي ’تشرح الدين الاسلامي لغرض نحره (امثال سيد قمني واسلام بحيري ويوسف زيدان ….وغيرهم .والأنكى من ذلك ان تشاهد على احدى القنوات اللبنانية الفضائية رجال ونساء يشاركون في بث النكات الجنسية الفاضحة بكل صراحة وصفاقة.حيث تم ايقافها فيما بعد نظرا للردود الساخطة من المجتمع اللبناني .

3-العولمة السياسية وتعني هيمنة المعولم ( بكسر اللام)؛ فهو صاحب ألسيادة وصاحب القول ألفصل لا راد لما يريد، ولا صوت يعلو على صوته، وهو مثل راعي القطيع عصاه جاهزة لأي شاة شاردة. فجورج بوش الابن رفع شعار من هو ليس معنا فهو ضدنا في مجلس الأمن وحرض اكثر من 30 دولة للعدوان معه على العراق مستخدما العصا والجزرة. وقبلها استخدم مجلس الامن ليفرض قوانين الحصار على العراق لمدة 12 عاما .وها هو ترامب يسير على نفس النهج في سن العقوبات على الدول او في محاصرة منظمة التحرير الفلسطينية اذا لم تنحن لصفقة القرن.

4-العولمة التكنولوجية وتعني استئثار المعولمين بالتكنولوجيا ألفائقة وبالأدوات التكنولوجية المتطورة وبالقدرة على استخدامها لتحقيق مصالحهم ،وفرض شراء الأجهزة التكنولوجية دون معرفة أسرارها على المعولَمين وفرض استخدامها في الأغراض التي تحقق مصالح الحيتان الكبيرة فقط.وفي هذا الجانب لابد من الإشارة الى ان الإنترنت وما تفرع عنها من تطبيقات ودورها في التجسس على الافراد والدول بحيث ان كل فرد يستخدم الكمبيوتر في كل الكرة الارضية له ملفه الخاص المحفوظ في بنك المعلومات عند جوجل وياهو وغيرهم من ادوات التصفح .حيث يؤرشف هذا المتصفح كل تحركات الفرد والمواقع التي دخلها وتعليقاته ومكالماته بالتفصيل .فاذا مسحها المتصفح من طرفه في جهازه فإنها لا تمسح من طرفهم وانما تبقى محفوظة في جوجل لحين الطلب .لهذا اسس الموساد وحدة الكترونية خاصة لمتابعة الافراد ومراقبتهم مما حدى برئيس الموساد للقول انه قل اعتماده كثيرا على الجواسيس الأفراد واصبحت المعلومات تتوافر لديه بغزارة عن طريق الإنترنت وهكذا الحال في كل دوائر الاستخبارات في العالم .

هذا هو موجز الموجز لبعض اشكال العولمة .لان كل حاله سبق ذكرها كتب عنها عشرات الكتب .

خلاصة القول ان العولمة هي عبارة عن تسونامي جارف بأبعاده الاقتصادية والثقافية والسياسية والعلمية والاجتماعية يخترق اقتصاديات الدول وحدودها الجغرافية رغما عنها ويتحكم بسياسات الدول المتخلفة رغم ارادتها وتتسلل ثقافتها الى عقول ونفوس الجماهير وهي راضية بذلك.ويبقى السؤال المطروح :كيف تتحصن الشعوب من شر هذا الوباء الذي يدس السم في الدسم ؟.فالجانب الايجابي من العولمة هو الدسم .على سبيل المثال شبكة الانترنت والتطبيقات المرتبطة بها كتويتر وفيس بوك وواتس اب ويوتيوب والبريد الالكتروني …..وغيرها (او الهاتف الخلوي المرتبط بالانترنت ) والتي اصبحت من الضرورات في حياتنا العلمية او العملية عدا عن كونها وسيلة اتصال وتواصل لمليارات البشر.والسم في هذا الدسم ان جوجل يخترق كل خصوصيات البشر ويؤرشفها ليس كل احاديثنا فقط وانما كل المواقع التي نتصفحها على الانترنت وكل الاماكن التي نزورها بسيارتنا بدقة متناهية .بحيث يدهش المرء عندما يرى ان الفيسبوك يعرف عنه اكثر مما يعرف عن نفسه !!!!!

والحقيقة ان هناك ثلاثة اتجاهات لمواجهة العولمة :

1الاتجاه المحافظ :وهذا الاتجاه يدعوا الى التخندق بشرنقة الدين كحصن منيع لمواجهة الجوانب السلبية للعولمة(وخاصة الجوانب الثقافية والأخلاقية والاجتماعية)ورفض العولمة بكل معطياتها حتى لو اصبح خارج ألعصر وبقي هذا الرفض نظريا وشكليا .فهذا الاتجاه عزز وجوده بعشرات الفضائيات الدينية وكثف نشاطاته الاعلامية بطرق محترفة في الشبكة العنكبوتية .

2الاتجاه المغترب :وهذا الاتجاه يدعو للانفتاح على العصر ويقبل بكل معطيات العولمه بحلوها ومرها وحتى ان فقد جذوره الوطنية والقومية.تحت عنوان اللحاق بركب التطور العلمي العالمي .

3- الاتجاه القومي : وهو الاتجاه الذي يدعو الى الانفتاح على العصر والاستفادة من كل الجوانب الايجابية للعولمة وبنفس الوقت المحافظه على الهوية الوطنية والقومية والتحصن بالوجه المشرق للتراث العربي والإسلامي كمصدات لشرور العولمة وكما قال غاندي انا مستعد لأفتح نوافذ بيتي ليطرد الهواء النقي ما بقي فيها من هواء فاسد ولكن من الغباء ان اجعل الرياح تقتلع بيتي من جذوره الأساسية .اذا مطلوب التطور والاعتماد على الذات مع المحافظة على الجذور والقيم .وهي مهمة شاقة على كل الصعد في ظل التجزئة القومية والتخلف . .

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب