مقالات

تحركات بايدن الأخيرة في الشرق الأوسط طبخة سياسية قصيرة الرؤية وبلا ملح”بقلم الدكتور رياض العيسمي

بقلم الدكتور رياض العيسمي

تحركات بايدن الأخيرة في الشرق الأوسط ليست خطة استراتيجية طويلة الأمد، وإنما “طبخة سياسية قصيرة الرؤية وبلا ملح” دافعها الاساسي الانتخابات الرئاسية
د. رياض العيسمي
هناك مثل أمريكي يقول “إذا كان يمشي مثل البط ويصوت مثل البط، فهو بط”. ويقول أرسطو في نظرية تقابل القضايا “المقدمات تدلل على النتائج”.
لا يصعب على المتابع لانتخابات الرئاسية الأمريكية الاستنتاج بأن تحركات إدارة الرئيس بايدن الأخيرة الخارجية، وخاصة في الشرق الأوسط، دافعها الأساسي هو سياسي لمحاولة الفوز بالانتخابات الرئاسية القادمة. والتي ستبدأ بالانتخابات التمهيدية في مطلع العام القادم ٢٠٢٤، أي بعد ثلاثة أشهر ونيف. وعادة عندما يكون الاقتصاد في حالة سيئة كما هو الحال اليوم، يركز المرشح المنافس حملته الانتخابية على تحسين الاقتصاد، بينما يذهب الرئيس الذي في سدة السلطة لتحقيق اختراق سياسي خارجي ينظر إليه بأنه يصب في مصلحة حماية الأمن القومي الأمريكي. ومن المتوقع أن تكون الانتخابات القادمة فريدة من نوعها في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية. بل والأغرب والأكثر عرضة للمفاجئات. وفي غياب المفاجئات حتى اللحظة، ترجح المصادر المطلعة والمتابعة على تكرار المنازلة التي وقعت في عام ٢٠٢٠ بين الرئيس الحالي جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب. واذا لم تحصل أية مفاجئات، ستكون المنازلة بين مرشحين هما الأكبر سنا في سجل المرشحين الأمريكيين للرئاسة. ومع حلول موعد الانتخابات في اول يوم ثلاثاء من شهر نوفمبر-تشرين ثاني من العام المقبل، يكون بايدن قد بلغ الثانية والثمانين، وترامب الثامنة والسبعين. واحدهما، ترامب، مدان بعدة جرائم وانتهاكات قانونية خطيرة وينتظر المثول امام المحاكم للنطق بالحكم. والثاني، بايدن، ينتظر بدء الكونغرس مداولة عزلة من الحكم بسبب الفساد عندما كان نائبا للرئيس والتستر على ابنه هنتر المتهم بحيازة الاسلحة بشكلٍ غير قانوني وتعاطي المخدرات. والرأي العام الشعبي في الولايات المتحدة بغالبيته لا يريد عودة اي منهما للرئاسة. وهو منقسم اليوم بينهما في الوسط. ولهذا كلاهما ينتظر، ليس تزايد شعبيته للفوز، وإنما انحسار شعبية الآخر. ففي الوقت الذي يركز ترامب على عمر بايدن ووضعه الصحي وتردي الاوضاع الاقتصادية ليكون هو المرشح الأفضل بالضرورة، يركز بايدن على تحقيق اختراق في السياسة الخارجية يوحي للناخب الأمريكي بالانجاز العظيم. وفي ظل تعذر تحقيق انتصار قريب على روسيا في حرب أوكرانيا أو كسب المنافسة الاستراتيجية مع الصين بالضربة القاضية، تبرز سورية والشرق الأوسط من جديد كمنطقة محتملة لتحقيق بعض الاختراقات فيها. ولهذا بدأ البنتاغون منذ فترة وبأمر من الرئيس بايدن بتهيئة مسرح العمليات في شرق سورية وعلى الحدود مع العراق. والحجة هي ضبط الحدود ومنع وصول الاسلحة الايرانية المتقدمة لحزب الله في لبنان خوفا من استخدامها لضرب اسرائيل لهدف سياسي ما تسعى إيران لتحقيقه في مفاوضاتها الدائرة منذ فترة مع الولايات المتحدة حول برنامجها النووي والافراج عن الرهائن الامريكيين المحتجزين في إيران. ولهذا من غير المتوقع، بحسب المنطق التفاوضي على الأقل، أن يفكر أي طرف بإلحاق الهزيمة النهائية بالطرف الاخر. وذلك لأن تصرف كهذا من شأنه إنهاء عملية التفاوض على الفور، وكأنها لم تبدأ. ولهذا فأن القوات العسكرية الأمريكية في المنطقة هي أداة ضغط تفاوضي لا أكثر. تنطبق عليها مقولة الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت (1901-1909): “تكلم بنعومة واحمل عصًا غليضة”. هذا عدا ان فرضية الولايات المتحدة واسرائيل تريد منع وصول ايران الى البحر الابيض المتوسط عبر ثلاثة عواصم عربية، بغداد، دمشق، وبيروت، هو غير حقيقي ويعاكس الواقع على الأرض، بل ومخالف لمنهجية التحليل الاستراتيجي. وذلك لان التغيير الديموغرافي الذي حصل في محيط هذه العواصم الثلاثة عبر التاريخ، ومؤخرا بشكل مكثف في محيط دمشق يدعونا الى الاستنتاج بعكس ذلك. كما أن هذا التغيير الديمغرافي حدث بايحاء اسرائيلي وضوء اخضر أمريكي وتنفيذ ايراني وروسي. ومن المعروف بأن الفرز الطائفي والتناحر المذهبي هو سياسة استعمارية قديمة برعت اسرائيل في استخدامها على مدى ٧٥ عام من تاريخها.
لكنه وعلى مدار العقدين الماضيين، منذ سقوط بغداد، تغير التاريخ في الشرق الأوسط وتغيرت معه الجغرافية السياسية في المنطقة. وبهذا تحول الصراع من مجرد صراع جيوسياسي الى صراع جيوستراتيجي على المناطق والموارد والموانيء. ولهذا اذا كانت الولايات المتحدة واسرائيل لا تمانع وصول ايران، وبغض النظر عمن يحكم فيها، الى بيروت عبر بغداد ودمشق من الناحية الجيوسياسية، ليس من مصلحة الطرفين الجيواستراتيجية طغيان نفوذ إيران على كامل الخارطة الجغرافية والديموغرافية لكل من العراق وسورية ولبنان. وبهذا وعلى سبيل المثال، ستعمل الولايات المتحدة جاهدة وبشراسة لمنع وصول ايران الى اللاذقية عبر الموصل وحلب. وهذا بالتأكيد تعارضه تركيا أيضا بحكم موقعها الجغرافي وانتمائها الديني المخالف لايران. كما وتعارضه روسيا التي لا تريد من يقاسمها النفوذ على الساحل السوري. ولا هو من مصلحة الولايات المتحدة أيضا أن تستطيع إيران العبور من صحراء الأنبار في العراق ومن البوكمال وعبر صحراء حمص في وسط سورية الى طرابلس في لبنان. ووفقا لمعيار الصراع الجيواستراتيجي الجديد، ليس من مصلحة الولايات المتحدة ولا إسرائيل، ولا السعودية أو الأردن، ان تسيطر ايران على جنوب سورية وتستطيع العبور منه بسهولة الى صور في جنوب لبنان.
وهذا ليس في مصلحة روسيا أيضا التي تحاول ان تحجم من النفوذ الايراني في سورية الذي يتزايد على حسابها. وتخلي روسيا عن محاولة السيطرة على الجنوب السوري قد لا يخدم مصالحها في سورية بشكل عام، لكنه يحد من قوة وسطوة منافستها إيران. ويكسبها ورقة تفاوض مع الولايات المتحدة ويعزز من موقعها في قيادة الحل في سورية في النهاية. وأما بخصوص مصلحة اسرائيل في ابعاد نفوذ ايران عن الجنوب السوري، قد يفسره تصريح لافت لكل من الرئيس الايراني ابراهيم رئيسيي الذي طالب بضرورة الحاق الكويت بالبصرة. والمغزى من هذا التصريح هو ان يتحول كل الخليج وشط العرب الى ممر مائي فارسي. وأما بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل طالب بالعكس، انضمام البصرة للكويت وبما يحول الخليج مع الشط الى ملك خليجي كامل بقيادة السعودية التي يسعى جاهدا، وبرعاية امريكية، ان يطبع معها. وهذا ينسجم مع ما سمي بالخط التجاري الهندي الاوربي والذي يصل الهند بأوروبا عبر الامارات والسعودية والاردن ووصولا الى اسرائيل. والذي تم التوقيع عليه على هامش اجتماعات قمة العشرين (G20) ال 18 في نيودلهي في الهند قبل حوالي اسبوعين. وهذا الخط برأيي لن يستطيع منافسة قناة السويس من الناحية اللوجيستية. وهو يتجاهل مصر احد اهم وأكبر دولة في الشرق الاوسط. وهي تربط اكبر قارتين، اسيا وافريقيا، يقطنهما أكثر من ثلثي سكان العالم. وكذلك يتجاهل موقع اليمن الذي يكاد يكون الموقع الجيواستراتيجي الاهم في العالم. كما ويهمل موقع تركيا الدولة القوية والمؤثرة في الشرق الاوسط وتربط قارتي اسيا وأوروبا. وكذلك يهمل العراق ولبنان، وسورية قلب الشرق الأوسط. ولهذا فإن التحركات التي تقوم بها إدارة الرئيس بايدن في الشرق الاوسط بشكل عام لا تصلح لان تكون خطة استراتيجية طويلة الامد لمجابهة الصين التي تنتظر بفارغ الصبر لملئ الفراغ الذي تحدثه الولايات المتحدة، بل هي “طبخة سياسية قصيرة الرؤية وبلا ملح”. وهدفها الاساسي هو الانتخابات الامريكية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب