مقالات

منصف الوهايبي يكتب / طوفان فلسطين: سجن سقفه السماء

طوفان فلسطين: سجن سقفه السماء

منصف الوهايبي

شاعر وناقد تونسي

منذ اغتصاب فلسطين نهايات الأربعينات، كان «الماضي الباقي» لهذه الأرض محور أعمال علميّة وأدبيّة وفنيّة شتّى، للضحايا والجلاّدين، والسياسيّين والمثقّفين والإعلاميّين وغيرهم من المنفيّين من شعراء ومفكّرين من أمثال محمود درويش وإدوارد سعيد. وكلّ هذا ساهم بطريقة أو بأخرى في إغناء مفهوم الضحيّة والجلاّد معا، حتّى في الرسوم الكاريكاتوريّة واللوحات المتميّزة، بل في إعادة طرح مفهوم التحرّر والحرّيّة من حيث الشرط الأنطولوجي للأخلاق، ورفض الجريمة؛ ودون تحويل الضحيّة إلى مجرّد «خطاب» سياسي أو قانوني، أو موضوع للشفقة والرحمة و«الإعانات» التي لا تسدّ الرمق.
يطّرد مفهوم «الضحية» عادة في الأعمال الأدبيّة أو الفنيّة (تشكيليّة وسينما) التي مدارها على الماضي المؤلم، وبخاصّة ما يتعلّق منها بالحروب والإبادة الجماعيّة. ومن ثمّة تحضر صور الضحايا الذين عانوا عواقب تلك الأحداث المروّعة. ومع ذلك، فإنّ حدّ هذا المفهوم كان ولا يزال ملتبسا كما هو الأمر في هذه «المحرقة» البشعة حيث ضحايا «الهولوكوست» من اليهود، يجهزون على ضحايا اليوم من الفلسطينيّين المدنيّين؛ فهو يثير قضايا متشابكة يتولّد بعضها من بعض، وكأنّها أحجية صينيّة أو صناديق داخل صناديق أو عنقود شجرة، يتداوله الموتى والأحياء.
وهي كلّها قضايا يتداخل فيها السياسي والديني والفلسفي، ولكلّ منها نبرة تختلف عند هذا مثلما تختلف عند ذاك، على نحو ما نلاحظ في مواقف الغربيّين من أنظمة ومن كتّاب وفنّانين ومفكّرين وإعلاميّين حيث نرى كيف يتغذّى الفكر الغربي عامّة من التقاليد الهيلينيّة أو الإغريقيّة واليهوديّة المسيحيّة بل «الصليبيّة»، بل من إرث الاستعمار؛ ما عدا أفرادا وهم في النائبات قليل، استطاعوا بجرأة متفاوتة أن يجرّدوا مسألة الضحيّة من محمولها الغربي الشوفيني؛ وإن ظلّ عند بعضهم، كباقي الوشم في طروس الفلسفة، مثل جرائم النازيّة ضدّ الإنسانيّة، أو «ما لا يغتفر»، أو ما لا يسقط بالتقادم مثل عدالة أنبل قضيّة في عالم اليوم: قضيّة فلسطين حيث إفلات إسرائيل من العقاب، صار أمر «مألوفا» بكل عجرفة أمريكيّة وغربيّة، ودون رياء.. بل هم يطلبون من الفلسطينيّين أن يتحرّروا من سلاسل الماضي وينسوا قضيّتهم وحقّهم في استرجاع أرضهم، دون أيّ تبكيت ضمير من فظاعة ما يجري في غزّة. والأغرب أنّ الجاني الإسرائيلي المأسور في الماضي مأسور في الحقد والرغبة في الانتقام؛ وفي الاحتفاظ بصورة «الضحيّة» لا الجلاّد. ويدرك أكثرنا أنّ هذا الخداع راجع إلى بنية اللغة والصورة معا، وبعضه تُحقن به هذه أو تلك من خارج بنيتها؛ بإتقان بالغ، حتى لكأنّه من البداهات. وبعضه من مكر الصورة ومكر الصوت وحتى مكر الصمت. وكنّا رأينا، وما بالعهد من قدم؛ بعين مجنّدة أمريكيّة أكداسا من اللحم العراقي الذكوري المكدّس في سجن «أبو غريب» صورة من بين صور كثيرة في التاريخ الفوتوغرافي ذي المشاهد الفظيعة والأكثر قسوة من الواقع نفسه. والفرق الوحيد أنّ غزّة «سجن سقفه السماء» والفلسطينيّين ضحايا وشهود.
وهذا وغيره لا يعفينا من السؤال: ما هي الضحية؟ وهل تكفي التعويضات الاقتصاديّة والمعنوية والجسديّة والنفسيّة، لتطمس حقّ الضحيّة؟ فيما الضحيّة الفلسطينيّة ذات وكيان، في صراع بل حرب غير متكافئة ولا هي متجانسة حيث عاشت فلسطين أكثر من معركة مع المحتلّ وهي تراوح بين المقاومة المسلّحة والمقاومة السلميّة؛ ولا هذه ولا تلك أجبرت إسرائيل على الامتثال لـ«الشرعيّة الدوليّة»، بل هي تزداد اليوم تطرّفا، واعتقادا في حسم الصراع عسكريّا؛ وأكثر وقاحة في أعمالها الإجراميّة، بمؤازرة من أمريكا والغرب، دون التفاتة تذكر إلى مطالب الضحيّة بالعدالة والاتفاقات السياسيّة؛ ما عدا الإشارة الخاطفة إلى «حلّ الدولتين» الذي صار أشبة بحبّة أسبرين أو «مسكّن» طبّي.
وقد لا أجد في السياق الذي أنا به حيث الفلسطيني المحاصر في مواطنيّته وهويّته، الذي يكاد الإعلام الغربي عامّة، لا «يسمح» له وإن في خطف كالنبض، إلاّ بالشكوى من هول المحنة، دون إصغاء؛ سوى أن أطرح ما طرحته الأمريكيّة جوديث بتلر: ما الذي يصنع الحياة؟ من أجل إعادة إنتاج الاعتراف والتمثّل؟ في هذا الغرب الذي يتنكّر لما تنصّ عليه دساتيره من ديمقراطيّة وحرّيّة تعبير واحترام لحقوق الإنسان؛ فنحن نلدغ ثانية وربّما ثالثة ورابعة، لنكتشف أنّ الإنسان في المنظور الغربي ليس متساويًا ولا حرًا، بل إنّ محاربة الضحيّة حدّ الإجهاز عليها هو واجب الجلاّد وحقّه بذريعة «الدفاع عن النفس». أمّا حقّ الضحيّة في الدفاع عن نفسها، وفي تحرير أرضها، فمسألة محظورة.
قد يكون من الصعوبة بمكان في هذه الحرب التي يمكن أن تجرّ الجميع إلى «المربّع الديني»، فصل مفهوم الضحيّة عن مرجعيّته الدينيّة، وإسرائيل تعرّف نفسها بأنّها «دولة يهوديّة ديمقراطيّة»، ويؤكّد عالم السياسة الإسرائيلي الأمريكي إيلان بيليج بحق أنّ الولاء المزدوج لـ«يهوديّة» الدولة وطابعها «الديمقراطي» كان موجودًا منذ تأسيس إسرائيل. وعند حماس فإنّ اختيار «طوفان الأقصى» عنوانا للمعركة، يعزّز أيضا هذه العلاقة، بالرغم من أنّها مقاومة للاحتلال والاستيطان. أمّا حديثا في اللغة الفرنسيّة مثلا فالضحيّة هو: «الشخص الذي هلك في حرب أو كارثة أو حادث أو قتل أو ما إلى ذلك، كائن حيّ يُقّدم كذبيحة للألوهة؛ وهو أيضا كلّ من مسّه ضرر بدني أو مادي أو معنوي».
ولا يخفى أنّ هذه المعاني هي أقرب ما تكون إلى الأبعاد الدينيّة والأخلاقيّة وما قبل القانونيّة حيث كانت السلطة القضائية حتى النصف الأوّل من القرن الماضي، تخصّ بتشريعاتها المجرمين والمتّهمين، وتكفل لهم حقوق التقاضي. وبالرغم من أنّ الضحيّة في عالم اليوم لها تشريع يخصّها من الناحية القانونيّة، فإنّ قوانين العقوبات سعت أكثر إلى حماية المجتمع من المجرمين، وإلى إيجاد سبل لإعادة إدماجهم في المجتمع؛ وأغفلت الضحيّة أو تكاد.
إنّ «طوفان فلسطين» لا يعيدنا إلى معاهدات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة فحسب، وإنّما إلى كلام حول «الأخلاق» حيث هذه وقرينتها «السياسة» مصطلحان يلوحان للوهلة الأولى متباعدين؛ بل يتعذّر التوفيق بينهما.
قد تكون الأخلاق المنشودة جزءا من الأحلام التي لم تنغمس في شبهات السياسة، ومن البحث عن مجال العيش معا. بيْد أنّها في هذا الصراع الضاري بين الجلاّد والضحيّة، تثير قدرا مشروعا من الريبة وانعدام الثقة في الغرب، وكأنّه بشتى أنظمته الليبراليّة، لا يختلف عميقا في انتصاره للجلاّد عن الأنظمة الكلّيّانيّة التي طالما ندّد بها، وحاصرها بالعقوبات. أمّا اليوم فإنّ وسائل الإعلام والصناعات التخييليّة تشكّل معا أقوى ناقل للتمثيلات الثقافيّة السياسيّة. والسؤال إذن هو سؤال مزدوج: إيهام الجلاّد في سعيه للانتقام بأنّه «الضحيّة»، وتصوير الضحيّة في صورة «الجلاّد»؛ حتّى عند الذين يصدرون عن «حسن» الطويّة في قراءة عمليّة 7 أكتوبر، فهم يقدّمونها من حيث هي مواجهة عدم اعتراف الآخر بكون الفلسطيني هو الضحيّة، ومن ثمّة هو يأخذ زمام العدالة بيديه.
أمّا إذا قُيّض لهذ الصراع أن يؤول إلى «عدالة تصالحيّة» ما في المستقبل، فهي لن تكون غير «الاستعداد للعيش» معا، بما يجعلنا نتجاوز الاختلافات في المعتقدات والمراجع؛ وإن كان يُفترض في هذه أن تخصب ثقافة المصالحة، وتذكي حيويّتها.
لكن السؤال في قضيّة فلسطين هو: هل «العدالة التصالحيّة» المنشودة عادلة؟ إذ تمّ منذ نشأة إسرائيل استبعاد الضحايا من اللاجئين الفلسطينيّين وهم بالملايين، والاقتصار على التلويح لهم بـ«حلّ الدولتين» دون أيّ مسعى جدّي لتحقيقه.
والحقّ أنّ أخطر أوجه النسيان ما في هذا الطوفان هو نسيان الضحيّة الفلسطينيّة. وعلى رأي ريس ماتي فإنّ هذا النسيان إنّما مردّه إلى أنّ فكرة العفو جوهريّة عند الإنسان المعاصر، «إذ ليس بميسوره، إذا أراد أن يمضي قُدمًا؛ وهو يواجه وضعا كارثيّا، أن ينظر إلى الخلف». ومع ذلك يسمح الغرب لنفسه بتذكيرنا بالماضي النازي والهولوكوست، ويجعل من استحضار «النكبة» والاحتلال عند الفلسطيني، مسألة محظورة. وكأنّنا اليوم في الديمقراطية اليونانيّة إبّان نشأتها، حيث تمّ التوقيع على مرسوم يلزم السكاّن بعدم تذكّر المصائب التي عاشوها. والكلمة اليونانية «أمنستيا» إنّما تعني النسيان والصفح. ولكنّنا نقول مع الشاعر «إنّ السماء تُرجّى حين تحتجب»، ونحن نرى إلى الفلسطيني وهو يأخذ بكلّ ما لديه من أجل إدارة حياته وإرادة حياته. وهذا صراع معقود في الوجدان الفلسطيني على قوّة الحياة بما هي اندفاع حيويّ، جسديّ، غريزيّ إلى الوجود. وعندئذ لا حاجز، ولا مانع، ولا معيق، ولا سدّ؛ بل طوفان وجوديّ يأخذ القدر في مجراه على نحو ما يأخذ العالم العربي في هذا الصراع العاتي الذي تختلط فيه الأوراق، ولا يتبيّن فيه الآن الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
*كاتب من تونس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب