تحقيقات وتقارير

حرب غزة والانقسام بين تيّارين غربي وعربي – إسلامي: انسداد عسكري وسياسي!

حرب غزة والانقسام بين تيّارين غربي وعربي – إسلامي: انسداد عسكري وسياسي!

رلى موفَّق

رغم كل ما يُحكى عن بداية تحوُّل غربي تجاه الدعم غير المشروط الذي مُنِح لإسرائيل، بذريعة حق الدفاع عن النفس، بعد عملية «طوفان الأقصى» التي نفّذتها حركة «حماس» في غلاف غزة يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، فإن تطورات الحرب في غزة تشي بأن لا تبدُّل عمليّاً في التوجُّه، ولا تراجع عن التفويض، بقدر ما هي محاولات تدوير زوايا في حسابات سياسية داخلية لاحتواء رأي عام غاضب، لكنها لا تُغيِّر من حقيقة الموقف الغربي العام.
أنتجت عملية «طوفان الأقصى» حرباً لا تُشبه أي حرب أخرى في المنطقة. قسَّمت العالم إلى تيارين: الأول، تيار غربيّ مسيحيّ يُناصر إسرائيل باعتبارها تُقاتل عنه في معركة تَجدَّدَ بُعدها الطائفي الذي يُعيد إلى الذاكرة أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 حيت تبنّى الغرب استراتيجية أن الإسلام السياسيّ السُّني إرهابٌ لا بدَّ من إضعافه واقتلاعه. أما التيار الثاني، فهو تيار عربي ـ إسلامي مع رأي عام متعدِّد الأجيال أعاد الاعتبار إلى القضية الفلسطينية بوصفها القضية العربية والإسلامية الأولى ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
التيار الغربي، وبعد 36 يوماً على الحرب وحجم القتل والدمار في غزة، يدفع في غالبيته باتجاه هدنات إنسانية ولا يضغط لوقف إطلاق النار. وقد عبَّرت واشنطن بوضوح، وعلى لسان أكثر من مسؤول، أنَّ وقف إطلاق النار ليس خطوة في الاتجاه الصحيح، وأنه يُعطي «حماس» فرصة لالتقاط أنفاسها. ويوفِّر الغرب مزيداً من الوقت لإسرائيل لإنجاز ردِّها العسكري، من خلال إثارة الغبار الكلامي حول ضرورة إدخال المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين واحترام القانون الدولي. فالتغيير الذي يُصيبُ الخطاب الغربي هو تغيير بسيط، قياساً بالحصار الإسرائيلي والاستهداف الكبير للمدنيين والمباني السكنية والبنى التحتية والمستشفيات التي تقول إسرائيل إن «حماس» تستخدم ما تحتها كمقرَّات لها، وتتخذ من المدنيين دروعاً بشرية.
وتبدو سياسة الغرب الأمنية جازمة بضرورة اجتثاث «حماس» وتجفيف مصادر تمويلها وملاحقتها، كمنظمة إرهابية على غرار تنظيم «داعش». ومن هنا يبرز الإلحاح على بحث مرحلة ما بعد وقف الحرب ومَن سيتولى إدارة غزة. وإذا كان الأوروبيون يظهرون قناعة أكبر في «حل الدولتين» (دولة إسرائيلية وإلى جانبها دولة فلسطينية) كمسار سياسي لا بدَّ من اعتماده كحل مستدام يضمن أمن إسرائيل ويؤمِّن تطلعات الشعب الفلسطيني، فإن الجديد الذي يمكن البناء عليه هو التأكيد الأمريكي، وآخره كان على لسان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن من نيودلهي، أن الولايات المتحدة «بدأت العمل لوضع أُسس لبناء دولتين منفصلتين» لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، على المدى الطويل، وإشارته إلى أنَّ «أحداث 7 أكتوبر» عززت اعتقادنا بضرورة وجود سلام شامل، وهو لن يتحقّق إلا بـ«حل الدولتين».
أما التيار العربي- الإسلامي، فإن القمة الطارئة الاستثنائية في الرياض حول غزة هي فرصة له لإبراز موقف موحَّد ليس فقط حيال ضرورة وقف إطلاق النار وحماية المدنيين ومنع التهجير القسري، أو البحث في مستقبل غزة، بل حيال القضية الفلسطينية برمتها بعدما استعادت مكانتها كقضية محورية للعرب والمسلمين. والأهم هو الخروج بـ«خارطة طريق» للحل السياسي بما يُنهي الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، ويفتح طريق السلام الحقيقي بين الإسرائيليين والفلسطينيين وطريق السلام الشامل في المنطقة. فالرهان على دور عربي في عالم من التجمعات والاصطفافات القطبية والسياسية والمصالح الجيوسياسية والاقتصادية والتنموية يتطلب في الدرجة الأولى سحب ورقة القضية الفلسطينية من بازار المزايدات الإقليمية وأجندات المشاريع التوسعية ومطامع تعزيز النفوذ بثوب عقائدي للتمدّد واستعادة الأحلام الإمبراطورية، وفي مقدمها المشاريع الإيرانية للجمهورية الإسلامية التي بنت وجودها على «تصدير» الثورة، واخترقت المجتمعات العربية من بوابة القضية الفلسطينية ونصرة المسجد الأقصى.
الاعتقاد السائد لدى كثير من المراقبين هو أن التفويض الغربي لإسرائيل، ولا سيما الأمريكي، لا يمكن أن يبقى من دون سقف زمني، وبالتالي فإن الوصول إلى هدنة إنسانية، ولو لأيام محدودة، أضحى أمراً ضرورياً، وهو ما يدفع الجيش الإسرائيلي إلى مواصلة سياسة «الأرض المحروقة» في الشمال، وتكثيف الغارات على وسط القطاع ومدينة غزة، وتشديد الحصار ومنع مقومات الحياة من دواء واستشفاء ومياه وكهرباء واتصالات من أجل الضغط على «حماس» في ملف الأسرى الإسرائيليين، وهو الملف الذي يتمُّ الحديث عن أنه يُحقِّق اختراقات حقيقية، ولا سيما في ظل الحركة المكثفة الأمريكية ـ الإسرائيلية ـ القطرية – المصرية التي تشهدها تلك العواصم، من أجل الخروج بإنجاز ما على مستوى المحتجزين المدنيين من مزدوجي الجنسية من نساء وأطفال موجودين لدى «حماس»، في مقابل إطلاق سراح أسيرات فلسطينيات من السجون الإسرائيلية.
ما يُقلق كثير من المتابعين للحرب الراهنة هو أنَّ الأفق يبدو معدوماً في إمكانية التوصل إلى هدنات عسكرية يمكن تمديدها، أو وقف لإطلاق النار يمكن تجديده، فالتوقعات لا تذهب أبعد من هدنة إنسانية محدودة الزمن، ذلك أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ومعه حكومة الحرب المصغّرة وجنرالات الجيش، يواصلون التأكيد على أن المعركة طويلة ومعقدة ومُكلِفة، مستفيدين من الدعم الشعبي، حيث تُظهر استطلاعات الرأي أن الإسرائيليين يريدون من قيادتهم السياسية والعسكرية أن تواصل هجومها على غزة، وسط اقتناع برغبة نتنياهو في إطالة أمد الحرب. فرغم أن أي تبادل للأسرى من شأنه أن يُعيد ضخ الأوكسجين في حياته السياسية بعدما أظهرت الاستطلاعات انخفاض حاد في شعبيته، فإنه يُدرك أن نهاية الحرب ستكون بداية المحاسبة القانونية والسياسية على إخفاقاته وإخفاقات حكومته في الدرجة الأولى، الأمر الذي يجعل السير بالحرب الطويلة التي يتحضَّر لها نتنياهو من دون أفق لِلَجْمِها، أمراً محفوفاً بمخاطر الخروج عن السيطرة، وتحوُّلها إلى حرب مفتوحة في المنطقة غير مضمونة النتائج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب