ترامب والانسحاب من المنظمات الدولية: رجل يعلن الحرب على العالم

ترامب والانسحاب من المنظمات الدولية: رجل يعلن الحرب على العالم
عبد الحميد صيام
كثير من الخبراء يحاولون تحليل شخصية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على ضوء القرارات التي يتخذها بطريقة فورية ومتسرعة من دون حساب للعواقب والتي تدل على نفسية قلقة وغير متزنة ووهم بالعظمة وشعور بالتفوق. وقد فضح الرجل جهله المطلق في حادثين قريبين: عندما أعلن أنه أوقف مساعدات لغزة بقيمة خمسين مليون دولار ثمن الواقيات الذكرية التي تقدم هدية ولكن حركة حماس تستخدمها لتصنيع السلاح، وهو كلام لا يصدر عن جاهل بل عن أحمق، لا يعرف أن هناك منطقة اسمها غزة في موزامبيق تعاني من انتشار وباء نقص المناعة البشرية المكتسب «أيدز». أما قصة استخدامها لتصنيع السلاح فهذا أقرب إلى الخيال العلمي منه إلى الواقع. والقرار الثاني الغبي والبعيد عن الصحة والموضوعية ما أعلنه من قطع مساعدات وفرض عقوبات على جنوب أفريقيا مستخدما عذرا أقبح من ذنب عندما ادعى أن الأكثرية السوداء انتهكت حقوق الأقلية البيضاء وصادرت أملاكهم بعد نهاية حكم الأبرتهايد عام 1994. وهو خبر عارٍ عن الصحة تماما، فقد أقر مانديلا عدم مصادرة شيء من أملاك البيض الذين كانوا يتحكمون في اقتصاد البلاد قائلا لشعبه إننا سننهار اقتصاديا إذا خرج البيض من بلادنا وهربوا برؤوس أموالهم كما حدث مع الجارة زيمبابوي حيث كادت البلاد أن تنهار تماما بعد أن قرر الرئيس الأسبق موغابي تأميم أملاك البيض.
مشكلة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أنه لا يسمع إلا لنصائح واستشارات اللوبي الصهيوني الذين أحاط نفسه بهم من كل اتجاه. وأود أن أخص بالذكر مريم أديلسون، أرملة شيلدون أديلسون، الذي دعم حملة ترامب في دورته السابقة مقابل الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس. وبعد وفاة شيلدون تقدمت مريم لتقوم بهذا الدور الخطير وقدمت لترامب ثلاثة أضعاف ما قدمه زوجها مقابل ضم الضفة الغربية ومعاقبة كل من ينتقد أو يسيء أو يلحق الأذى بإسرائيل.
من هنا وسع ترامب برنامجه لمعاقبة كل من ينتقد إسرائيل من دول ومنظمات دولية وحركات. وسنركز هنا على محاولات ترامب تدمير المنظومة الدولية الموكل إليها تطبيق القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.
في دورته الحالية تابع ما بدأه في دورته السابقة حيث اتخذ خلال أقل من شهر من دخوله البيت الأبيض مجموعة من القرارات تستهدف المنظمات والاتفاقيات الدولية وسنمر هنا على أهم تلك القرارات والتي أثارت ضده دول العالم أجمع:
الانسحاب من منظمة الصحة العالمية
– في نفس يوم تنصيبه، وبعد ساعات من بداية ممارسة موقعه رئيسا للولايات المتحدة قرر ترامب الانسحاب من منظمة الصحة العالمية. وصرح أمام الصحافيين: «منظمة الصحة العالمية تخدعنا. الجميع يخدعون الولايات المتحدة. لن يحدث هذا بعد الآن». وكان ترامب قد اتهم المنظمة بالفشل في التعامل مع وباء كوفيد 19 عام 2020 وتحولها إلى دمية في يد الصين وانسحب منها. وفي اليوم الأول لبايدن في البيت الأبيض وقع قرار العودة للمنظمة وساهم في ميزانية المنظمة بنحو مليار وربع المليار دولار عامي 2022 و2023. وللعلم فقرار الانسحاب لا يصبح ساري المفعول إلا بعد سنة من تاريخ استلام رسالة الانسحاب. ومن المفروض أن تسدد الولايات المتحدة مستحقات المنظمة خلال هذا العام وهو أمر مشكوك فيه.
– في يوم 21 كانون الثاني/ يناير، أي بعد يوم واحد من حفل التنصيب، قرر الاانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ لعام 2015. وكان الرئيس قد انسحب منها عام 2017، لكن الرئيس السابق جو بايدن عاد ووقع الاتفاقية في أيامه الأولى من وصوله البيت الأبيض. وهذا الانسحاب يعني أن الرجل لا يؤمن بالاحتباس الحراري والضرر الذي يلحقه ثاني أكسيد الكربون بصحة الكرة الأرضية وغير مقتنع أن بلاده أكبر مصدر لهذا الغاز الملوث للبيئة. لكنه اختار أن يكون إلى جانب إيران واليمن في عدم الانضمام للاتفاقية.
– وفي يوم 3 شباط/ فبراير قرر ترامب وقف تمويل وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «أونروا» بالتوقيع على أمر تنفيذي يقضي بذلك. وكانت إدارة بايدن قد أوقفت تمويل الوكالة منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2023 بعد اتهام إسرائيل للوكالة بضلوع 12 موظفا بعملية 7 تشرين الأول/أكتوبر. أوقف بايدن التمويل لغاية آذار/مارس 2025 وهو تاريخ مرتبط بنتائج الانتخابات الأمريكية. فالتمويل الأمريكي مقطوع أصلا، لكنه سحب هذه المرة معه مواقف مشابهة من السويد وسويسرا وهولندا، انصياعا للموقف الإسرائيلي الهادف إلى تدمير الوكالة كليا.
– في 11 شباط/ فبراير 2025، أصدر ترامب أمراً تنفيذياً يقضي بانسحاب الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. ويتهم الأمر الصادر عن ترامب مجلس حقوق الإنسان «بالتصرف على نحو يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة أثناء مهاجمة حلفائنا ونشر معاداة السامية».
فرض عقوبات على المسؤولين
في المحكمة الجنائية
– بعد زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو للبيت الأبيض، أعلن ترامب يوم 6 شباط/فبراير فرض عقوبات على المسؤولين في المحكمة الجنائية بتهمة «اتخاذ إجراءات غير قانونية ولا أساس لها ضدّ أمريكا وحليفتنا المقرّبة إسرائيل». وتشمل العقوبات كما جاء في الأمر التنفيذي: «حجب الممتلكات والأصول، فضلاً عن تعليق دخول مسؤولي المحكمة الدولية وموظفيها، وأفراد أسرهم المباشرين، إلى الولايات المتحدة، لأن دخولهم إلى أمتنا سيكون ضارًا بمصالح الولايات المتحدة». وكان ترامب واضحا في تفسير القرار حيث أعلن أن الهدف هو معاقبة المحكمة لإصدار أوامر اعتقال بحق كبار المسؤولين الإسرائيليين، بمن فيهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت. وقد حاول أعضاء الحزب الجمهوري تمرير قرار في مجلس الشيوخ لفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، لكنهم لم يتمكنوا من التغلب على معارضة الديمقراطيين. فعاد ترامب وأصدر الأمر التنفيذي بذلك. ولا يستطيع مجلس الشيوخ إلغاءه إلا بتصويت يشمل ثلثي الأعضاء، وهو أمر مستحيل.
وتنفيذا لهذا المرسوم قامت وزارة الخزانة الأمريكية يوم 13 شباط/فبراير بفرض عقوبات مالية على المدعي العام للمحكمة، كريم خان.
– من المتوقع أن يجدد ترامب قراره السابق بالانسحاب من اليونسكو «منظمة التربية والعلم والثقافة» الذي وقعه في 31 كانون الأول/ديسمبر 2018، تحت ذريعة تركيزها على قضايا الشرق الأوسط وانتقادات وجهتها لإسرائيل وقبول عضوية فلسطين الكاملة في المنظمة. إسرائيل انسحبت من المنظمة عقب انسحاب واشنطن. وكان الكونغرس قد أقر قانونا بوقف تمويل أي منظمة دولية تضم فلسطين لعضويتها بصفتها دولة كاملة العضوية. لكن بايدن عاد إلى المنظمة. وبانتظار قرار الانسحاب الآن.
تخفيف المساهمة في الميزانية العامة للأمم المتحدة
في 3 شباط/ فبراير أقر ترامب بداية من تاريخ هذا الأمر ولغاية 180 يوما، بأن يقوم وزير المالية، بالتشاور مع سفير الأمم المتحدة، بإجراء مراجعة لجميع المنظمات الحكومية الدولية التي تكون الولايات المتحدة عضوًا فيها وتقدم أي نوع من التمويل أو الدعم الآخر، وجميع الاتفاقيات والمعاهدات التي تكون الولايات المتحدة طرفًا فيها، لتحديد المنظمات والاتفاقيات والمعاهدات التي تتعارض مع مصالح الولايات المتحدة وما إذا كان من الممكن إصلاح مثل هذه المنظمات أو الاتفاقيات أو المعاهدات. عند الانتهاء من هذه المراجعة، يقوم الوزير بإبلاغ النتائج إلى الرئيس، من خلال مساعد الرئيس لشؤون الأمن القومي، وتقديم توصيات بشأن ما إذا كان ينبغي للولايات المتحدة الانسحاب من أي من هذه المنظمات أو الاتفاقيات أو المعاهدات.
وهذه المراجعة تعني أن الولايات المتحدة تحت رئاسة ترامب، لن تتوقف عند تلك القرارات بل ستتابع حزمة العقوبات وقطع التمويل والانسحابات من المنظمات الدولية والمعاهدات. وهناك ملاحظتان أريد أن أشير لهما في نهاية هذه المراجعة:
– هناك تخوف كبير من لدن الأمين العام للأمم المتحدة وكبار المسؤولين بأن ترامب سيتخذ قرارا بتخفيف مساهمة الولايات المتحدة في الميزانية العامة للأمم المتحدة، وميزانية عمليات حفظ السلام وهو ما قد يضعف المنظمة الدولية بشكل عام ويهمش دورها في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين ويشجع دولا أخرى على السير في نفس النهج.
– الصين ستكون الرابح الأكبر في حال تراجع الولايات المتحدة كأكبر مساهم في ميزانيات الأمم المتحدة والوكالات الدولية. فالصين قدمت مليار دولار لمنظمة الصحة العالمية بعد قرار ترامب الانسحاب منها عام 2020. وستقفز الصين من المرتبة الثانية في سلم الدول المساهمة في تمويل المنظمات الدولية إلى المرتبة الأولى وهو ما يؤدي إلى تعاظم دورها وتأثيرها وزيادة الثقة الدولية فيها. يبدو أن ترامب لديه قناعة أن الولايات المتحدة «ستعود عظيمة مرة أخرى» عبر العزلة الدولية والانسحاب من المسرح الدولي وخلق توترات مع الدول المجاورة وأوروبا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية. كل ذلك يؤدي إلى مزيد من القوة الناعمة للصين ومن بعدها روسيا ودول مجموعة البريكس ومجموعة العشرين وغيرها وينذر في وقت ليس ببعيد هبوط الولايات المتحدة من على قمة الهرم الذي تربعت عليه طويلا.