رئيس المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة منير الشرفي: الوضع في تونس يستوجب حوارا وطنيا حقيقيا وشاملا بكل شجاعة وجرأة

رئيس المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة منير الشرفي: الوضع في تونس يستوجب حوارا وطنيا حقيقيا وشاملا بكل شجاعة وجرأة
حاورته: روعة قاسم
تطرق رئيس المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة التونسية منير الشرفي في هذا الحديث مع «القدس العربي» إلى الوضع في البلاد بمختلف التحديات الراهنة السياسية والقانونية والحقوقية. وشدّد على ضرورة إجراء حوار وطني حقيقي وشامل وجريء شبيه بالحوار الذي تمّ في أواخر سنة 2013 وبداية سنة 2014 ونالت تونس إثره جائزة نوبل للسلام. وقال إن اليوم هناك تهديدات تطال مبادئ الدولة المدنية، مشيرا إلى ضرورة وجود مؤسسات فعالة تقوم بدورها بكل استقلالية وفقا لمبدأ سيادة القانون. يشار إلى أن الشرفي هو أيضا باحث وكاتب، وناشط في المجتمع المدني وله تجارب سياسية وجمعياتية عديدة، فقد تحمّل مسؤولية الأمانة العامة للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في تسعينات القرن الماضي. ونُشر له عدد من الكتب بينها كتابان عن بورقيبة وعن بن علي، وله مئات المقالات في الشؤون السياسية، خاصة عندما كان رئيسا لتحرير جريدة «الطريق الجديد». وهو مؤسس ورئيس المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة منذ خمس سنوات. وفي ما يأتي نص الحوار.
○ هناك اليوم حديث في تونس عن حوار وطني قريب، ما رأيك بهذا الحوار وهل بامكانه أن ينجح في إجراء مصالحة بين السلطة والمعارضة؟
• في الحقيقة وبكل صراحة أشك في هذا الموضوع، الفكرة طبعا جيدة والوضع في تونس يستوجب حوارا وطنيا ولا بد منه ولا بد من إجراء هذا الحوار بكل شجاعة وجرأة. ويجب أن يكون حوارا يشمل كل الأطياف السياسية. ربما يمكن إقصاء طيف معين له ماضٍ سيء جدا، لكن هنا أود أن أوضح أمرين.
الأول فيما يتعلق بـ«الحوار الوطني» الذي تم قبيل نشر دستور 2022 الذي أشرف عليه صادق بلعيد. فهذا الدستور جاء إثر ما سمي آنذاك بحوار وطني ولكن نتيجته ظهرت مخالفة لما تم الاتفاق عليه في ذلك الحوار. إذ تم إعداد دستور قدمه صادق بلعيد، ونُشر في بعض الصحف، وإذا بنا نجد دستورا آخر مختلفا تماما. يعني أننا، إذا انخرطنا في حوار لا يتم الأخذ بنتائجه يصبح حوارا فاشلا.
النقطة الثانية هو موقف بعض المساندين للسلطة الحالية. إذ يقول أحدهم إن الحوار الوطني لا بد منه، شرط أن لا يشارك فيه كل من هو معارض للسلطة الراهنة. إذا هنا أطرح تساؤل لماذا الحوار إذا كان سيجمع بين أطراف متفقة في حين أن الحوار في الأساس يقوم بين أطراف غير متفقة أو لديها خلافات أو رؤى مختلفة ومتباينة في الحكم والسياسة؟ المهم هنا أن رئيس الجمهورية تكلم عن الحوار وهو شيء جيد إذا كان سيتم بالطريقة الصحيحة.
○ بوصفكم رئيس المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة فما رأيكم بمعايير مدنية الدولة في تونس اليوم؟
• أسسنا المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة منذ خمس سنوات وكان ذلك إثر أزمات تعرض لها البلد لمدة سنوات، ودخل بسببها في حلقة من العنف والاغتيالات السياسية، إضافة إلى حملة تسفير الشباب التونسي إلى سوريا بتعلّة المشاركة في «الجهاد». ونرى أن هناك خلطا كبيرا بين السياسة والدين بكل ما يحمله ذلك من تأثير على المجتمع. وهنا أود أن أوضح بأن البعض يعتقدون بأننا ضد الدين. ولكن في الحقيقة نحن ضد الخلط بين الدين والسياسة والحكم العسكري لأن الخلط يحمل ضررا على الجانبين أي الديني والسياسي. فنحن نرى أن الحكم يجب أن يعتمد على القانون الوضعي والمؤسسات المستقلة وعلى المبادئ الكونية لحقوق الإنسان وقيم الجمهورية وحرية المواطن أي حرية التعبير والتنظيم. ودورنا كمرصد هو رصد أية تجاوزات لمبدأ مدنية الدولة في هذا القبيل سواء من الدولة أو حتى من قبل أفراد. ونحن نركز على إصدار البيانات لإشعار الرأي العام التونسي بأية تجاوزات قد تقع وتمس بمدنية الدولة ومبادئها. ولقد أصدرنا في هذه الفترة حوالي 150 بيانا تعرّض إلى الانتهاكات لمبدأ مدنية الدولة بمختلف أوجهها. ومن ناحية أخرى، أرى أن للمرصد دورا آخر غير التنبيه والتشهير، وهو دور التوعية والتثقيف. ولذلك فإننا نُنظّم بين الحين والآخر ندوات فكرية لتبسيط مفهوم مدنية الدولة لدى المجتمع التونسي يتولّى خلالها مُفكّرون وأكاديميّون توضيح دور مختلف مجالات الحياة لدعم مبدأ المدنية في سياسة البلاد، من ذلك مثلا دور التربية والتعليم في الدولة المدنية، أو مكانة المرأة في الدولة المدنية، ألخ. ولقد أصدرنا كتابا تضمّن مداخلات ثلّة من المُثقّفين التونسيين في هذا الموضوع، وها نحن نواصل تنظيم هذه الندوات.
○ بالنسبة لتونس اليوم إلى أي مدى هناك احترام لمدنية الدولة؟
• أولا، لا بد أن نشير إلى أن مبدأ «مدنية الدولة» كان موجودا في الدستور التونسي لسنة 2014 ولم يأت ادراجه بالصدفة، بل كان ذلك نتيجة نضالات عدد كبير من المواطنين والمواطنات وكذلك من قبل الأحزاب والجمعيات التي ناضلت من أجل تحقيق حوار وطني. وللتذكير، فإن الصيغة الأولى للدستور الصادرة عن المجلس التأسيسي في غرة كانون الثاني/يناير2013، والتي حرّرتها النهضة، وقبلت بها بعض الأطراف المتحالفة معها والمحسوبة على الطيف الديمقراطي التقدمي، كانت تحاول فرض مبادئ تُؤسس للدولة الدينية. لكن الرفض الحازم والقاطع لعشرات النواب، بمساندة عشرات الآلاف من المواطنين الذين قاموا آنذاك بما سمّيناه بـ«اعتصام الرحيل» أمام مقر البرلمان في صائفة 2023 حال دون تمرير الصيغة الأولى من الدستور وفرض «الحوار الوطني». وخلال ذلك الحوار تمّ التراجع عن عديد المسائل التي أرادت بعض الأحزاب فرضها في الدستور. وساهم الديمقراطيون التقدميون بإدراج مبدأ «الدولة المدنية» في الفصل الثاني من دستور 2014. لكن مع الأسف في الفترة الأخيرة وفي دستور 2022 تم التخلي عن هذا المبدأ. وتمّ تعويضه بفصل ينصّ على أن الدولة «تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام…»، وهو المبدأ الذي تمكّن الشعب التونسي من التخلي عنه سنة 2013 بعد نضالات جماهيرية دامت شهرا كاملا. لذلك نلاحظ تأخرا فيما يخص الجانب المدني للدولة التونسية. مع العلم أن مفهوم الدولة المدنية موجود ومتجذر في تاريخ البلاد منذ قرطاج التي تمتاز بكونها تضمنت أول دستور وأول برلمان في التاريخ، وأعني دستور وبرلمان قرطاج. وهذا يدلّ على أن الدولة في تونس مدنية من قديم الزمان. وهناك عدة مراحل تؤكد بان تونس خطت خطوات هامة في اتجاه الدولة المدنية وهي من الدول الأولى في العالم التي ألغت العبودية والرق وأصدرت مجلة الأحوال الشخصية المتقدمة جدا عن باقي الدول في المنطقة والإقليم. وهذه كلها مكتسبات يجب الحفاظ عليها وتطويرها. نحن متخوفون من التخلي عن هذا المبدأ وما إلى ذلك من جوانب الحياة المدنية مثل الحريات والحقوق وإلى آخره.
○ وكيف ترى اليوم المشهد السياسي في تونس؟
• في الفترة الأخيرة، مثلا في الانتخابات الرئاسية، هناك صعوبات وجدها عدد من المترشحين للرئاسة وجاءت بإجراءات غير طبيعية جعلت عددا من المترشحين محرومين من الترشح. وأيضا لدينا مسألة المرسوم 54 الذي أعتبره غير طبيعي في دولة مدنية، لأنه يحد كثيرا من حرية التعبير. هذا المرسوم يتضمن أكثر من 15 مرة كلمة «السجن» كعقاب للعديد من حالات تقتصر على التعبير عن الآراء. وسلب الحريات حسب رأيي وحسب رأي المرصد ليس لديه مكان في كل ما يخص التعبير وحرية إبداء الرأي.
○ إذن بالنسبة للمرسوم 54، هل أنتم مع الدعوة إلى إلغائه أو تنقيح بعض فصوله؟
• أنا أدعو إلى إلغائه تماما لسبب واضح، وهو أن كل ما له علاقة بالاتصال والإعلام موجود في المرسوم 115 الذي تم إقراره مباشرة بعد الثورة. ويتسم هذا المرسوم بميزتين أساسيتين: الأولى انه تم وضعه من قبل خبراء مختصين في مجال الإعلام والاتصال أي أنهم من ذوي الاختصاص والتجربة في الميدان وليسوا من خارجه. من ناحية ثانية هو نص جيد جدا لأنه تقدمي وتحرري، وكان منطلقا لتحرير الإعلام بعد حكم بن علي. وتحرير الإعلام في تلك الفترة يُعتبر أهم مكسب حقيقي للثورة. أما بالنسبة إلى المرسوم 54 فلا أتصور أنه شارك في صياغته وإقراره خبراء مختصون في الإعلام والاتصال. كما انه يحد من الحريات بشكل واضح، خاصّة وأن بعض فصوله قابلة لاجتهادات قد تميل إلى التصلّب بدل الانفتاح والتحرر. لذلك أنا مع إلغائه لأنه لا دور له غير التأخر في مجال الإعلام، ولا حاجة للبلاد بوجود مرسوم آخر غير المرسوم 115 الذي يحدد مهام الإعلام بشكل علمي وضوابطه بشكل تقدمي.
○ ما هو تقييمكم اليوم للوضع الاجتماعي في تونس في خضم الصعوبات الاقتصادية وعودة الاحتجاجات في بعض القطاعات؟
• هنا أجيبك كمواطن وليس كرجل اقتصاد. إذ نلاحظ ان هناك ارتفاعا في أسعار عديد السلع وندرة سلع أخرى هامة وحياتية ومنها الأدوية. وهذا يجعلنا نتساءل حول الطريقة التي نتعامل بها مع الخارج. تونس مثلا تعتبر من أهم الدول المصدرة لزيت الزيتون. وهنا نلاحظ أن هناك تقريرا إعلاميا تم عرضه في نشرة الأخبار الرئيسية منذ فترة وفيه مشاهد سيّة للغاية حول الوضع في أهم حقول الزيتون تتنافى تماما مع متطلبات الترويج للزيت التونسي. وأعتقد ان هذا التقرير الإخباري الذي بدا في ظاهره مجرد نشاط رئاسي كان بمثابة أفضل هديّة للمنافسين الأجانب (إيطاليا وإسبانيا بالخصوص) في مجال التجارة العالمية لزيت الزيتون، والنتيجة أنه قد يكون أضرّ بالدعاية الاقتصادية التجارية لتونس في الفترة الرئيسية لتصدير زيت الزيتون. وهنا أشدّد على ضرورة مراجعة السياسات في عديد المجالات، وليس فقط الاقتصادية. وأخص بالذكر، إلى جانب الحريات، السياسة الاتصالية التي تتطوّر بشكل فاقد للروح وللفكر، وهي سياسة مضارّها أكثر من منافعها حتى على السلطة ذاتها.
○ اليوم كيف يؤثر غياب عديد المؤسسات الدستورية الهامة مثل المحكمة الدستورية على المشهد السياسي والقانوني؟
• لقد ناضلنا مدة سنوات ورفعنا شعار «دولة القانون والمؤسسات». لذلك فإن القانون، وأقصد طبعا القانون الوضعي، يجب أن يكون للجميع من دون تمييز، وخاصة من دون تسييس. ودولة المؤسسات هي الدولة التي تقوم كل مؤسسة بدورها لا أكثر ولا أقل. فلا مؤسسة تُفرّط في دورها لفائدة أخرى، ولا مؤسسة تستولي على مهام أخرى. الدولة التي لا تخدم مؤسساتها بطريقة قانونية وسلسة هي دولة منقوصة. مثلا اليوم نلاحظ أن المجلس الأعلى للقضاء غير موجود وكذلك هناك غياب للمجالس البلدية التي لديها دور مهم جدا وهي الآن غائبة. وهنا لا بد من إيجاد حلول سريعة وجذرية حتى تكون مؤسسات الدولة موجودة وتعمل بحرية وبنظام وهذا أكيد وعاجل.
○ موضوع هجرة الأفارقة جنوب الصحراء غير النظامية إلى تونس أصبحت معضلة رئيسية فما السبيل إلى حلها؟
• هذا الموضوع غامض ولم نجد من يتكلم عنه بوضوح. في البداية كانت السلطة ضد وجود هؤلاء المهاجرين الأفارقة في تونس، وفجأة أصبحت تحاول التعاطي معهم بشكل يسعى إلى تنظيم إقامتهم بالبلاد. وكأن هناك اتفاق غير معلن بخصوص هؤلاء المهاجرين. ناهيك أن هناك بعض النواب في مجلس نواب الشعب الذين طالبوا بالقيام بإجراءات هامة وعاجلة فيما يخص الأفارقة في تونس، ولكن كل مشروع القانون الذي تقدموا به لا يقع الاستماع له ولا برمجته وعرضه على جلسة عامة، وكأن هناك رغبة في الإبقاء على الوضع كما هو عليه. كل ما نعرف عن الموضوع هو أن الأوروبيين صرّحوا بأن تدفق الأفريقيين إلى أوروبا انخفض بنسبة 80 في المئة، كما نعلم أيضا أن متساكني بعض المناطق في البلاد، على غرار مدينتي العامرة وجبنيانة، يشتكون من التواجد الكثيف والمزعج للأفارقة، خاصة وأنه يبدو أن الكثير منهم مصابون بأمراض خطيرة ومُعدية. فالموضوع حسّاس جدا وعلى غاية من الأهميّة ويستوجب توضيحا شافيا ومُقنعا من السلطة.
○ في خضم كل هذه التحديات إلى أين يسير الوضع في تونس؟
• لا بد أن يتغير الوضع في تونس في اتجاه الحوار الحقيقي. ولا بد من إعطاء الفرصة لمختلف الأصوات وعدم إسكاتها. فالبلاد تعجّ بأصحاب الكفاءة والتجربة ممّن يُمكن أن يُساهموا بشكل فعّال في تشخيص المشاكل وفي إيجاد الحلول لها. فهناك اليوم، مثلا، محاكمات غريبة. وحسب بعض المحامين، فإن عددا من المتهمين لا يعرفون أصلا تهمهم. وهنا أستحضر في تاريخ تونس الحديث، عند محاكمة اليساريين في أواخر الستينات. فلقد أصدر الحزب الحاكم آنذاك ما سمي بالكتاب الأبيض، وهو نص دقيق شرح خلاله كل ما هو متعلق بقضية برسبكتيف. فاتّضحت الرؤية لدى الرأي العام حول هذه الحركة وحول ما قام به كل فرد في تلك القضية، سواء كان مسندا له أو لا. لذلك المطلوب اليوم هو إنارة الرأي العام واطلاعه على أطوار هذه المحاكمات وحقائقها وخلفياتها. وحبذا لو تكون هذه المحاكمات علنية.
كما أن المطلوب اليوم في تونس هو قيام حوار حقيقي شبيه بالحوار الذي تمّ سنة 2013 او 2014 وتحصلت بلادنا إثره على جائزة نوبل للسلام. لأنه كان حوارا حقيقيا شاركت فيه كل الأطياف السياسية، بما فيها المختلفة أو المتناقضة تماما، وجنّب البلاد صراعات خطيرة كانت يمكن ان تؤدي بالبلاد إلى ما لا يحمد عقباه.
○ ماذا عن الكتابيْن اللذين نشرتهما حول بورقيبة وبن علي؟
• الحبيب بورقيبة قاد تونس طيلة حوالي 30 سنة. وقاد زين العابدين بن علي البلاد طيلة 23 سنة. وهما فترتان طويلتان وهامتان جدا في التاريخ الحديث للبلاد التونسية.
وكل واحد من الكتابيْن هو عبارة عن دراسة أكاديميّة ترسم ملامح الوزراء الذين تداولوا على مختلف الحكومات، من حيث تكوينهم وانتماءهم السياسي وأعمارهم ومنطقتهم الجهوية الأصلية وما إلى ذلك من خصوصيات كلّ منهم. ومن ذلك ينطلق الكتاب إلى تحليل طبيعة نظام الحكم والأسباب التي أدّت إلى مختلف التحويرات الحكومية التي كثيرا ما تُفيد تغييرا في سياسة السلطة. فالكتاب يبدو في شكله مُتحدّثا عن الوزير، وفي عمقه عن رئيس الجمهورية وتطوّر سياسة البلاد عموما.
وها أنا أنتهز فرصة الحديث معك لأفشي لك بأنني أنوي كتابة كتاب ثالث عن وزراء ما بعد الثورة، وبالتالي عن طبيعة الحكم في السنوات الأخيرة.
القدس العربي