
لـن نـنـسـى ولـن نـغـفـر
ريما كتانة نزال
ثمة نفق انحفر في القلب، ثمة ردهة شقّت طريقها نحو الروح، ثمة صور وحشية انطبعت على صفحة وجوهنا، ثمة صرخات تلوي أحشائي. ثمة أفكار انتحرت وحلّت مكانها أفكار تصلح لكوابيس قادمة. ثمة أمهات ماتت مقهورة دون أن يسعفها الوقت لتحضير غيابها الدائم، وثمة آباء رحلوا قبل الاعتذار لأبنائهم عن جلبهم للحياة، وثمة وحوش منفلتة تبحث عن لحم غزة.
قبل اغتيال غزة ليس كما بعد اغتيالها، صراخ الأطفال وهم يستنجدون بعجزنا لن يغادرنا، ستستمر ضحكاتهم التي قتلت في مهدها تلاحقنا. مسرح الجريمة كما رسمه العدوان ترسخ عميقاً في الذاكرة الجمعية للغزيين، مشهد دمار غزة التي لم يعد أهلها يتعرفون عليها بعد أن أصبحت تشبه يوم القيامة، تصلح أيضاً لتخيّل كيف سيكون حال يوم انتهاء العالم.
لن ننسى ولن نغفر، لم نعد كما كنا، ما قبل الطوفان ليس كما بعده، ما قبل غزة ليس كما بعدها، لم نعد كما كنا قبلها، حين امتلأت الشوارع بالدماء والأشلاء كاشفة عن أي عالم لا أخلاقي نعيش فيه، ولا مفر منه. نعم لم يعد شيء كما كان سابقاً، لقد فضحت غزة النظريات والادعاءات عن التحضُّر والقيم والأخلاق، بينما المذبحة متواصلة تحت مظلتها وعناوينها، وتحت أنظارها من مسافة الصفر، قتلاً ودماراً وجوعاً وعطشاً ومرضاً.
لم نعد كما كنا منذ بدء العدوان الدامي على قطاع غزة. أصبحنا أشخاصاً آخرين؛ مسكونين بالحزن والخوف والتشرد، لا نجيد أي شيء سوى انتظار المزيد، لأننا اكتشفنا أن هناك في العالم المتحضر أو الذي يعتبر نفسه كذلك، اكتشفنا أننا نذهب إليه لاعتقادنا أنه يرانا بعيون مفتوحة، ولخيبتنا وجدنا أنه لا يرى أننا كباقي البشر، ويضعنا في منزلة وقوالب ومصنفات وتدرجات أقل منهم.
لا أعرف ماذا سنكون، لكني أعلم أننا لن نكون كما كنا، ولن نكون ما كنا عليه قبل العدوان الهمجي، لن نعود كما في السابق، حتى لو عدنا إلى سابقنا وسوابقنا، فلن نسمح بعودتها كما كانت.
لن ننسى ولن نغفر، لأن غزة حوّلت مفاهيم وقيم حقوق الإنسان إلى ركام من حجارة وأشلاء مقطعة وغبار لا يهدأ، لن ننسى أننا ركعنا أمام المنظومات الحقوقية الرائعة نستجدي منها أن تلتفت إلى دمائنا، فضعنا في ردهاتها وأوهامها، وتجمدت إرادتنا ووقتنا وزماننا عند تلك اللحظة، غير قادرين على تجاوز الفُحْش والبشاعة والتوحش.
لن ننسى، كل من ساهم في تشكيل ذاكرتنا الجديدة، ذاكرة الأطفال الخدّج الموصولين بأنابيب انسحبت منها الإنسانية، صور من زمن يشهد كتابة مشاريع الشهادة أسماءهم على جلودهم وأكفانهم، هؤلاء لم تكن رغبتهم أكثر من أن يحظوا بوداع أخير بين أحضان من بقي على قيد الحياة من عائلاتهم.
لن ننسى، سحق المنازل والمستشفيات والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس، لن نغفر قصف الحاضنة الغزاوية ويومياتها وأحلامها البسيطة، تنتظر مستقبلها مكتفية بوظيفة بسيطة وراتب بسيط وزفة بسيطة وبيت بسيط، لم تكن أحلام غزة تشبه أحلام الناس في العالم الحر رغم أنها أكثر حرية منه.
لن ننسى ولن نغفر، مشهد إذلال رجال غزة عقاباً لهم على هويتهم، اعتقد الجيش المتعطش للدماء بأنه في تعرية الرجال حصل على صورة النصر الذي يهديه لشعبه، يثلج به الصدور ويشفي الحقد الأسود، بينما في الحقيقة كانت الصورة ترسل رسالة العار الذي وصلوا إليه، للدلالة على طبيعة المستنقع غير الأخلاقي الذي انزلقوا إلى قاع قاعه.
لن ننسى أبداً، صورة نصر جيش الاحتلال لدى اقتحامه متجراً لمقتنيات الأطفال لتأكيد انتصاره على الأطفال وقصصهم وألعابهم ودفاتر رسمهم الملونة، هنيئاً لهم: نصرهم على الأطفال والنساء وعلى نفاد بنك أهدافهم واستعادتهم قوة الردع.
لن ننسى ولن نغفر للجندي الذي قصف أحد المنازل كهدية لابنته بمناسبة عيد ميلادها، ولن ننسى ولن نغفر رغبة إحدى الإعلاميات لتجربة على أزرار معدّة لقصف غزة، تخرج به عن الرتابة والملل.
لن ننسى ولن نغفر لأميركا مشاركتها جنون الحرب على غزة، ومنح أداتها الاستعمارية جميع فرص القتل والتنكيل. لن ننسى استخدامها الأخير لحق النقض «الفيتو» ابتغاء لمجرد وقف الحرب البشعة على فلسطين في غزة.. لن ننسى تطبيقها المعايير المزدوجة بينما تبيعنا المثاليات والمبادئ، وتبيعهم أسلحة الإبادة التي فتكت بأطفال غزة.
المصدر : الايام الفلسطينية