مقالات

العناوين الرئيسة للإصلاح الأمني في السودان

العناوين الرئيسة للإصلاح الأمني في السودان

د. الشفيع خضر سعيد

كاتب وناشط سياسي من السودان

لن نمل تكرار إشارتنا بأن القوى المدنية السودانية يقع عليها عبء رئيسي في درء الكارثة الراهنة المتمكنة من البلاد، ولن نمل تكرار قولنا بأن هذه القوى لن تستطيع أن تلعب دورا فاعلا في تحمل هذا العبء وتحويله إلى فعل ملموس إلا إذا توحدت أو نسقت فيما بينها وتبنت برنامجا عمليا لتحقيق هذا الفعل. لكن وحدة القوى المدنية والتنسيق فيما بينها، أبدا لن يتأتيا إلا بتوافقها على رؤية موحدة لكيفية وقف الحرب وحول تفاصيل العملية السياسية. وكما أشرنا في عدة مقالات، فإن الرؤية المنشودة هي مجموع الإجابات على العديد من الأسئلة، منها ماهو متعلق بطبيعة الحرب وأسباب اندلاعها، ومنها ماهو متعلق بآليات وقف القتال، وهل هناك أي مساحة لخلق مناطق منزوعة السلاح لتحقيق انسياب المساعدات الإنسانية عبر ممرات آمنة، ومنها السؤال حول جوهر العملية السياسية وأهدافها وهل لقيادات الطرفين العسكريين المتصارعين أي دور فيها، وأولوية التعامل مع الحرب وما صاحبها من انتهاكات كجريمة تستوجب المساءلة القانونية، وما هو مستقبل قيادة الجيش ومستقبل قوات الدعم السريع والميليشيات المسلحة الأخرى، وكيفية إصلاح القطاع الأمني والعسكري، وهل ستنحصر العملية السياسية في قضايا الانتقال أم ستتمدد وتتوسع لتبحث قضايا إعادة تأسيس الدولة السودانية…..، إلى غير ذلك من الأسئلة. ولقد توقعنا وانتظرنا كثيرا أن تنتظم مجموعات القوى المدنية والسياسية السودانية في حلقات نقاش بهدف التوافق حول إجابات لهذه الأسئلة حتى تتسلح برؤية واضحة المعالم، ولكن!. ومن جانبنا، تناولنا في المقالات السابقة معظم هذه التساؤلات وتبقى فقط استكمال ما بدأناه من نقاش حول إصلاح القطاع العسكري والأمني، ثم نختم بطرح لوجهة نظرنا حول محتوى العملية السياسية.

القوى المدنية السودانية لن تستطيع أن تلعب دورا فاعلا في تحمل هذا العبء وتحويله إلى فعل ملموس إلا إذا توحدت أو نسقت فيما بينها وتبنت برنامجا عمليا لتحقيق هذا الفعل

في البدء نؤكد أن عملية إصلاح القطاع الأمني والعسكري في السودان لا يمكن أن تتم بمعزل عن الإصلاح الشامل لكل مؤسسات الدولة الأخرى ذات الطبيعة المدنية، وأن الهدف الرئيسي من هذه العملية هو العودة بمؤسسات القطاع إلى رحاب القومية ووعاء الوطنية، بعيدا عن الانتماءات الحزبية أو الجهوية أو الإثنية، وإنحيازا إلى الشعب وقضاياه وحماية له، وأن تتم إعادة بناء مؤسسات القطاع مرتكزة على مفاهيم التحول الديمقراطي وسيادة حكم القانون والسلام والتنمية المستدامة. هذه العملية لا تتم بضربة واحدة ولا خلال فترة زمنية قصيرة، وإنما هي سلسلة عمليات مركبة من عدة حلقات، ستأخذ مدى طويلا، ويمكن أن تُبتدر خلال الفترة الإنتقالية شريطة أن يتم ذلك وفق مبدأ الشفافية، وبالتنسيق مع المؤسسات المدنية، لكن استكمال العملية وإعتماد نتائجها تقوم به المؤسسات المنتخبة. وبالضرورة ألا تخضع عملية الإصلاح للأهواء السياسية والمزايدات الإعلامية، ويتم تنفيذها من داخل مؤسسات القطاع وبواسطة منسوبيها، على أن تخضع إلى رقابة المؤسسات المدنية من حكومة ومجلس تشريعي.
وتتضمن العناوين الرئيسية لإصلاح القطاع الأمني والعسكري، على سبيل المثال لا الحصر، التحديث والتطوير وتوفير الإمكانات وفق المفاهيم العلمية المتوافق عليها دوليا، ومستهدية بالتجارب الناجحة في البلدان الأخرى، أن تقوم العقيدة الأمنية والعسكرية على سيادة حكم القانون ومبادئ التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان وفق المواثيق الدولية، تنقية القطاع من الانحيازات السياسية والعقائدية بإحالة كل الضباط وضباط الصف المنتمين إلى التقاعد وفقا لقوانين مؤسسات القطاع مع استيفاء كامل حقوقهم ومستحقاتهم، وفي ذات الوقت إصدار قرار سياسي بإعادة كل المفصولين للصالح العام مع توفيق أوضاعهم، ضرورة مشاركة القوى السياسية والمجتمع المدني في رسم السياسات الخاصة باستراتيجية الأمن القومي، الشفافية في عملية إتخاذ القرارات وصنع السياسات الأمنية والعسكرية بما في ذلك عمليات الدمج والتسريح، تقوية الإدارة المدنية والمحاسبة الديمقراطية للمؤسسات العسكرية والأمنية والشرطية، وتقوية إشراف البرلمان ورقابة المجتمع المدني على هذه المؤسسات، التعامل الجاد مع حالة فقدان الثقة في مؤسسات القطاع الأمني والعسكري وما تتهم به من سيطرة جهات سياسية عليها، وذلك حتى تستعيد هذه المؤسسات تلك الثقة المفقودة وحتى تتصالح مع القوى المدنية، المساءلة وعدم الإفلات من العقاب في مؤسسات القطاع، والمعاقبة على أي انتهاكات، تمت سابقا أو تتم لاحقا، محاربة الفساد وإستغلال النفوذ داخل هذه المؤسسات..الخ.
لكن، من أهم عناوين الإصلاح في القطاع الأمني والعسكري، حظر النشاط الاقتصادي لمؤسسات القطاع والذي كان يتم بعيدا عن ولاية الحكومة المدنية. ومعروف أن بدايات الزج بالقطاع في النشاط الاقتصادي كان بضم «شركة الجزيرة» الي جهاز الأمن الذي أنشأته الانقاذ، وذلك لأن طبيعة نشاط الشركة التجاري الواسع سيوفر سيولة مستمرة، تمكن الجهاز من الصرف على عملياته السرية المختلفة بدون رقيب. وشركة الجزيرة هذه، هي أصلا شركة «جلاتلي هانكي وشركاه» الإنكليزية الضخمة والعريقة التي أسهمت كثيرا في تطوير التجارة والاقتصاد السوداني، وظلت تعمل في السودان منذ اربعينيات القرن الماضي، إلى أن أممها نظام النميري. ثم ضمت الانقاذ شركة «كوبتريد» إلى الشرطة، وهي أصلا شركة وطنية عريقة كانت مملوكة لآل عثمان صالح، أيضا صادرها نظام النميري، وأنشطتها ممتدة في كل القطاعات داخليا وخارجيا، وتوفر سيولة مستمرة تتصرف فيها إدارة الشرطة دون أن تدخل خزينة الدولة. تلك كانت البدايات، وبعد ذلك انتشرت هذه الممارسات المخلة، حيث تعددت الشركات الاستثمارية التابعة لمؤسسات القطاع الأمني والعسكري والتي تعمل في مجالات حيوية مربحة لكنها لا تساهم في رفد الخزينة العامة.
أعتقد أن السؤال حول قومية مؤسسات الجيش والشرطة والأمن وعدم خضوعها لإرادة الحزب الحاكم، أيا كان هذا الحزب، تكمن إجابته في بناء دولة الوطن، لا دولة هذا الحزب أو ذاك، دولة حكم القانون والمؤسسات والحكم الراشد، دولة التحول الديمقراطي والفصل بين السلطات، الدولة الوطنية التي تبنى، أو يعاد بناؤها، على أساس مشروع قومي مجمع عليه، يشارك في صياغته وتنفيذه الجميع، بما فيهم أفراد الجيش والشرطة والأمن!

كاتب سوداني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب