مقالات

الجيش اللبناني وتجنُّب الأفخاخ الماضية

الجيش اللبناني وتجنُّب الأفخاخ الماضية

عبد الحليم حمود

في لحظات الانقسام الداخلي، تصبح المؤسسة العسكرية في الدول ذات البنية الهشّة أشبه بجهاز أعصاب وطني، فإن أصيب، عمّ الشلل. لبنان، منذ تأسيسه، لم يكن استثناءً، بل ربما كان النموذج الأكثر تعبيراً عن المعادلة الدقيقة بين وحدة الجيش وتماسك الكيان.
إبّان اضطرابات العام 1958، حين بلغ الاستقطاب السياسي ذروته بين الرئيس كميل شمعون والمعارضة التي تزعّمها آنذاك كمال جنبلاط وصائب سلام وعبد الله اليافي وريمون إدّه ورشيد كرامي، برزت لحظة حاسمة: طلب شمعون من قائد الجيش فؤاد شهاب التدخّل العسكري لحسم المواجهة لصالحه.

إلا أنّ شهاب، مدركاً طبيعة البنية الطائفية العميقة للجيش، اختار أن يحصر تدخّله بحماية القصر الجمهوري والمرافق الحيوية، محافظاً على وحدة المؤسسة العسكرية في وجه عاصفة سياسية كادت أن تشقّ البلد عمودياً. ذلك القرار، بقدر ما أغضب الرئيس، لفت نظر الإدارة الأميركية إلى الحصافة الكامنة في هذا الجنرال الصامت، فكان أن زُكّي لاحقاً لرئاسة الجمهورية، بدعم ضمني من واشنطن، على أمل أن يكون الضامن لحياد لبنان واستقراره.

لكنّ حياد الجيوش لا يُؤسَّس بقرار، بل يُصان بجهد يومي طويل. ومع اندلاع الحرب الأهلية في 1975، لم تصمد تلك الصيغة. الانقسام السياسي والاجتماعي وجد طريقه إلى داخل الثكنات، فانشقّ الضابط أحمد الخطيب مع آلاف الجنود، مدفوعاً بمواقف عقائدية يسارية وعروبية، فيما ظلّت قيادة الجيش الرسمية تصطفّ تباعاً خلف الرئاسة، مع ما في الأمر من عمق يميني ماروني.

في السياق عينه، تكرّرت التجربة نفسها حين تموضع «اللواء السادس» في بيروت الغربية، بينما في الجنوب كانت حالة الرائد سعد حداد أكثر تعبيراً عن خطورة تقاطع الانقسام الداخلي مع التدخّل الخارجي، إذ أسّس، برعاية إسرائيلية، نواة ما سُمّي لاحقاً بـ«جيش لبنان الجنوبي»، في واحدة من أكثر التجارب دموية وتصدّعاً للسيادة اللبنانية.

لقد أدرك القادة الحقيقيون أنّ إعادة بناء الجيش بعد الحرب، لا تتمّ بمراسيم، بل بمنهج طويل الأمد يمرّ عبر غرف التدريب، والسياسة الصامتة، والتوازن الطائفي المدروس. وهنا برز دور العماد إميل لحود، الذي تولّى قيادة الجيش في مرحلة ما بعد الحرب، وأطلق ورشة صهر وتوحيد حقيقية بين الوحدات، راسخاً مفهوم الانضباط المركزي والبعد عن الاصطفاف السياسي المباشر، وإن بقيت التوازنات الطائفية كامنة كجمر تحت رماد.

اليوم، يجد لبنان نفسه أمام مشهد مقلق آخر، حيث تتصاعد التوترات السياسية والضغوط الخارجية والداخلية على وقع أزمات اقتصادية خانقة. وهناك من لا يتورّع عن الدفع مجدّداً نحو مواجهات لبنانية-لبنانية، غير آبه بما يهدّد بقايا العقد الاجتماعي المهترئ. في خضمّ هذا السياق، يبرز اسم قائد الجيش الحالي، العماد رودولف هيكل، بوصفه رجل المرحلة الرمادية، يحاول، في ما يبدو، التصرّف بعقل بارد وسط حرائق لا تهدأ. تتكثّف الاتصالات حوله، وينشط التنسيق مع مختلف القوى السياسية لتفادي «الكأس المُرّة»، إذ يدرك الرجل أنّ أي خطوة خاطئة في التوقيت الخطأ قد تعيد فتح الجراح القديمة، لا داخل المجتمع فحسب، بل داخل الجيش ذاته.

إنّ ما يفصل بين جيش وطني موحّد وجيش يتحوّل إلى قبائل مقنّعة بالرتب، هو فهم القائد لحدود القوة، والتوقيت، والانحياز إلى الكيان بدل الأشخاص. لقد سبق للبنان أن جرّب التفتّت، ودفع الثمن دماً ودماراً. السؤال الآن: هل يتعلّم من تاريخه؟ أم أنّ جاذبية الفوضى، التي طالما كانت أقوى من العقل في هذه البلاد، ستُغري البعض بإعادة فتح الصندوق الأسود؟
* كاتب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب