تحقيقات وتقارير

هل يحيي السابع من أكتوبر العملية السياسيّة الفلسطينيّة؟

هل يحيي السابع من أكتوبر العملية السياسيّة الفلسطينيّة؟

توجد حقيقة صعبة في الوقت الحالي ولا يمكن تجنبها، وهي أن هدف إسرائيل المُعلن والمتمثل في القضاء على حماس بوصفها قوة سياسية وعسكرية هدفٌ لا يمكن تحقيقه، بل إنه، بصراحة، وصفة للموت والدمار غير المنتهي…

بعد عشرة أسابيع على بداية الحرب الوحشية على غزة، ما زال القادة الإسرائيليون يصروّن على أن حملتهم العسكرية سوف تتواصل إلى أن تقضي على حماس، بيد أنهم لم يوضحوا بعد ما الذي سيعنيه ذلك عمليًا، أو من وماذا يتوقعون أن يسد فراغ الحكم الذي ستخلفه مثل هذه النتيجة. ونظرًا لغياب هدفٍ واضحٍ للجيش الإسرائيلي، كثرت التكهنات حول ما سيحدث بعد توقف هطول القنابل. تتراوح سيناريوهات «اليوم التالي» المطروحة ما بين الأفكار الخيالية والبعيدة عن التطبيق مثل فرض وصاية عربية على القطاع، وبين الدعوات الصريحة والمزعجة، ومعظمها من الإسرائيليين، لتهجير أغلب أو كل سكان قطاع غزة إلى مصر. وقد وضعت إدارة بايدن معايير «اليوم التالي»، التي تستبعد، من بين أمور أخرى، التهجير القسري للفلسطينيين من غزة أو إعادة احتلال إسرائيل للقطاع. بالإضافة إلى ذلك، قالت الإدارة الأميركية إنها تريد رؤية عودة السلطة الفلسطينية «المُجدّدة» إلى قطاع غزة، وهي التي تسيطر اسميًا على أجزاء من الضفة الغربية. وخلافًا لكل ما فعلته هذه الإدارة في السنوات الثلاثة الماضية، فهي تقول الآن إنها جادة بشأن عملية سياسية تتوج بحل الدولتين، مع قيام دولة فلسطينية ذات سيادة إلى جانب إسرائيل.

ومن المرجح أن تصطدم رؤية الإدارة الأميركية المفعمة بالأمل ببعض الحقائق الصعبة على أرض الواقع، فلا أحد يعرف متى أو كيف ستنتهي هذه الحرب، وكم ستكون مساحة غزة بعدها، وكم عدد سكانها الذين سيبقون أحياءً فيها بعد انتهائها. كما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن إسرائيل لن تسمح للسلطة الفلسطينية بالعودة إلى قطاع غزة، ووعد بإبقاء القوات الإسرائيلية في القطاع إلى أجل غير مسمى، بما في ذلك وضع خطط لإنشاء «منطقة عازلة» دائمة داخل القطاع من شأنها أن تزيد التضييق على الأراضي المتاحة للفلسطينيين. وقد أكد نتنياهو لشركائه في ائتلافه الحكومي أنه الزعيم الوحيد القادر على منع إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة.

تتحرك الأحداث على الأرض بالفعل في اتجاهات خطيرة. من الصعب فهم الحجم الهائل للموت والدمار في غزة. ووفقًا لوزارة الصحة في غزة، فقد أدى الهجوم الإسرائيلي حتى الآن إلى مقتل ما لا يقل عن 18,800 شخص، معظمهم من المدنيين (بما في ذلك 8200 طفل). وقد أدت العملية إلى تهجير أكثر من 80% من سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، وجعلت معظم شمال قطاع غزة غير صالح للسكن. أدت القيود الصارمة التي تفرضها إسرائيل على إمدادات الغذاء والماء والوقود لسكان غزة إلى تفشي الأمراض والجوع على نطاق واسع، وهو ما وصفته الأمم المتحدة بـ «كارثة إنسانية ملحمية»، بل إنها دفعت مسؤولي الأمم المتحدة والمراقبين الآخرين إلى إصدار تحذيرات من احتمال وقوع إبادة جماعية. كما يزيد استخدام التجويع الجماعي والمرض سلاحًا، جنبًا إلى جنب مع الانهيار شبه الكامل لنظام الرعاية الصحية والقصف المتواصل للسكان المحشورين في مساحات تتقلص باستمرار، من احتمالية تعرض بعض أو كل الفئات الضعيفة في قطاع غزة للخطر يومًا بعد يوم. وسيضطر السكان إلى عبور الحدود إلى مصر. وتتوافق هذه النتيجة مع رغبة نتنياهو في «تقليص» عدد سكان القطاع.

سيعتمد مستقبل غزة أيضًا، إلى جانب الحقائق التي تفرضها إسرائيل على الأرض، على التطورات داخل السياسة الفلسطينية الداخلية. قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إن الفلسطينيين بحاجة إلى أن يكونوا «في قلب» المحادثات حول مستقبل غزة. ولكن ليحدث هذا، لا يحتاج الفلسطينيون إلى إحياء مؤسسات الحكم والأمن فقط، بل وإلى إحياء المؤسسات السياسية: يوجد افتقار إلى قيادة سياسيَّة فعّالة؛ بسبب تدهور المؤسسات السياسية الفلسطينية، ولا سيما السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، المنظمة الجامعة التي تمثل ظاهريًا مختلف الفصائل المشاركة في الحركة الوطنية الفلسطينية.

ويتضح أمامنا الآن أن الانقسام والركود الذي اُبتليت به المؤسسات السياسية الفلسطينية على مدى السنوات الستة عشر الماضية كان كارثيًا، ليس فقط للفلسطينيين، بل للإسرائيليين والمنطقة أيضًا. وكما حذر العديد من المحللين (وأنا منهم) منذ فترة طويلة، فإن الانقسام المنهك بين حماس وفتح، أكبر فصيلين سياسيين فلسطينيين، اللذين خاضا حربًا على غزة في عام 2007، أصبح مصدرًا دائمًا للعنف وعدم الاستقرار. وعلى الرغم من أن الكثير من هذا الخلل السياسي الفلسطيني كان سببه ذاتيًا، فقد عملت إسرائيل بنشاط على تعزيز الضعف والانقسام بين الفلسطينيين للحفاظ على حكمهم غير المحدود على الأراضي المحتلة. وقد تجسد نهج فرق تسد في التعامل مع الفلسطينيين في أمل نتنياهو الساخر في أن يؤدي دعم حماس في غزة إلى منع التوصل إلى حل الدولتين في نهاية المطاف، وقد وضعت أحداث 7 أكتوبر نهاية لهذه السياسة.

ولذلك فإن أي مناقشة حول «اليوم التالي» يجب أن تقوم على تشجيع ظهور قيادة سياسية فلسطينية موحدة ومتماسكة. وسوف يكون لزامًا على الزعماء الفلسطينيين أن ينحّوا جانبًا التزاماتهم الحزبية، كما يتعين على إسرائيل والولايات المتحدة أن يتخلوا عن الفكرة غير الواقعية على الإطلاق والتي تتلخص في إمكانية استبعاد حماس إلى الأبد من السياسة الفلسطينية. ولن يكون إقناع الفلسطينيين أو إسرائيل وحلفائها الأميركيين بالقيام بذلك بالمهمة السهلة، لكنهم إذا فشلوا في تقديم هذه التسوية، فمن غير المرجح أن تتحسن الظروف الإنسانية والأمنية في قطاع غزة، وستظل التسوية الدبلوماسية بعيدة المنال.

كارثة أخرى

آثار القصف الإسرائيليّ في غزّة (Getty)

إن الأحداث التي تتكشف في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول ذات طبيعة تاريخية، على قدم المساواة مع اللحظات الكارثية الأخرى في التاريخ الفلسطيني، مثل نكبة عام 1948، التي راح ضحيتها حوالي 800 ألف فلسطيني، أي حوالي ثلثي سكان فلسطين العرب أثناء الانتداب البريطاني. وقد أُجبر السكان وقتها على ترك منازلهم، أو فروا ومُنعوا من العودة، وعلى قدم المساواة مع حرب الأيام الستة عام 1967، عندما استولت إسرائيل على الأجزاء المتبقية من فلسطين التاريخية والضفة الغربية وقطاع غزة، وطردت 300 ألف فلسطيني آخر من منازلهم أو دفعتهم للفرار. وكما حدث في عامي 1948 و1967، فمن المرجح أن تغير الحرب الحالية في قطاع غزة مسار السياسة الفلسطينية بطرق من المستحيل التنبؤ بها.

إن الهجوم المستمر على غزة بالفعل هو الحدث الأكثر دموية وأكبر تهجير قسري للفلسطينيين في التاريخ. وكما أن الهجوم المروع الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول سيشعر به الإسرائيليون لسنوات عديدة، فإن حجم الدمار البشري والمادي الهائل الذي ألحقته إسرائيل بغزة سوف يترك بصمة لا تمحى من الوعي الوطني الفلسطيني لأجيال قادمة. وكما هو الحال مع النكبة، فإن الصدمة الجماعية التي تعيشها غزة اليوم تمر بمرحلة تتجاوز حدودها بين الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية وإسرائيل والشتات، بل وعلى نطاق أوسع في جميع أنحاء العالم العربي، وسوف تشكل الوعي السياسي للجيل القادم من القادة الفلسطينيين.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب