ثقافة وفنون

في «سر الزعفرانة»: نهر من حكايات النساء

في «سر الزعفرانة»: نهر من حكايات النساء

سعيد خطيبي

في «سر الزعفرانة» تضع بدرية البشر قارئها في مواجهة نفسه أولاً، ثم في مواجهة نص متعدد الأوجه. لا يُقرأ على مستوى واحد، بل على مستويات متفرقة. رواية تقتنص من المتخيل فتجعل منه واقعاً، ومن الواقع متخيلاً. يمكن أن نجعل من بدايتها نهاية ومن نهايتها بداية، من غير أن يختل المعنى.
في كتابة متشظية تطرح سؤالي الحياة والموت، تزج بشخصياتها في مُساءلات فلسفية وأخرى نفسانية، في بيئة سعودية، تنتقل من النشأة إلى الحداثة. تراوح شخوصها بين حاضر وماضٍ، في مسايرة التحولات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها البلاد، في انتقالها من الصحراء إلى المدن العصرية. ولا تحتمي الشخصيات من هذه التقلبات سوى بالحكايات، فتضع نسوة في صدارة الحكي، بينما الرجال في مرتبة ثانوية ينصتون إليهن. نسوة يُقاومن ويُطلن في حضور الموتى باستعادة الذكريات. يأملن في مستقبل من غير أن يطوين صفحة ما مضى. والموت الذي يحوم بين صفحات، هذه الرواية، يعيد إلى الشخصيات شبابها في كل مرة. إنه موت رمزي يحيل إلى نهاية حقبة وبداية أخرى. تستفيد المؤلفة من أساطير شعبية، مثلما تستفيد منها الشخصيات، فتجعل منها جداراً واقياً من التحولات السريعة، التي تحوم من حولهم، كي لا يدخلوا زمناً جديداً بأقدام حافية. فهذه الرواية لا تقرأ فقط في سياقها الأدبي، بل في رمزيتها كذلك. ورغم أن فصولها مسكونة بذكريات الماضي، فشخصياتها ليس بوسعها العودة إلى الوراء، بل هي مجبرة كلها على التقدم إلى الأمام، أن تجعل من الماضي قارباً في نهر الحكايات الذي سوف يقودها إلى مستقبلها.

من هي زعفرانة؟

عنوان يحمل اسم زعفرانة، لكنها ليست البطلة الوحيدة في الرواية، بل تقتسم مقعدها مع شخصية أخرى، اسمها نفلة. هذه الأخيرة التي تتعلم من الأولى حراسة الأسرار. تتعلم منها السير بين خطوط النار من غير أن تزل قدماها. لكن نفلة مثل زعفرانة، لا تعرف في أي موضع تموج فيه، هل هي تعيش في الواقع أم الأحلام؟ المرأتان اللتان سوف تتكفلان بالسرد في هذه الرواية تتناوبان في حضورهما، بين حقيقة وخيال، لا الأولى تعلم أن الثانية بشر من لحم ودم، ولا الثانية واثقة من أن الأخرى قد عاشت بالفعل بالقرب منها. هي لعبة سردية لجأت إليها بدرية البشر، فجعلت القارئ يشك في نفسه، هل ما يقرأه واقع أم خيال؟ فشخصية زعفرانة، الأمة السمراء، سوف تلتقي بنفلة، في زمن كانت لا تزال فيه العبودية سائدة، تساعد نفلة في تجاوز طفولتها بأخف الأضرار، ثم تعلمها التطبيب وجمع الأعشاب، وتسمح لها بمرافقتها في فحض مرضاها، وسوف تكون هي أيضاً وسادة تتكئ عليها حين تبلغ نفلة المأزق الأكبر من حياتها. زعفرانة كانت الظل الحارس لشخصية نفلة. وبين الشخصيتين تشيد الكاتبة عالماً من الحكايات ومن الصدامات، فتورطهما في قضايا أكبر منهما، لكنهما تنجوان من المصائد التي تترصدهما. بينما ترافق نفلة مرشدتها زعفرانة في الإمساك بهويتها، فهي لا تكتفي بفهم ما يدور من حولها من تغيرات، بل تتعرف على نفسها كذلك. بفضل امرأة أخرى تتعرف المرأة الأولى على ذاتها.

عنوان يحمل اسم زعفرانة، لكنها ليست البطلة الوحيدة في الرواية، بل تقتسم مقعدها مع شخصية أخرى، اسمها نفلة. هذه الأخيرة التي تتعلم من الأولى حراسة الأسرار. تتعلم منها السير بين خطوط النار من غير أن تزل قدماها.

تصير زعفرانة مرآة قبالة نفلة. تلقنها كيف تكبر من غير أن تراكم الخسارات. وكي تتعمق نفلة في فهمها للعالم، كان لا بد من الترحال. فالانتقال من مكان لآخر يرافق تطورات هذه الرواية. إنها تنتقل في الزمن مثلما تنتقل في الجغرافيا، في حيز السعودية. من البادية إلى المدينة، ومن مدينة إلى أخرى. ومع كل انتقال تحصل قطائع في حياة نفلة وكذلك زعفرانة. تنتقلان من المعلوم إلى المجهول، تتلامسان أمكنة لم تعرفانها كي تزدادا معرفة بذواتهما. والشيء الآخر الذي يميزهما أنهما تلتقيان بشخصيات أخرى كثيرة. تفقدان علاقتهما بالبعض وتستمر علاقتهما مع الآخرين. في المحصلة تصير كل واحدة مدينة للأخرى بوجودها. لكن بدرية البشر لا تترك القارئ يستريح إلى قناعة، بل تزرع الشك في باله، حين لا نصل إلى يقين، في نهاية الرواية، هل شخصية زعفرانة كانت فعلاً بشراً، أم هي من صنع مخيلة نفلة؟

أن تمشي برأس مرفوعة

تستهل المؤلفة فصولاً من روايتها (دار رشم، 2023) بقراءة في خريطة السماء. في رسم النجوم والأبراج، في تحديد مواسم الزرع أو الحصاد بناءً على مواقع الكواكب. وحين ترفع الشخصية رأسها إلى السماء، فالغرض ليس فقط تحديد الفصول بناءً على مواضع النجوم، بل أيضاً كي تفتح حيزاً آخر لها من الحلم. كما لو أن الأرض لم تكف الشخصيات، فصارت تبحث عن منفذ لها في مكان أرحب. وإن كانت قراءة خريطة السماء من عادات ساكنة الصحراء، كحال شخوص الرواية، فإن لها رمزية أخرى في رغبتهم في الانعتاق من الحال التي كانوا يعيشون فيها. ففي «سر الزعفرانة» يتتبع القارئ مسيرة نفلة في الانعتاق من الحالة الاجتماعية التي وُلدت وتربت فيها، قبل أن تنتقل إلى حالة أخرى، وفي الطريق نتتبع كذلك انتقالات مجتمع بأكمله، من زمن تفشى فيه مرض الجدري، ولم يجد له دواءً عدا في الأعشاب، من حقبة غزا فيها الجراد الحقول والبيوت، ولم تنفع معه محاولاتهم في القضاء عليه، إلى زمن آخر صاروا فيه يعيشون في رفاهية الحداثة. وفي خضم هذه الانتقالات، تصير الحكاية عربة يسيرون فيها من زمن إلى آخر. وبعدما كان ماضي الشخصيات فردانياً، صار حاضرهم قسمة يتشاركون فيها بالتساوي. من غير أن تغفل بدرية البشر، في رحلتها السردية، عن دس عناصر أسطورية في سياق الحديث عن وقائع حقيقية، في الربط بين فضاءات مكانية تبدو ـ ظاهرياً ـ متنافرة في ما بينها ولا يصلح الجمع بينها، بين البادية والمدينة، بين الصحراء والساحل، بحيث أن الشخصيات تتزاحم في ما بينها في منطقة يصعب فيها الفصل بين ما هو سحر وما هو منطق، كما إن موت الشخصيات يصير كذلك دعابة سرعان ما يستفيقون منه.

روائي جزائري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب