جُمانة جمَال تخترق ذكورية التلحين

جُمانة جمَال تخترق ذكورية التلحين
بأعلى صوتي أنادي على العالم العربي، في كل أرجائه، أن يعلِن ولادة شاعرة وملحّنة عربية من طراز شاهق اسمُها جُمانة جَمَال. امرأة يمنية الأصل، تشكل أول اختراق عربي لذكورة التلحين في بلادنا من المحيط إلى الخليج. عرفنا في التاريخ العربي أخباراً عن سيدات مُلحّنات – مُغنيات في العصرين الأموي والعباسي، ولكن بقيت أخباراً غير مثبتة فعلياً، كما ثبَت اسم الموصلي وزرياب والفارابي وغيرهم من الذكور.
في القرن العشرين، أدركنا مُلحّنات إنما كنّ عاديات جداً ثم انصرفن في غضون وقت قصير عن التلحين لضيق الموهبة وضآلتها. وعرفنا في عصرنا مغنيات كبيرات كنّ يشاركن أحياناً في تبديل جُملة هنا أو هناك من ألحان يغنينها.
أما ملحّنة وشاعرة بهذا الحجم الاستثنائي، فهذا يحدثُ للمرة الأولى. وستذكُر الأجيال المقبلة أنّ في هذا الجيل المُنقلِب على نفسه وتاريخه الموسيقي والغنائي، قفزَت من غامض علْم الله، امرأةٌ يمنية، وبعدد قليل من أغانٍ كتبتها ولحّنتها جمّدت دم ملحنين كُثرَ، وجحظت عيون شُعراء أغنية، ووقف النجوم ينتظرون فَتْح بابها لهم للنّهْل من ذاك النهر الجديد الذي تفجّر في جُمانة طاقات تعبيرية يمكن القول إنها غير مسبوقة، وفي فترة زمنية بسيطة.
شاعرة منذ سن الثانية عشرة، تربّت على مكتبة والدها المثقف فقرأت الشعر والأدب والتاريخ والفلسفة، ثم خامرَها في العشرين من العمر، فن التلحين فدخلَته مستندةً إلى ما تسمع، وهي تسمع الكثير من الموسيقى والأغاني الشرقية والغربية، ومتطلّعة إلى زواج الشعر والتلحين في ذائقتها وموهبتها.
وكان لها ما أرادت، بل ما تمنّت من حداثة سنّها، بدايةً مع نجوم في المرتبة الثالثة أو الثانية، وبقدرة ألحان متميّزة لفتَت نجوماً ككاظم الساهر وعبدالله الرويشد وغيرهما، ومن هنا إلى اتساع الدائرة نجوماً فنجوماً وصولاً إلى آخِر إبداعاتها بأغنية «صحّاك الشوق» لفضل شاكر التي حصدت إعجاباً واحتراماً ورواجاً لم يحصل منذ سنوات لأي أغنية عربية أُخرى.
لا شك في أن جُمانة جمَال، الشابة الذكية التي كتبت الأغاني باللهجات اليمنية والمصرية والخليجية واللبنانية قد تعبت على موهبتها في ضبط مفردات وإيقاعات اللهجات العربية المتعدّدة، إذ لكل لهجة موسيقاها وأسلوبها ونقاط الوَقْف والوصل فيها، وقد خَبِرَتْها جمانة سريعاً نتيجة استماعها الدائم والمتواصل للتراث العربي القديم والجديد المعاصر على حدّ سواء، والنسج على منوالها من أجل «تطبيق» تلك اللهجات المتنوّعة وفهم حركاتها والسّكنات… وطبيعة كلّ منها لفظاً ومعنى. من هنا تبدو في كلماتها خصوصية كل لهجة عربية، بقدْر كاملٍ لتعبُر، ومن الصعب على غيرها، أياً يكن، أن يتحكّم في مقاديرها ومعاييرها إلا إذا امتلك ذوقاً رفيعاً، وقدرة على التقاط الفوارق، وطوّع كل ذلك عبر موهبة موسيقية وتلحينية فذّة.
جُمانة من هذا النوع، وتتمتّع بإمكانات عز نظيرها، سواء في تأليف شعر غنائي أو في التلحين. يكشف ذلك نتاجها الذي بات على كل شفة ولسان وكل قلب لدى الجمهور العربي. وإذا كان خطأ استخدام كلمة «كلّ» في تصنيف الجمهور الواسع والكبير، فإن جُمانة جمَال، حسب الإحصاءات وبيانات الإذاعات العربية، وعبر قنوات التواصل الاجتماعي، قد تخطّت حالة المعقول إلى اللامعقول قولاً وفعلاً، على الأقلّ في «صحّاك الشوق» التي كسرت ما سبقها من الأرقام القياسية لنجوم الغناء.
حتى الآن لم تخترع جُمانة جمَال، باروداً، كما نقول بالعامية لا في شِعر الأغنية كشِعر، ولا في التلحين كعالَم واسع. فالمواهب الجديدة لا تخترع عادةً، بل تقول شيئاً مختلفاً عن غيرها مما هو غير تقليدي أو شائع. وتوحي بتميُّزٍ من البداية، وتترك انطباعاً عند المستمع أنه أمام طاقة محترَمة وجدية وقوية ينتظرها مستقبل كبير. ومن هنا توضع الآمال عليها في تحريرٍ ولو جُزئيّ لمنطق الاستهلاك الذي قضى كما هو معروف على ذائقة أجيال في الأغنية العربية وأدخلَها مسالك بَيع وشراء لا مسالك إبداع، وفي تقديم النموذج البديل، بديناميكية تصبح مقرونةً بها.
ومن إطلالات شعرية ولحنية قليلة، تماماً كما فعلَت جُمانة جمال تَخترع تلك الطاقة الحيوية (وهنا السرّ) لنفسها أسلوباً خاصاً جديداً، سابحاً عكس التيار السائد وتنال مكانة متميزة رغم خطورة السباحة عكس التيار السائد والجارف رقصاً و«فرفشة» كونه أحياناً يُنهِك الموهبة وهي تصطدم بأمواج عاتية. ولا أعتقد أن جُمانة واجهَت ذلك، فعمرها العشريني، وشغفها الآسر، وإعجاب نجوم الغناء والجمهور بنتاجها، واقتناع الوسط الغنائي العربي بأنها مُستحِقّةٌ ما تلقاه من أصداء مُشجّعة ورائعة، تبني في شخصيتها حوافز داعمة ومتينة.
فكلمات أغانيها بلا تعقيد، سهلة، مَرنة وجُمانة لا تبغي أكثر من ذلك لإمرار الألحان. أي تبسيط الشّعر الغنائي ليكون مُتاحاً للجمهور العريض، والتركيز المباشَر على اللحن. ولا حرجَ عندها في استلهام بعض المعاني الشعرية المشهورة في تاريخ الشعر العربي، وتحويلها بحرفةٍ ماهرة إلى جملة غنائية. أبرز الأمثلة شطرٌ شعريّ للحلاج «لم يزِدني الوِرْد إلا عطشا» بات عندها بالعامية الخليجية «ويزيدني الوصل عطَشا» في أغنية أنجزتها لعبدالله الرويشد.
ولعل فكرةً عابرة وربما كلمة في مكانها الصحيح، تجذبانك إلى أغنية ما لها، بحُبور، كمثل «وبقلبي تعا كفّي نومك» في «صحّاك الشوق من نومك… وبْقلبي تَعا كفّي نومك». فهذه الجُملة هي ألطف ما يمكن على السمع، عند كل عاشق سابق ولاحق.
أما في التلحين، فجُمانة أدركت الطريقة التي تتم فيها «صناعة» الألحان، عندنا، وربما في العالم، والطريقة هي الاستفادة من جُملة موسيقية تعبر في أغنية معروفة أو منسية، فتتكئ عليها جمانة لتبدأ لحنها، ثم تتحرر منها في بقية الصياغة.
«الصناعة» هي تحويل مادة إلى مادة أخرى، و«الصياغة» هي الجهد الشخصي في إخفاء الاستفادة من شيء، وجعلِه ذاتياً. ومن هنا يلازمك، وأنت تتابع نتاجها من الأغاني، أنك سمعت هذا المطلع أو ذاك المقطع قبل حين. وذلك يقرّب الأغنية أكثر إلى الأسماع لأنها تصبح أليفة وصديقة. وحتى الآن، لا أثر للفذلكة لا في كلماتها ولا في ألحانها، فروح جُمانة العفوية والمتماسكة والتلقائية في فهم الجَمال الفني وتنفيذه هي المسيطرة.
غير أنه من الطبيعي أن نخشى على جُمانة جمَال من… نجوم الغناء الذين ما إن يكتشفوا في موهبةٍ جديدة، جديداً حقيقياً، حتى يُمطروها بطلَب أغانٍ بالعشرات، بل بالمئات كما حصل مع صلاح الشرنوبي مثلاً، فما إن شاع لحنه «بتونّس بيك» لوردة، حتى تَكأْكأَ نجوم العرب من كل حدب وصوب عليه طالبين القُرب اللحني منه. واستجاب هو، في غمرة التحصيل المادي والمعنوي (الشهرة ومستلزماتها!) ففَقدَ خلال سنوات معدودة «عذريته» في التلحين وبات صنّاعاً ماهراً ينتج جمالاً ولكنه أحياناً كثيرة، جَمالٌ مُركّب وفاقد الشغف الفطري، رغم أن الشرنوبي بقي الرقم واحد في مرحلة سميَت شرنوبية على اسمه. وعجيبٌ أن غالبية الملتجئين من النجوم إليه كانوا يبحثون عن «بتونّس بيك» أُخرى أكثر من أي شيء آخر.
ولا يُلام نجوم الغناء في الاندفاع نحو قُرص عسَل فني جميل، ولا تُلام جُمانة كشاعرة وملحّنة إذا استجابت للعروض خصوصاً من ذوي النجومية الشعبية، ولكنّ المطلوب هو الوعي العميق لمخاطر التدحرُج من حيث لا يدري الفنان.
فهل بالَغتُ في استقبال الشاعرة والملحنة جُمانة جمَال؟ قطعاً لا. فهي أهلٌ للمديح والإكبار. ومن يستمع إلى مقابلاتها القليلة جداً (فهي لا تحب الظهور كما تُردّد غالباً) يتحسّس التواضع والغِنى في ثقافتها، ويحكُم عليها بالإيجابية الثمينة.