
جولة للعقل والروح مع الأساطير المصرية القديمة
إبراهيم عبد المجيد
حسين عبد البصير أحد علماء علم الحضارة والآثار المصرية، بعيدا عن مناصبه المهمة التي شغلها ويشغلها وآخرها الآن مدير متحف الآثار في مكتبة الإسكندرية، فهو حاصل على درجتي الماجستير ثم الدكتوراه من جامعة جونز هوبكنز في الولايات المتحدة الأمريكية، وشارك في كثير من الاكتشافات الأثرية، وله مؤلفات عديدة بالعربية والإنكليزية، وكتب روايات أيضا للكبار والفتيان عن أعلام من الآلهة المصرية القديمة وغيرها.
صدرت له في معرض الكتاب هذا العام مجموعة رائعة من الكتب منها «سحر الصعيد» و»أسرار الأهرامات»، وكتاب «الأساطير المصرية القديمة «. رحلة تكاد تكون بصرية مع الأساطير.. لا اقصد ملحق الصور في آخر الكتاب رغم أهميته، لكنني أقصد لغة الباحث التي تكشف، فضلا عن المعرفة، قيمة أدبية في التعبير، تمسك بالقارئ عقلا وروحا. الكتاب صادر عن دار الرواق المصرية للنشر في حوالي ثلاثمئة صفحة، وهو سرد تاريخي عن نشأة الأساطير وتغير أشكالها مع ما مرّ على الدولة المصرية القديمة من تغيرات في عهود مختلفة، حتى دخول اليونان فالرومان إلى مصر، والتمازج الذي حدث بين بعض الأساطير.
يبدأ بالحديث عن عبقرية وإبداع المصري القديم، وكيف باختراع الكتابة أنقذ العالم كله من التيه الذي سيطر على عصور ما قبل التاريخ، لفترة زمنية طويلة، فصار المصري يكتب قصة الحضارة، واهتدى إلى فجر الضمير الإنساني بمعرفته وإيمانه بإله خالق عظيم مدهش الإبداع، ليس كمثله شيء. كما آمن المصريون بحياة أخرى بعد مرور المتوفى بمحكمة إله الموتى وسيد الأبدية الرب أوزوريس سيد العالم الآخر، ومن ثم أعدّوا للموت عدته كما يجب أن تكون، بدءا من المقبرة التي تصمد أمام عوادي الزمن، حتى البعث والحياة في «حقول الإيارو»، أو جنات النعيم. رحلة مع الكتابة ومصادر المعرفة الأولى للأساطير في نصوص أو متون الأهرام، والتعاويذ المنقوشة داخل الأهرام، ابتداء من القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد، وهي النصوص الجنائزية، التي تضمن مرور الملوك المدفونين في أهراماتهم بأمان عبر الحياة الآخرة. كيف تطورت نصوص الأهرام فوصلت إلى نصوص التوابيت، أو متون التوابيت، الخاصة بأفراد ليسوا من العائلة المالكة. كيف جاء كتاب الموتى لاحقا حافلا بهذه النصوص. كيف شهدت الدولة الحديثة تطورا لنوع آخر من النصوص الجنائزية يحتوي على أوصاف مفصلة للرحلة الليلية لإله الشمس رع، وعرفت باسم «إيمي دِوات» أو كتاب البوابات أو كتاب الكهوف وغيرها.
كانت المعابد طبعا من أهم مصادر الأساطير، واحتوى كثير منها على مكتبة ألـ»بِر عَنخ» أو مكتبة المعبد لحفظ أوراق البردي الخاصة بالطقوس والتراتيل والأساطير المرتبطة بالآلهة. كما تظهرالنصوص والرسوم التوضيحية الخاصة بالأساطير أيضا في زخرفة مباني المعابد، وتشبه ما عثر عليه في البرديات. كيف تُعد معابد العصر البطلمي والروماني المزينة بشكل متقن والمُحافظ عليها جيدا، مصدرا غنيا للأساطير. كما كانت كتابات اليونانيين والرومانيين مثل هيرودوت وديودور الصقلي وبلوتارخ، الذي احتوى كتابه «إيزيس وأوزوريس» على أطول سرد قديم للأسطورة، لكن معرفتهم كانت محدودة ومتحيزة بعيدا عن المعتقدات المصرية، وجاءت الكشوفات التالية بما هو أوسع وأرحب مما كتبوا.
لماذا كانت الأساطير؟ سؤال محوري، لأساب عدة منها أن المصري القديم كان يبحث عن أهداف شخصية مثل، الحماية من المرض، أو الشفاء وكان يطلق عليها غالبا «الطقوس السحرية» والأساطير المصرية عبارة عن مجموعة قصص هدفت إلى توضيح وشرح تصرفات الآلهة وأدوارها في الطبيعة كوسيلة لفهم العالم من حولها. كانت أحيانا تتعارض مع بعضها بعضا، أو تختلف وتتغير فيها العلاقة بالآلهة، فمثلا كان يمكن للمصريين إطلاق لقب أم أو ابنة إله الشمس رع، على الإلهة حتحور، أو دمج أكثر من إله معا في شكل واحد، كما حدث بدمج الإله الخالق آتوم مع رع ليشكلا معا «آتوم رع». كان من أبرز الأسباب الشائعة لذلك هو تغير الزمن، وتغير الأماكن التي خرجت منها. عبادة آتوم رع مثلا تمركزت في مدينة الشمس أو هليوبوليس أو عين شمس الآن، وفيها تكونت عائلة أسطورية من التاسوع، أو الأرباب التسعة.
كانت المعابد طبعا من أهم مصادر الأساطير، واحتوى كثير منها على مكتبة ألـ»بِر عَنخ» أو مكتبة المعبد لحفظ أوراق البردي الخاصة بالطقوس والتراتيل والأساطير المرتبطة بالآلهة. كما تظهرالنصوص والرسوم التوضيحية الخاصة بالأساطير أيضا في زخرفة مباني المعابد، وتشبه ما عثر عليه في البرديات.
كما غلف المصريون أفكارهم الدينية القديمة بأفكار جديدة، فمثلا قيل إن الإله بتاح، الذي تركزت عبادته في منف أو ميت رهينة في محافظة الجيزة كان هو أيضا خالقا للكون، ومخرجا للعالم من العدم، وأن تاسوع هوليوبوليس أحدث منه، وبتاح هو الأقدم والأعظم. يبحث الأسباب السياسية وراء ذلك بتفصيل ضافٍ، ثم يدخل في الأحاديث عن الأساطير لتكتمل المعرفة، فتشمل أساطير خلق الكون أسطورة عين شمس، وأسطورة منف، وأسطورة الأشمونينن، وأسطورة طيبة وأسطورة إيزيس وأوزيريس وأسطورة إله الشمس رع وأسطورة البقرة السماوية وغيرها. أتوقف قليلا عند مغزى هذه الأسطورة حين اختار الرب رع بعد استشارته للآلهة الأخرى، الإلهة حتحور لتكون عين رع العنيفة، التي تقوم بالعقاب الإلهي للبشر، وقد فعلت ذلك بذبح المتمردين وجلبت الموت إلى العالم، ونجا الناجون منها حين خدعها الرب رع بوضع جعة مصبوغة بلون أحمر تشبه الدم كي تشربها حتحور فتسكر وتتوقف وحدث ذلك. أساطير أخرى مهمة، ثم حديث مفصل عن مغزى الأساطير المصرية، لننتقل إلى الحديث عن أساسيات الديانة المصرية وبحث مفاهيم الكون والمَلكية، والنصوص الطقسية والسحرية، والصلوات والترانيم، والمعابد وشكل بنائها، والاحتفالات الرسمية وطقوسها، والسحر والوحي والديانة الشعبية في المقابل وتجلياتها.
ثم يعود بك بتفصيل أكبر إلى تاريخ وتطور الديانة المصرية من فترات ما قبل عصر الأسرات، ثم الدولتين القديمة والوسطى، ثم الدولة الحديثة وأحاديث عن أخناتون وديانة آتون، والترنيمة العظيمة للرب آتون – الشمس. يرى أن أخناتون وعبادة آتون ـ الشمس، ليس مؤكدا أنها كانت من أجل التوحيد، لكن لقناعة أخناتون مثلا بعدم عبادة أي إله آخر غير ربه هو الإله آتون، ولم ينكر وجود آلهة أخرى.
لقد تعطل النظام الديني القديم بظهور أخناتون، الذي نقل حتى العاصمة إلى مدينة جديدة هي «آخت آتون» في تل العمارنة في المنيا، وسميت تلك الفترة بعصر العمارنة، وافتقد عصره إلى الأساطير المتطورة، وظل كثير من المصريين على عباداتهم القديمة سرا على انفراد. لم يطل الأمر بمشروع أخناتون، وعاد العدل إلى الأرضين كما قيل قديما فعاد آمون ورع وغيرهما إلى معابدهما.
تجد في الكتاب أكثر من قسم عن تجليات الديانات في الدفن عبر التاريخ وكيف تطورت المقابر من مصاطب في الصحراء إلى الأهرامات، والعادات الجنائزية مثل التحنيط الذي أريد به الخلود، وكيف كان يتم وطقوسه، وكيف كان يُعتقد أن المومياوات تمتلك خصائص علاجية، فظهر من يقوم بطحنها وتحويلها إلى مسحوق لبيعها واستخدامها كدواء! كما يتحدث عن المواكب الجنائزية لرحلة الصعود إلى النهار أو الآخرة، وكيف تتم محاكمة الموتى. وقسم تفصيلي أيضا عن الكتب الدينية مثل نصوص الأهرام ونصوص التوابيت وكتاب «الإيمي دوات»، أو ما هو موجود في العالم السفلي، وغيره من الكتب. تعويذات الكهوف الاثنتا عشرة، حيث في كل كهف مجموعة من الآلهة تمنح فوائد لروح المتوفى، وتمكنه من الحركة بحرية في الحياة الأخرى. وتعويذة رع وكيف كان اكتشافها ومعانيها، حتى يأتي القسم الأخير في معجم الآلهة المصرية. معنى آتوم وآتون وأمون وأنوبيس وأوزيريس وإيزيس وجب وتفنوت وخنوم وسخمت وباستت وغيرها ومعابدها في مصر. هي معانٍ مرت عليك في الأحاديث عن الأساطير بلا شك، لكن إفرادها في معجم خاص عمل مفيد للقارئ. الحقيقة أن الكتاب كله يكاد يكون ملحمة معرفية وراءها ثقافة ومعرفة عظيمة، ويعتمد على مراجع بالعشرات، أجنبية ومصرية، فضلا عن دراسة وعمل المؤلف حسين عبد البصير نفسه، الذي حجز له مكانا مرموقا بين علماء الآثار والمفكرين..
روائي مصري