مقالات

باكستان تتجه نحو حكومة ائتلافية

باكستان تتجه نحو حكومة ائتلافية

د. سعيد الشهابي

لم تحظ الانتخابات الباكستانية الأخيرة التي لم يحقق فيها أي من الأحزاب المتنافسة فوزا كاسحا، بالاهتمام الإقليمي أو الدولي الواسع. ولكن هناك جهة محورية لم تكن تراقبها فحسب، بل تخطط لنتائجها. وحيث أن الجناح الداعم للسيد عمران خان، الزعيم المعتقل، قد حقق أكثرية نسبية من المقاعد البرلمانية بالحصول على 100 مقعد، يفترض أن يتم الإيعاز له بتشكيل الحكومة الجديدة، ولكن المسألة ليست بهذه البساطة.
فالجيش الباكستاني يعتبر اللاعب السياسي الأكبر في بلد قادر على أن يكون قوة إقليمية عملاقة لو أتيح لشعبه ممارسة دور يناسب حجمه وانتماءه وتطلعاته. ولو لم يكن للعسكر دور مباشر في الممارسة السياسية الباكستانية، لربما كان من الأرجح فوز نجم رياضة الكريكيت السابق، عمران خان. لكنه يقضي حكما بالسجن أربع سنوات منذ الانقلاب العسكري عليه (بتصويت برلماني) في أبريل ـ نيسان 2022 ، وقد منعت الحركة التي يقودها حزب حركة الإنصاف الذي يقوده من خوض الانتخابات. ولذلك شارك مناصروه في الترشح والانتخاب كمستقلين. وليس خافيا أن الانقلاب كان مدعوما من الولايات المتحدة وقام العسكر بتنفيذه. فقد عرف عن عمران خان توجهاته التي لا تنسجم مع السياسات الأمريكية خصوصا على مستوى العلاقات الخارجية. فهو داعم للقضية الفلسطينية ورافض لإقامة العلاقات مع «إسرائيل» وكان داعما للعلاقات الباكستانية ـ الإيرانية، كما رفض مسايرة السياسة الأمريكية تجاه روسيا والصين. وقد تم التنكيل به على نطاق غير مسبوق منذ إعدام الرئيس الأسبق، علي بوتو، في العام 1979 بتهم أغلبها ملفق.
وقد اعتادت القوات المسلحة الباكستانية على أمور عديدة: أولها ممارسة دور سياسي محوري في سياسات البلاد الداخلية والخارجية، ثانيها التدخل لتحديد هوية السياسيين في المناصب العليا وفي مقدمتها رئاسة الوزراء. ثالثها: أنها تمارس أدوارا تتجاوز كثيرا ما يُتوقع من القوات العسكرية في البلدان، فهي التي ساهمت في تأسيس حركة طالبان قبل أكثر من ثلاثين عاما، وهي التي كانت وراء إعدام بوتو قبل 45 عاما، والإطاحة بابنته، بينظير من رئاسة الوزراء مرّتين في العامين 1990 و 1996، ثم سجن زوجها، آصف علي زردري أكثر من 11 عاما. ويتردد أن لها دورا في زراعة المخدرات والاتجار بها. ومن المؤكد أن شخصية مثل عمران خان، لا يمكن ان تحظى بثقتها نظرا لإصراره على التصرف بمحض إرادته بعيدا عن إملاءات الجيش.
الانتخابات الأخيرة لم تكن خارج المألوف. فلم يسمح لمن لا يتناغمون مع القوات المسلحة بالترشح لأكبر منصب في البلاد. كما سعت القوى الخارجية المعادية لفرض أجواء التوتر والخوف من خلال أعمال الإرهاب والعنف في مناطق عديدة. وقد حدثت تفجيرات عديدة في الأيام التي سبقت الاقتراع راح ضحيتها أكثر من 40 شخصا. وفي يوم الانتخابات وحده لقي 28 مواطنا مصرعهم في أعمال إرهابية مقيتة. وهناك أسماء لمجموعات مسلحة تهدف لزعزعة أمن هذا البلد المسلم الممنوع من لعب دور بارز على صعيد القضايا الإسلامية خصوصا قضية فلسطين. وإذا كانت أعمال العنف تتم باستخدام أسماء عديدة آخرها تنظيم «الدولة الإسلامية» المعروف بـ «داعش» فإن هناك مجموعات إرهابية أخرى تمارس العنف في باكستان من بينها جماعة «عسكر جهنوي» المنشقة عن مجموعة «سباه صحابة» وكذلك «سباه محمد» وجيش تحرير بلوشستان وجيش بلوشستان الجمهوري، بالإضافة لحركة طالبان الباكستانية. وما أكثر أعمال العنف والإرهاب التي تحصد أرواح الأبرياء، ففي 30 يناير من العام الماضي تبنت حركة طالبان هجوما في مدينة بيشاور أدى لقتل 36 شخصا وإصابة 147 آخرين في تفجير انتحاري وقع داخل مسجد بالقرب من مقر للشرطة بالمدينة التي تعتبر عاصمة إقليم خيبر بختونخوا شمال غربي البلاد.

لم تحظ الانتخابات الباكستانية الأخيرة التي لم يحقق فيها أي من الأحزاب المتنافسة فوزا كاسحا، بالاهتمام الإقليمي أو الدولي الواسع

وفي 29 سبتمبر الماضي قتل 54 شخصا وأصيب عشرات في تفجيرين بإقليمي بلوشستان وخيبر بختونخوا بباكستان، خلال احتفالات بذكرى المولد النبوي الشريف. وفي 20 أغسطس لقي 11 عامل بناء مصرعهم شمال باكستان بالقرب من الحدود مع أفغانستان، جراء انفجار عبوة ناسفة زرعت في سيارتهم. وفي 31 يوليو الماضي فجّر انتحاري نفسه في تجمع سياسي أقيم في شمال غربي حي باجور. فقتل 45 شخصا على الأقل. واستهدف الهجوم جمعية علماء الإسلام، وهو حزب سياسي ينتمي إلى التحالف الحاكم في البلاد. وقد شهدت أعمال العنف والإرهاب في باكستان زيادة كبيرة في عدد الهجمات منذ عودة طالبان إلى الحكم في أفغانستان المجاورة عام 2021.
ويمكن هنا تسجيل بعض الملاحظات حول استهداف باكستان بأعمال العنف السياسي والطائفي، والاضطراب السياسي والأمني.
الأولى: أن باكستان دولة مسلمة كبرى تمتلك من الإمكانات البشرية والمادية والتكنولوجية ما يجعلها قادرة على المساهمة بتطوير إمكانات الدول الإسلامية الأخرى. وتستطيع باكستان لعب دور سياسي محوري في مشاريع وحدة الأمة وتجمعاتها السياسية مثل منظمة التعاون الإسلامي. وكانت في منتصف الخمسينيات عضوا أساسيا في حلف «سنتو» أو «حلف بغداد». كما تستطيع أن تكون رائدة في مشروع تحالف إسلامي عملاق يضم دولا كبرى مثل أندونيسيا وماليزيا وبنغلاديش وإيران ومصر والجزائر، ككتلة لتحقيق توازن دولي فاعل.
الثانية: أن باكستان، لو أتيحت لها فرصة الاستقرار السياسي والأمني لتوفرت لها القدرة لممارسة دور قيادي في الصراع مع «إسرائيل». فالشعب الباكستاني معروف بحماسه للإسلام وأمته. وكان هذا واضحا في نفرته لنصرة رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام عندما استهدف بكتاب «آيات شيطانية» وكذلك حين نشرت صحيفة دنماركية رسومات كارتونية مهينة.
الثالثة: أن باكستان كيان تأسس على الإسلام عندما قاد محمد علي جناح مشروع الانفصال عن الهند بهدف إقامة وطن لمسلمي شبه القارة الهندية، فكانت باكستان تجسيدا لذلك الطموح. هذا يعني ان الإسلام مشرئب في البناء السياسي الباكستاني، وإن لم يتبلور عمليا في التوجهات العامة للبلاد. ويخشى الغربيون أن تكون هذه السمة دافعا لباكستان لقيادة مشاريع فكرية وأيديولوجية ترتبط بمقولات الهوية والوحدة والأسلمة والاستقلال الثقافي والسياسي.
أما البعد الآخر لباكستان، بالإضافة لتجربتها الديمقراطية فيتجسد بنجاحها في تطوير التكنولوجيا النووية التي أهّلتها لدخول النادي النووي بجدارة. وتكفي الإشارة إلى عبد القدير خان، الذي توفي في أكتوبر 2021 بعد أن أثار الغربيون حوله ضجة كبرى واتهموه بنقل التكنولوجيا النووية إلى بلدان مسلمة مثل ليبيا وإيران. هذا العالم الباكستاني في الفيزياء النووية، والمهندس بعلم الفلزات وعلم السبائك، يعتبرالأب الروحي للبرنامج النووي الباكستاني حيث أنه المؤسس له والعنصر الأبرز في وجود أول قنبلة نووية باكستانية. وباكستان النووية هي ما يخشاه الغربيون وما يعملون لاحتوائه. وقد عمدوا لحرمان العالم الإسلامي من التكنولوجيا المتطورة، حتى بلغ الأمر ان ترفض بعض الجامعات الغربية خصوصا في أمريكا وبريطانيا السماح للطلاب من بعض الدول الإسلامية بالبحث في تخصصات التكنولوجيا المتطورة. فهذا، في نظر الغرب، سيؤدي لتعادل ميزان القوى العسكري مع «إسرائيل» ويضرب المبدأ الغربي الذي يصر على ترجيح التفوق العسكري الإسرائيلي. وقد تم التحريض ضد عبد القدير خان، حتى أبعد عن منصبه وفرض عليه العيش في ما يمكن اعتباره سجنا انفراديا في منزله حتى وفاته قبل أكثر من عامين.
وتشعر باكستان أنها على خط التماس مع الهند التي تشاركها حدودا طويلة كثيرا ما شهدت توترات وتهديدات باندلاع مواجهات مسلحة واسعة. لذلك فإن المأمول ان تكون نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة خطوة تساهم في استقرار باكستان وتؤدي إلى تلاحم وطني يساهم في تمتين الجبهة الداخلية في مواجهة التهديدات الخارجية، سواء من الهند أم «إسرائيل». والأمل ان تتوقف الاستفزازات الموجهة لهذا البلد من جيرانه وإخوانه في أفغانستان، فإن إضعاف باكستان لن يفيد أحدا بل سيصب لصالح أعداء الأمة الذين يراهنون على بقاء باكستان قوة مجمّدة على صعيد العمل الإسلامي المشترك.

كاتب بحريني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب