مقالات

شكري وضمير الغائب الفلسطيني في ميونخ

شكري وضمير الغائب الفلسطيني في ميونخ

سامح المحاريق

كاتب أردني

عارضت العديد من الدول العربية، تصريحاً وتلميحاً، مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية في مؤتمر القمة العربية في الخرطوم الذي انعقد في آب/أغسطس 1967، وفي اللحظات الأخيرة وجهت الحكومة السودانية الدعوة لأحمد الشقيري للحضور إلى العاصمة السودانية، وتعرض رئيس المنظمة إلى أكثر من موقف محرج ومهين، مثل وضعه خارج الفندق الذي استضاف القادة العرب، وللإنصاف، فإن وزير الخارجية السوداني محمد أحمد المحجوب بذل جهوداً مضنية لتمكين الفلسطينيين من التحدث في القمة وعرض وجهة نظرهم في المؤتمر، وتوفير المعاملة الكريمة لوفدهم.
كانت لحظة الهزيمة في يونيو/حزيران 1967 عميقة في أثرها على العرب والفلسطينيين، وحتى لو لم يكن واضحاً، فالثمن الذي سيدفع لاستعادة الضفة الغربية وقطاع غزة، كان سيعني اعترافاً بوجود إسرائيل التي عليها أن تنفذ الانسحاب من الأرض المحتلة في النكسة، وهو ما تحدث به صراحةً الرئيس جمال عبد الناصر في الاجتماعات المغلقة للقمة. وأمام الخسارة الهائلة كانت الخطة (ب) بالنسبة للشقيري في حال انصاع السودانيين للضغوط باستثناء منظمة التحرير من الحضور، هي توجه شفيق الحوت إلى أحد مساجد الخرطوم الكبيرة ليحرض الجمهور السوداني على حكومته، وكانت الأجواء من التوتر بحيث تجعل خروج السودانيين في تظاهرات عارمة تهدد القمة أمراً وارداً، ولعل القمة في الخرطوم كانت أكثر القمم العربية حضوراً للجماهير العربية في الشوارع، يترقبون وينتظرون القرارات التي سترشح عنها اجتماعات القادة العرب الذين خرجوا باللاءات الثلاث، لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف.

كانت لدى الوزير شكري فرصة للرد بعشرات الإجابات الأفضل والأكثر حنكة، بل وأن يقلب الطاولة على تسيبي ليفيني ويفكك مقولاتها وتجنياتها على الفلسطينيين

من الحنجرة السودانية خرج الصوت الفلسطيني بعد النكسة، على الرغم من كل جراحه مستقلاً وواضحاً، ولكن الدول التي عارضت التواجد الفلسطيني، أو اعتبرته صرخة دونكيشوتية يائسة، عملت بصورة واسعة على تأميم بعض الصوت الفلسطيني، واستطاعت أن تستحوذ بعض الدول على تنظيمات خاصة تعبر عن أولوياتها ووجهات نظرها داخل المنظمة، أو تفرض رجالها داخل التنظيمات الفلسطينية المختلفة.
تعرض الفلسطينيون إلى الكثير من الضغوطات من الدول العربية، ووصلت محاولات تأميم الصوت الفلسطيني وحرية الفلسطينيين في التعبير عن مصالحهم وأولوياتهم إلى ذروتها في العلاقة مع المصريين، وكان الفلسطينيون يقبلون بشكل أو بآخر، تدخلات الرئيس جمال عبد الناصر، ولكن على أرضية زعامته العربية الشاملة، وحديثه عن فلسطين بوصفها مشكلة استراتيجية عميقة، وليست مجرد ورقة، فالرئيس المصري قال وقتها: أنا سينا ما تهمنيش، ولكن ما يقلقني هو الضفة الغربية.
أما الرئيس السادات فتجاهل الواقع المعقد للفلسطينيين، واختزل القضية في الأراضي المحتلة في النكسة، وفي قرارات أممية غائمة، متناسياً مدى التشظي والتعقيد الذي تشهده القضية الفلسطينية، ليصور الفلسطينيين بأنهم الطرف الذي يعرقل جهوده للسلام. ومع اتفاقية كامب ديفيد بدأ الفلسطينيون يتحولون إلى مادة للصراع العربي بصورة واضحة، ويدخلون في محطات من التجاذب الشرس، فالسلام أصبح حاضراً على الطاولة، ويجب أن يخدم الموقف الفلسطيني التوجهات العربية المتناقضة بخصوصه.
كل محطات الاستحواذ على الصوت الفلسطيني لم تصل إلى تلك الثقة اليقينية التي تحدث بها وزير الخارجية المصري سامح شكري في مؤتمر ميونخ قبل أيام، فالوزير يجيب على سؤال وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفيني حول حركة حماس، ويقرر أن الحركة خارج الأغلبية الفلسطينية المعترف بها، مخالفاً آخر واقع تشريعي داخل غزة والضفة الغربية، ويضع في إطار محدد كتلة فلسطينية مشتتة ومتناثرة بصورة لا يمكن الإحاطة بها، وكأنه يختزل القضية الفلسطينية والسلام الذي علقته إسرائيل لأكثر من عقدين من الزمن، في التفاصيل الخاصة بالسلطة الوطنية التي تعتبر جزءاً من المشهد الفلسطيني، ولا يمكنها أن تستحوذ على كافة أطرافه وأطيافه. كما أن هذه السلطة تعرضت لمحاولات الإفشال الإسرائيلي المتواصلة وجميع المبادرات التي طرحت من أجل تمكينها لتتحول إلى طرف فاعل في بناء واقع أفضل للفلسطينيين.
يتابع شكري، في لحظة أظهرت مدى تغييبه للعديد من العوامل الفاعلة في تاريخية العلاقة مع حركة حماس بوصفها جزءاً من المقاومة الفلسطينية، مطالباً بمحاسبة الجهات التي مكّنت حركة حماس في قطاع غزة، وهو المحاسبة التي يجب أن تلحق بأطراف مصرية كثيرة، ومنها الرئيس السابق محمد حسني مبارك الذي لم يسقط ورقة حماس مطلقاً من اعتباراته، وتمكن من توظيفها من أجل مضايقة الإسرائيليين الذين لم يوفروا فرصةً لمضايقته وإحراجه.
كانت لدى الوزير شكري فرصة للرد بعشرات الإجابات الأفضل والأكثر حنكة، بل وأن يقلب الطاولة على تسيبي ليفيني ويفكك مقولاتها وتجنياتها على الفلسطينيين بشكل عام، وحركات المقاومة بشكل خاص، ولكن الاستيلاء على الصوت الفلسطيني بمعناه الشامل وتفريعاته المعقدة هو الطريقة الأسهل والمضمونة، فهو يتحدث عن أغلبية مقبولة لا يعلمها الفلسطينيون أنفسهم، ولا تزعم أي جهة فلسطينية أنها تمثلها، ثم يقوم بإزاحة مكون رئيسي أوصلته إسرائيل إلى مرحلة الانفجار بعد سنوات من الحصار والتجويع، ويستخلص الإجابة التي تريحه، مع أنه يعرف أن وجود وزارات الخارجية بشكل عام يخلق فرصة لبناء هامش من المناورة أمام الدول، وأنهم الأشخاص الذين يمكن أن يتحركوا في تلك الهوامش التي تضبطها سياسة الدولة في النهاية، فما الذي تركه شكري للدولة المصرية التي تستضيف ممثلين لحركة حماس، ومعظمهم يحظون بعلاقة جيدة مع أجهزة مصرية مؤثرة، ولمصر مصلحة تاريخية واستراتيجية في المحافظة على قنوات التواصل والتأثير في قطاع غزة.
في السنوات الأخيرة ظهرت نزعة استقلالية، ولو شكلية، بين وزراء الخارجية والدبلوماسيين العرب، ولكن يبدو أن الوزير شكري لم يلحظ هذه التحولات، وبقيت إجابته في خانة المضمون، ووضع الفلسطينيين في ضمير الغائب بوصفهم (الحيطة الواطية) والطرف تحت الوصاية.

كاتب أردني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب