
الشهيد آرون بوشنل
بقلم أحمد بشير العيلة
منحُ رتبةِ الشهادة يحتاج منك أن يسري البرقُ في عروقك موسماً كاملاً من الحرقة على قضيةٍ عادلة، يحتاج منك الإنتماء، ومزيداً من الانتماء المعزّز بعشق العدالة وبغرس قيمة الحق في خلاياك، يجعل تلك الخلايا مصابيحَ ويجعلك مجرة، وهذا تماماً ما حدث مع الطيار الأمريكي البطل آرون بوشنل، لقد عرف أين يتجه وعيه، وإلى أي قبلة يصلي فؤاده، لقد صلى وهو يوجه قلبه نحو أولى القبلتين، مستغفراً عن ذنبٍ لم يرتكبه هو، بل ارتكبته مؤسسته الضالعة في الكراهية لما هو عربي أو مسلم، سلاح الجو الأمريكي الذي يقصف مدن الأمل في روحك بقنبلة نووية، ويحرق بيادر شوقك لبلادك بالقنابل الحارقة، رفض البطل آرون بوشنل أن يكون أداةً له، لأنه إنسانٌ خالصٌ نقي كنهرٍ عذب وجد نفسه فجأة يجري بين سباخ الإمبريالية، وفوق صخور المعتقدات الناتئة وسط الظلمات، البطل آرون بوشنل كان جيشاً بأكمله يمشي وحيداً، واثق الخطوات ثابت النفس، وبمعجزةٍ إلهية جعلت جندياً أمريكياً يحول نفسه إلى قاعدة مدججة بسلاحٍ لا نراه، ويدافع عن غزة، نفسها غزة التي يفنيها سربه الجوي، بمعجزةٍ كان يزف نفسه للشهادة مصرّاً على أن يصل إلى ذروة التضحية؛ التضحية بالنفس، كانت خطواته العسكرية نشيداً يسري في شرايين الزمن، رافعَ الرأس معاهداً الزرقة أن يحلق فيها ثم ينادي من فوق السماوات: (فلسطين حرة)، جمع البطل آرون بوشنل في قلبه مشاعر ألف مظاهرة مليونية دارت حول الأرض، وأمكنه بذلك أن يصبح مداراً تقصده الشموس.
أمام سفارة الكيان الصهيوني، كان الحدث فوقَ أسطوري، سُخّرت فيه المراسم العسكرية من أجل عقيدةٍ كانت تنمو داخله شجرةَ زيتون، عقيدةٍ كانت أقوي من العقائد السامة لمؤسسته، عقيدة ستتحول إلى لعنةٍ قاتلة. أمام سفارة دولة الاحتلال؛ وقف البطل آرون بوشنل، لبسَ قبعته العسكرية، سكب ماء النجوم على نفسه، بإصرارٍ ملحوظ قدح شعلةً من روحه، فإذ بفلسطين تنصهر في خلاياه فينطلق الضوء طيوراً تصرخ في فضاءٍ سرمدي (فلسطين حرة .. فلسطين حرة)، وهو لعمري أقوى نداءٍ سمعته عبر ملايين النداءات المشابهة في المعنى واللفظ.
“لن أتواطأ في الإبادة” قالها كنبيٍّ بُعث للتوّ وهو يتجه إلى المحرقة، ومما نزل عليه من الآيات صوته وهو يجهر بالنبوة: (قررت عدم السكوت على الإبادة الجماعية بأي شكل من الأشكال، وأعلنت عزمي على المشاركة في نوع من الاحتجاج المتطرف، لكنني أشير إلى أنه في مقارنة بما يتعرض له الناس في فلسطين على يد [الإسرائيليين]، فإن تصرفي ليس متطرفاً بتلك الطريقة على الإطلاق).
النبي المحترق آرون بوشنل ارتقى شهيداً في أول مواجهةٍ بين الحق والباطل، بين الخير والشر، ولم يسعفه عمره في أن يشاهد أتباعه الذين ينسلون الآن ليغيروا بعقيدته مجرى التاريخ، ويقتبسوا من ناره المقدسة ضوء الفجر لهذا العالم.
أيها النبي المحترق آرون بوشنل، اسمح لي كفلسطيني أن أهبك لقب شهيد، فنحن أكثر الناس استحقاقاً في منح هذا اللقب، اسمح لي أن أتجاوز العقبات الفكرية ليصل ضوؤك في قلبي ومنه إلى السماء، إن منحك لقب شهيد، يضع الحقائق في نصابها، فأنت لم تنتحر، بل ضحيت بنفسك من أجل فلسطين، بل من أجل عالمٍ حر، أن أمنحك أنا الفلسطيني لقب شهيد، فهذا يعني أنني أُزين قائمة شهدائنا باسمك، وأسقي أشجار الزيتون حول القدس بروحك، وأغسل أقدام المسيح بيديك.
أن أمنحك لقب شهيد، فأنا أراهن على أن الحرية آتية لا محالة، كيف لا وقد كانت كلمة (فلسطين حرة) تزف روحك الصاعدة للملكوت. أن أمنحك لقب الشهيد، فهذا يعني أني أجعل خارطة وطني أكبر الخرائط كي تتسع للشهداء القادمين من قارات الأرض، ستجد بجوار اسمك المضيء اسمَ راشيل كوري الشهيدة الأمريكية التي داستها جرافات الاحتلال الصهيوني البشع، إن بين بوشنيل وراشيل ثمة نهرٌ من البشر يعبر الأرض من منتصفها قاسماً إياها إلى خيرٍ مطلق اسمه فلسطين، وشرٍ مطلق اسمه (إسرائيل)، فمن أراد الحياة نطق باسم فلسطين، ومن أراد الموت فليسجد (لإسرائيل).
كاتب فلسطيني