دراساتمقالات

الدولة واللادولة في العراق بقلم علي رعد

الدولة واللادولة في العراق بين خيار الدولة الناجحة الى الدولة الفاشلة المستوردة المارقة العميقة

لا يختلف اثنان أن إيجاد حلول واقعية ناجعة تؤمن للعراق مستقبلا إنسانيا آمنا ، مستقرا ومزدهرا تنمويا مستداما تستدعي الخروج السليم من مآزق وإشكالية منهج الدولة واللادولة في العراق حيث شكل معضلة وعقدة لابد من تفكيكها او حلها إن أمكن كونها مازالت تمثل حلقة مهمة من حلقات التاريخ السياسي للعراق

والتي تأججت من خلالها اشكال من الصراعات السياسية بصورة أضحت غير مقبولة بل ومستهجنة سياسيا – ما يستدعي من الجميع وقفة وطنية “سياسية – أمنية» وقضائية وإعلامية جادة بل وحاسمة لمنع تكرار مسلسل إضعاف الدولة في مقابل إعلاء قوى اللادولة المؤججة للصراعات التي قد تصل للعنف الدموي أو «حروب» غير محمودة العواقب ما قد يتسبب بإنهيار الدولة.

إبتداءا لامجال للتفاضل او للاختيار بين الدولة واللادولة خاصة إذا ما امتلكت اللادولة إمكانات القوة الخشنة Hard Power عندها تمثل صورة قاتمة سلبية تهدد السلم الاجتماعي – المدني والسيادة الوطنية بل وبقاء الدولة بكيانها وعناصرها المعروفة : الارض ، الشعب ، سلطة الحكم (النظام السياسي) والسيادة الوطنية. علما بإنه وفي كل جزئية من عناصر الدولة يمكن ملاحظة تناقضات حادة تأخذ اشكالا متنوعة من صراعات سياسية حادة بين من يمتلك السلطة والمال والعزوة او الجاه الاجتماعي – الاقتصادي كونه في موضع اقوى بكثير ممن لايمتلك أيا من عناصر القوة بمفهومها الشامل. تراكمات تاريخية – سياسية –ثقافية – اجتماعية –تربوية – اقتصادية وغيرها أنتجت في المحصلة النهائية واقعا مآساويا إنسانيا (من حروب وصراعات دموية وحصارات اقتصادية) ما انفك العراق وشعبه يعانون من آثاره السلبية ، اللهم إلا في بعض المراحل السياسية محدودة الاثر من تاريخ العراق السياسي الحديث حيث تفوقت بعض الايجابيات على السلبيات عندها حقق العراق مستويات حضارية مشهودة في العلم والمعرفة والتقدم في المجالات الادارية ، العلمية والانسانية . علما بإن أيباحث موضوعي عقب 2003 يمكنه أن يلحظ وجود مؤشرات فشل إستراتيجي (إداري –سياسي– اقتصادي – إجتماعي – ثقافي – تربوي)واضح المعالم ترافق مع الاحتلال الامريكي للعراق . إن تأسيس نظام سياسي قائم على تطبيق نهج المحاصصة المقيت ذات الابعاد الشاملة (مذهبيا – عرقيا – قوميا – جهويا وعشائريا) هيئ المناخ المناسب لانتشار قوى اللادولة العنفية Violent Non-state Actorsالتي أضعفت بحق الدور المؤسسي الديمقراطي الحقيقي للدولة في مقابل إعطاء جهات وتكتلات حزبية وسياسية وعسكرية فرصا مناسبة للمزيد من الهيمنة على المشهد السياسي العراقي . علما إن إنتفاضة “ثورة” تشرين 2019 شكلت صورة مشرقة – برغم الخسائر البشرية الغالية والصعوبات المرحلية عقب انتخابات مجلس النواب الجديد في العاشر من اوكتوبر 2021 – لكل عراقي باعتبارها رمزا وطنيا لمرحلة تاريخية مميزة ستنتج إذا ما توافرت الارادة السياسية Political Willمتغيرات جديدة أيجابية بالاتجاه نحو تعزيز قوى الدولة التي يعول عليها مستقبلا في بناء عراق جديد.

تبدو الاشكالية الثنائية” الدولة مقابل قوى اللادولة” ذات أهمية خاصة في تبني أو أستلهام جملة من التناقضات المجتمعية –الثقافية – السياسية الايديولوجية إنعكست بدورها بشكل مباشر او غير مباشر على طبيعة الشخصية العراقية في العراق. فكر جدلي تم طرح مقولاته الاساسية من قبل عددا من علماء الاجتماع السياسي و النفسي. من الرواد البارزين الدكتور علي الوردي رائد علم الاجتماع السياسي الذي أسس فكرا ومنهجا أبداعيا قابلا للنظر وللتطبيق مستلهما أطروحة عالم الاجتماع السياسي الموسعي معرفيا وفلسفيا من بلاد المغرب العربي (إبن خلدون). ما كتب عنه ابن خلدون من مقولات تشيرإلى أن العراق يسير ليس وفقا لمسار مستقيم “إنما هو صراع مستمر بين الحضارة والبداوة ، اي بين ثقافات الحياة الحضرية والولاءات الاساسية للقبائل والطوائف”. ضمن هذا التصور اعتبر الوردي “ ظاهرة إزدواج الشخصية كظاهرة إجتماعية وليست نفسية ، بوصفها نتاج صراع قيمي بين البداوة والحضارة” ( الثابت والمتحول في الشخصية العراقية). هذا وبحكم موقع العراق الجيوسياسي المتصل بالجزيرة العربية نجد من الطبيعي أن تتصاعد موجات من الهجمات والعصبيات القبلية منتجة حالة من إنعدام الامن والاستقرار السياسي . إذ ووفقا لرؤية الدكتور الوردي فإن إنتشار قيم “التغالب البدوي” افرزت صراعا حادا بين “بدوي غالب ، وحضري مغلوب”. علما بإن هجرة الكثير من اصول بدوية وريفية إلى المدن عقب 1958 خلق حالة جديدة من تحضر مديني ممتزج بظاهرة «ترييف المدن» التي أفرزت صراعا سياسيا – اقتصاديا ومجتمعيا آخر بين من يحتكر القوة السياسية – الاقتصادية وأخرين لا يملكون من حطام الدنيا شيئ يذكر “طبقات فقيرة ومحرومة”. ترتيبا على ذلك ، مشكلا الجزء الثاني المكمل من كتاب “اللوياثان الجديد- وحش البحر”New Leviathanالامر الذي يستدعي منا الوقوف مليا للتعمق مجددا في طروحات اساسية ترسخ مفاهيم ثنائية متناقضة «القوة الخشنة والناعمة» ، «الفساد والنزاهة» و، «التخلف والتقدم» ، و»النجاح والفشل» وغيرها. علما بإنه وطالما لاتتوفر قوة ردع كافية من سلطة مركزية فأننا سنستمر بمواجهة التاثيرات الضارة المعيقة للتقدم الثقافي – الاجتماعي والاقتصادي – السياسي– المدني . لفهم طبيعة العلاقة المتبادلة المتفاعلة والمتداخلة بين الفرد ، الجماعة والسلطة السياسية لابد من تحديد الاشكالات التالية :

الاشكال الاول : بمفهوم “اللادولة لا يعني غياب دولة واجب الحضور او شكلا من أشكال الفوضى وإنعدام النظام « . اي أن المعنى الحقيقي للادولة يبين وجود « شكل أخر موازي من أشكال التنظيم الاجتماعي غير مستند على سلطات مستقلة، سلطة لا تحتكر القوة والسلاح ، وتكون مقبولة وموافق عليها مجتمعيا». ضمن هذا التصور يمكننا أن نجد مرجعيات ثقافية – سياسي تسمح بامتلاك القوة الناعمة Soft Powerبموازاة الخشنة نظرا لإكتساب العراقيين قيم حيوية من التسامح والتعايش المجتمعي – السلمي المنفتح على تلاقح الحضارات الانسانية والاستفادة من كل تجاربها في كل تقدم علمي ، تقني ومعرفي يعزز من المشتركات الانسانية ويبتعد عن حالات الصدام الثقافي – الحضاري بكل ما تمثل من معطيات وتداعيات تؤثر سلبا على التنمية الانسانية المستدامة.ووفقا لطبيعة الظروف المتغيرة او حتى غير المتنبأ بها نلحظ تغيير ممنهج لمسارات تتجول براغماتيا مابين القوة الخشنة والناعمة وقد تستقر أخيرا في ظل إطار محدد للقوة الناعمة التي تمثلها جماعات أو منظمات مدنية غير حكومية (لاتمتلك السلاح) تهتم بشؤون الدفاع عن حقوق الانسان وحرياته الاساسية «المدنية – السياسية والاقتصادية – الاجتماعية” ، او بتقديم أنواع من الدعم الانساني للفئات المحرومة والفقيرة. .

الاشكال الثاني: منظور مكمل للاشكال الاول يشير إلى أنه «لايمكن إعتبار اللادولة دولة عميقة او دولة موازية ، إنما مزيج متنوع من الاطراف داخل منظومة الدولة وخارجها» . ضمن هذا السياق يمكن اعتبار اللادولة = «الدولة غير الرسمية» تمثلها : “مجموعة من مختلف القوى والجماعات (المليشيات والاحزاب السياسية) ، وربما الجماعات الاجرامية ، والجماعات القبلية المسلحة”. منطلق وصفه بعض الباحثين ب»الجماعات الهجينة» التي تمتلك السلاح وبناءا عليه تكتسب « أهمية سياسية وعسكرية دائمة من خلال أنشاء قواعد شعبية لها وسط احتفاظها بالاراضي وربما تنخرط في نزاعات مسلحة» . لعل مكن قوة مثل هذه المجموعات يرجع إلى عوامل عدة منها قابليتها في التمركز والتحكم بإدارة مؤسسات الدولة التي تشترك معها بدرجة المسؤولية . جماعات تتمتع بهياكل إدارية ، سياسية ، عسكرية أو أمنية موازية للدولة . مسألة من الصعب الترحيب بها لطالما أنتجت آثارا سلبية على بنيوية وإدارة العراق الحديث بعيدا عن محاربة جدية للارهاب وللفساد. .

الاشكال الثالث : بناءا على متغيرات وبرغماتية التطورات السياسية التي مرت وتمر بالعراق من حرب ضد الارهاب أو ضد الجريمة المنظمة يمكن للسلطات الرسمية أن تستوعب بعض الجهات ولكن بشرط التزامها بقوانين وأنظمة السلطة المركزية الحاكمة دون الخروج عن بنود الدستور والقوانين المرعية . وقانونيا إلى جانب الادوار الاخرى لمؤسسات وأجهزة الدولة الامنية – العسكرية. .من منظور مكمل يمكننا القول بإن العراق ومن خلال اجهزته السياسية والامنية وتأسيسا  بمهنية وقانونية اجراءاتها يسعى ان يجعل سلطاته المركزية تعمل على إحتكار الدولة لأدوات وإمكانات القوة العسكرية – الامنية بما يمكن الدولة العراقية من أنجاز سليم لمهام استتباب الامن الوطني بصورة تعكس التكامل الجيوسياسي – السيادي. أما القوى التي لايمكن استيعابها ضمن إطار الاجهزة الرسمية كونها تحت مسمى “فصائل مقاومة للمحتل الامريكي او لغيره « فإنها تعد جزءا من مفهوم «اللادولة» أمامها خيارات محددة ليس من السهولة تطبيقها افضلها عمليا ان تحول تدريجيا جهدها من عسكري إلى مدني أو ان تقبل بتسليم سلاحها للاجهزة الرسمية للدولة. تطور سيكسبها تأييدا شعبيا –سياسيا اكبر يحد من تمسكها برؤيتها القاصرة على استخدام القوة الخشنة وفقا لأهداف تقيمها وتقدرها وفقا لمعطيات ربما تناقض مصلحة الدولة .

الاشكال الرابع للدولة العراقية حوار استراتيجي مع الولايات المتحدة وصل لمراحل متقدمة ستنهي الجزء الاكبر من الوجود العسكري الامريكي في نهاية العام السابق الى العام الحالي ٢٠٢٣ ، مع تخصيص الجزء المتبقي لمهام مشتركة محددة “ تجهيز وتدريب وتأهيل” هدفها الاساسي مع قوى التحالف الاخرى في النهاية حماية العراق من مخاطر محتملة لداعش او غيرها من عصابات الجريمة المنظمة.

الاشكال الخامس : ضمن ما تقدم من إشكالات يمكن للسلطات الحكومية تفعيل الارادة السيادية الوطنية بهدف التقليل النسبي من حدة مخاطر التدخل الخارجي الاقليمي والدولي. الامر الذي لن يتم بشكل حازم طالما بقيت ولاءات بعض المليشيات او الجماعات بل وحتى الاحزاب والتكتلات السياسية للخارج على حساب السيادة والمصلحة الوطنية للعراق يكثر استخدام مصطلح “الدولة العميقة Deep State” في السياقات السياسية المعاصرة، وعلى الرغم من أن كثير من الباحثين يرجعون بدايات بلورة المصطلح إلى مراحل زمنية قديمة قدم الوجود الإنساني لا سيما عند الغوص في تعريف هذا المصطلح من وجهة نظر هؤلاء، ويدلل أصحاب نظرية تأريخ الدولة العميقة إلى العصور القديمة بارتباط المصطلح من حيث محتواه المفاهيمي مع بعض أشكال العلاقات، والتفاعلات السياسية قديمًا، وهناك من يؤكد أو يرى أن الدولة العميقة من المصطلحات حديثة النشأة، والعهد بتطور العلاقات الدولية، وفي مقتبل الثورات والأحوال المتجددة التي شهدتها الساحة السياسية في مقتبل القرن العشرين، لذا فهناك حاجة إلى بيان الأطر المفاهيمية النظرية، والتاريخية للدولة العميقة.

ماهية الدولة العميقة النشأة والتطور: يمثل مفهوم الدولة العميقة بعض الإشكالات والالتباس في العلاقات السياسية ليس فقط كونه من المصطلحات المعقدة والفضفاضة إلى حد ما، ولكن فضلًا على ذلك تتشابه إلى حد كبير ببعض المفاهيم الأخرى، كمثل مفهوم الدولة الموازية، أو حكومة الظل على سبيل المثال

أما بالنسبة لمفهوم الدولة العميقة فغالبًا ما يستخدم في وصف الأوضاع السياسية الفاسدة المتعلقة بانعدام الشفافية، وتوطين البيروقراطية والحد من إدخال المعالجات الديمقراطية في الأطر العامة للخطط الإدارية للدولة؛ فضلًا عن إضافة عوامل أخرى، وحدود متنوعة لمفاهيم الدولة العميقة قد تكون حالات فردية، فتؤدي في النهاية في معظم الأحوال إلى وجود صعوبة حتمية تتلخص في تعميمه على جميع الدول التي تشير أصابع الاتهام إليها بوجود مرتكزات دولة عميقة بها

ظهرت سياقات الدولة العميقة في الساحات السياسية بدايات القرن العشرين وتحديدًا عام ۱۹۲۳، بمناسبة ما شهدته تركيا من التحركات العسكرية السرية التي قام بها “مصطفى كمال أتاتورك”، وسعت إلى السيطرة على الدولة التركية بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية آنذاك، وتألفت المجموعات المؤيدة لنشاطات “أتاتورك” من أفراد وضباط الجيش والشرطة، بالإضافة إلى رجال أعمال، وإعلام، وسياسة، وتبع هذه التحركات إحداث أعمال عنف، وقتل في حق كل من عارض المشروع العلماني لمصطفى كمال، إذ شمل قتل المزيد من أعضاء الأحزاب ورجال الإعلام والأكراد

وسرعان ما انتشر هذا المصطلح بعد استخدام بعض الساسة من الولايات المتحدة له في وصف الحالة التركية، وانتشر مصطلح الدولة العميقة على أثر ذلك في الاتحاد السوفيتي بعد قيام بعض كبار قادة الشرطة والسياسة والمخابرات بتشكيل تحالف سري يرمي إلى السيطرة على الحزب الحاكم، يحركه هؤلاء تحقيقًا لمصالحهم التي كانت تحت غطاء سياسي، إلى أن وصفت هذه التحركات كمثل دولة داخل دولة، وكان ذلك في مقتبل حقبة سبعينيات القرن العشرين

وانتشرت بعد ذلك مكونات، ومضامين الدولة العميقة لكثير من دول الشرق الأوسط والدول العربية، أن الدولة العميقة متأصلة في السياسة الأمريكية قديمًا عبر اللوبي الصهيوني، وبذلك كانت أولى بدايات الدولة العميقة بشكل تطبيقي في السياسة الدولية، حيث تركزت معظم أعمال القائمين على مقتضيات الدولة العميقة في تنظيمات سرية، أو تسعى إلى السرية في أجهزة بسيطة للغاية تعمل بشكل مشروع، أو غير مشروع. وبطبيعة تطور الأحوال السياسية، وخصوصًا بعد انتهاء الحرب الباردة، وسقوط الاتحاد السوفيتي، والتحول إلى عالم يحكمه اتحاد أحادي القطب الولايات المتحدة الأمريكية- تغيرت الأوضاع، وخصوصًا في منقطة الشرق الأوسط الملتهبة سياسيًا وعسكريًا، وترتب على ذلك ظهور كيانات جديدة أكثر عمقًا، وأكثر تنظيمًا، وتنوعًا، وانتشارًا تسعى وتبذل جهودًا مضنية لأجل السيطرة على أجهزة الدولة الرسمية، وأخذ مزيد من الصلاحيات، والامتيازات؛ وليكون ذلك وفقًا للأطر الشرعية، والرسمية في بعض الأحوال ولكن بأساليب ملتوية، وفي بعض الأحيان لم يمكن توقعها

ويعتبر أول استخدام للمصطلح بشكل شبه رسمي عام 1997 في جريدة “نيويورك تايمز” كوصف للحالة التركية حينها، وعرفتها بأنها: “مجموعة من القوى الغامضة التي يبدو أنها تعمل بعيدا عن القانون”

وتعرف الدولة العميقة عند البعض بأنها: “دولة غير مرئية، وسرية، وتوازي الحكومة الشرعية في أعمالها وتتصف هذه الأعمال بغير القانونية”

ويلاحظ أن هذا التعريف لم يتطرق إلى آليات الدولة العميقة وأساليب ليمكن التفرقة بينها، وبين الدولة الشرعية، فضلًا عن معرفة ما هي القوة التي تستمد منها القوة والسرية في أعمالها، فليس من المفترض أن نطلق على فرد أو مجموعة تهمة ما ونجعله خارج إطار القانونية بدون أن نعلم وصف الشخص معنويًا واعتباريًا، والقانون المطبق الذي اخترقه هذا الكيان لا سيما تكتلات الدولة العميقة طبقًا للمفاهيم والتعاريف السابقة.

وشهد مصطلح الدولة العميقة عند البعض مزيدًا من الإيضاح يفصل النواقص في التعاريف السابقة، حيث ضم إلى مرتكزات الدولة العميقة الجهات الغامضة كضباط الشرطة الذين في الخدمة، أو حتى خارجها، فضلًا عن تكتلات المجتمع المدني وعدد لا يمكن إحصاؤه داخل المؤسسات الإدارية للدولة والقطاعات الاقتصادية الاستراتيجية، وهذا كله في سبيل تحقيق المصالح الضيقة لهؤلاء على حساب الدولة، فقد تصل الدولة العميقة إلى مرافق عامة كانت في السابق بعيدة كل البعد عن الصراعات التي تفرضها الحاجة الذاتية الضيقة، كمرفق القضاء الذي أضحى من ضمن مكونات الدولة العميقة إذا ما كان له مصلحة ما بجانب مجموعات أخرى

وتهدف الدولة العميقة إلى إقامة اتفاقيات سرية متشابكة حسب الحاجة، وخلق حالة من النزاع بأشكاله وبخاصة العسكري لبسط نفوذها، وتنفيذ مصالحها بجانب السيطرة على الأموال، والموارد الاقتصادية، والآلة الإعلامية والسياسية، وبالتالي تشيع حالة من الغموض لا سيما فيما يخص ما إذا كانت تسعى لتحقيق مصالحها فقط أم تحقيق مصالح الدولة، والمجتمع بجانب ذلك. وتظهر معظم مؤشرات الدولة العميقة في نماذج الدول التي تسعى إلى بلوغ التحولات الديمقراطية، عبر الأجهزة الإدارية المعترف بها، ولكن بفضل نشاطات المجموعات ذوي المصالح الشخصية المتشابكة يناهضون فكرة التحول الديمقراطي؛ لأن هذا يعد خطرًا محدقًا لأصحاب النفوذ والسلطة الذين يسعون إلى السيطرة على تدبير الدولة تحقيقًا لمصالح شعبها

وجدير بالذكر أن الدولة العميقة برغم أنها عبارة عن مجموعات لها مصالح داخل الدولة أي أن القائمين على الدولة العميقة لهم توجيه داخلي سري كالنموذج التركي والروسي، ولكن بفضل تشابك العلاقات، والعولمة، والسياسية العالمية أضحى للدولة العميقة مرتكزات ومصالح خارجية، فنرى التجمعات العسكرية، والتحالفات السياسية، والإعلامية توجه من الخارج تحقيقًا لاتجاهاتهم ولبسط نفوذ الدول المتداخلة

وهناك من رأى أن الدولة العميقة تشمل صورا أخرى وبخاصة تلك المتعلقة بالولايات المتحدة الأمريكية، إذ تعتمد رؤيتهم على أن الدولة العميقة قد لا تكون تحالفات سرية يحيطها الغموض، بل معلنة، وقد لا تكون متآمرة، بل هي على الرغم من كونها دولة داخل دولة فهي تعد من مكونات الدولة الرامية إلى النفع العام، مع مراعاة مصالحهم في الأساس، وأن القائمين على مثل هذه النماذج من الدولة العميقة ليس لديهم هدف واحد، وأنهم يمتدون عبر الجهاز الإداري في الدولة إلى أن يصلوا إلى القطاعات الخاصة

بالنظر لما سبق فإن “Mike” يعتمد في تعريفه للدولة العميقة على نموذج الولايات المتحدة الأمريكية وخصوصًا وجود دولة عميقة في الإدارة الأمريكية تتكون من مجموعات من رجال الأعمال والسياسة، ولكن يأخذ عليه أنه لا يمكن الاعتماد عليه كتعميم للدولة العميقة في العلاقات الدولية والسياسية عمومًا، إذا فعلى الرغم من سيطرة هؤلاء على معظم القرارات المصيرية للسياسة الأمريكية وذلك في مسار وسياق تحقيق المصالح الخاصة لهؤلاء إلا أنه في الوقت نفسه يراعون المصلحة العامة للدولة وإلا ما استطاعت الولايات المتحدة أن تكون القوة العظمى على رأس النظام العالمي.

ومن هنا أن الدولة العميقة هي قوة تعمل تحت نطاق النظم الدستورية والقانونية في غالب الأحوال، وأنها أكثر قوة في السيطرة على الدولة، وأكثر انتشارًا من الأعضاء الحاكمين الممثلين للجهاز الإداري للدولة، وتكون موحدة ومتماسكة، بحيث تكون متجذرة في أجهزة الدولة، وتستخدم نفوذها لتطبيق وتنفيذ جدول أعمالها، ولكن تسعي في النهاية إلى السيطرة على المقدرات السياسية، وموارد الدولة، ليمكنها استخدام كليهما في توطين قواعدها وكثيرا ما تفوض أعضاء المرافق العامة كالبرلمان، والقضاء، وكافة الأجهزة الإدارية

وتأسيسًا على ما سبق يرى البعض أن الدولة العميقة بسياقاتها السابقة ليست من المصطلحات الحديثة، ولكن تبقى نقطة الاهتمام الدولي بمكونات الدولة العميقة بفضل التجربة التركية منذ نشأة لجنة الاتحاد والترقي التي ساعدت في إنشاء تحالف سري من مجموعة طلاب عام ۱۸۸۹ بغرض إدخال بعض الإصلاحات في الدولة العثمانية وظهر ذلك جليًا في عام ۱۹۰۸، وفي الأعوام التالية من سقوط الدولة العثمانية

المطلب الثاني: خصائص الدولة العميقة:

ان النظم السياسية على الخطوط العامة للدولة العميقة إلا أن قلة من ينظرون إلى أن هذه الدولة الداخلية ليست سلبية بالضرورة، فهناك دولة داخل دولة في الولايات المتحدة الأمريكية تأخذ المسارات الإيجابية في إدارة مصالحها والأمة معًا، ولتفكيك اللغط في المفهوم نبين الخصائص العامة التي اتفق عليها معظم الباحثين .

أ – الغموض والسرية: إن الورقة الرابحة للقوى العميقة هي الابتعاد عن مرأى عامة الناس لكي يتسنى لها تحريك الحكومات كالدمى، فالملاحظة المستمرة قد تسبب في إحراق هذه القوى وإحراجها، ليس من قبل الإدارة؛ فالإدارة حينها تكون أداة في يد هؤلاء لا حول لها ولا قوة، بل تخشى من الانفجار الشعبي في وجوههم، لأن من مراحل ظهور الدولة العميقة في خضم التحولات السياسية والاتجاه نحو الديمقراطية

ب – الفساد: إن انتشار الفساد بشتى صوره وأنواعه هو البيئة الخصبة لرجال لدولة العميقة لإيجاد فرصة ذهبية للثراء الشخصي أو المنفعة الذاتية، فهي سمة وخصيصة من خصائص الحالة العميقة، وهي اختراق وانتهاك القانون وتسعى في تلك البيئة نحو تحقيق أهدافها، والانتشار الأفقي والرأسي في آن واحد فتعتبر نفسها في هذه الحالة الوصية على الأحوال، والمقدرات الوطنية، وإنها بذلك جديرة بالنفع، وإعلاء دور الوطن، وتبقي العداء لمعارضيها الداخليين ولعامة الناس، فيمكن لها الاستئثار بالسطلة دون أدنى محاسبة

ج – الفوضى: تستفيد القوة العميقة من تدهور الأوضاع الأمنية لدى الدول التي لا تملك قدرة كافية في السيطرة على التراب الوطني، وبخاصة التي تقع في حيز المناطق الملتهبة سياسيًا وأمنيًا، فتنتشر بعد ذلك القوى المسلحة سواء المدعومة داخلية، وغالب الأحوال خارجية فيظهر تشابك المصالح فيما بينها، فهذه سمة وخصيصة أساسية للحالة العميقة في تلك الدولة، لأن كلهم يسعون جاهدين إلى أخذ نصيب الأسد في السلطة، وليصلوا في النهاية إلى السيطرة على الموارد الخاصة لهذه الشعوب

د – التحالفات: بالرغم من وضع القوى العميقة مصالحها نصب أعينها في المقام الأول، إلا أن ذلك لا يمنع من إقامة علاقات، وإبرام اتفاقيات بينها وبين القوى الأخرى لأن المحصلة الأساسية لهؤلاء هي تحييد دور الدولة، وقد تحصل تلك القوة على الشرعية السياسية، جراء خلق أمزجة من النظم القانونية التي تظهر شرعيتها، ولكن إذا نظرنا من ناحية الاتفاق الشعبي نجد أن المجتمع تم تحييده عن المشهد، وهذا كما ذكرنا ظاهرًا وجليًا في الحالة العربية، والإفريقية.

جدير بالذكر أنه لا يمكن للدولة العميقة بأي شكل، أو أي حال من الأحوال أن تحافظ على السرية لفترة زمنية طويلة، إذ إنه كلما انتشرت، وتوزعت، وحصلت القوى العميقة على مزيد من النفوذ والسيطرة كلما تولت نشاطاتها أمام الناس، والعامة جميعًا، والذي يشير إلى ذلك بعض من الفضائح والانتهاكات والفظائع، كمثل أعمال الاغتيالات، والتفجير، وما إلى ذلك من أعمال عنف توجه أصابع الاتهام فيها إلى الدولة العميقة، ولهذا قد تعمل القوى العميقة بشكل شبه رسمي، وتكون معروفة للجميع، وخاصة في المراحل المتأخرة من انتشارها واستيطانها

ومما سبق يمكن لنا تصور الأدوات المختلفة التي تستخدمها القوى العميقة في أعمالها، ولترسخ قواعدها في أعماق الجهاز الإداري للدولة، ولتكون بذلك ثمة أمر واقع مفروض على الشعوب، والمجتمعات المسالمة التي لا يد لها، ولا سلطان في تلك التطورات والمستجدات، ويمكن سرد تلك الأدوات والاستراتيجيات على النحو التالي:

– القوة العسكرية: القوة العسكرية هي الركيزة الأساسية، للقوى العميقة، وأولى بداياتها في نشر سطوتها، والتعمق بين أجهزة الدولة، والقوات المسلحة الرسمية، والمناصب رفيعة المستوى

– استخدام الغطاءات الطائفية، والإثنية: تستخدم الدولة العميقة الشعارات الرنانة، والحماسية، والتي في محتواها تكون عاطفية لتجذب قدرًا كبيرًا من الأمة، لتكتسب بذلك قوة ونفوذًا؛ لتحقق تقدمًا على الأصعدة كافة، وكثيرًا ما تكون هذه الخطابات التي تصدرها الدولة العميقة مضللة يقع في أثرها، وتأثيرها عامة الناس، بيد لا يتوقعون تأثيراتها إلا بعد أن تصبح القوى العميقة أمرًا واقعًا لا مفر منها، فبالرجوع إلى ما قبل ذلك الخطة المتصدرة لهؤلاء هي الحفاظ على مقومات التكتلات البشرية لا سيما تلك المستضعفة، والتي تم تحييدها عن المشاهد السياسية، والقرارات المصيرية للأمة بمرور الزمن، ولكن بعد ذلك يتكشف للجميع أن تلك القوى جاءت لتحقق مصالحها في المقام الأول التي كثيرًا ما تتعلق بالاستئثار بموارد الأمة

– الدعم الخارجي: وهذه أداة محورية للقائمين على الدولة العميقة، فالدولة الوطنية تقع ضمن دائرة مغلقة حيث تحركها القوى العميقة كدمى، والأخيرة تحركها القوى الخارجية الإقليمية والدولية على نفس النهج، والنماذج الإفريقية والعربية التي تنتشر فيها جهات الإعلام، والأعمال، والمليشيات المسلحة خير دليل على ذلك

– الحالة الإدارية التقليدية للدولة: النظم الإدارية القديمة أنماط جامدة لا يمكن تغييرها بين ليلة وضحاها، ويعد هذا دافعًا كبيرًا للقوى العميقة لاختراقها بمرور الوقت، وتتميز كذلك الأنظمة العربية، والإفريقية بتلك السمات حتى في الشؤون العسكرية، والدفاعية، فيتم استهدافها من قبل الدولة العميقة لتنتشر وتتوزع لتصبح أحد اللاعبين في المراكز والمشروعات الاقتصادية العامة للدولة ويتم تعينهم بفضل البيروقراطية في المناصب الرئيسية سواء في الإدارة عمومًا أو حتى في القوات المسلحة

– التحولات السياسية: تنتهج الدولة العميقة سياسة استخدام توتر الأحوال السياسية، وخاصة في فترات التحولات الثورية، والانتفاضات، والتحول إلى مقدمات النظام الديمقراطي عمومًا، بل تساهم في تعميق سوء الأوضاع، ونشر الفوضى وراء ذلك، فهذه الأوضاع تقتطع أشواطًا كبيرة وأميالًا أمام سطوة جهات القوى العميقة على عكس استقرار الأحوال التي تجعل من تلك الجهات تبذل جهودًا مضنية، وفي فترات زمنية طويلة الأمد حتى تصل إلى غرضها

الدولة العميقة في العراق ما بعد ۲۰۰۳

لكي نكون على إحاطة بقدر كبير بمظاهر الدولة العميقة في العراق اهتمامًا بالأوضاع التي لحقت بالعراق ما بعد الاحتلال الأمريكي ۲۰۰۳، وما إذا كانت الدولة العميقة تتوغل في مكونات الدولة أي هي حقيقة لا مفر منها أم إنها مجرد مبالغات يقع فيها البعض، فقد لعبت الولايات المتحدة الأمريكية دورًا رئيسيًا في هذه الأوضاع كما هو الحال في خطط هذه الدولة في السيطرة على الدول النامية وخاصة تلك الدول ذات الاحتياطي النفطي، والأهمية الاستراتيجية الجيوسياسية، فذلك انعكاسًا للسياسة الأمريكية، والتي نلاحظ جذورها في سلسلة الحروب الأمريكية الاستعمارية

الأحوال العراقية:

إن المتتبع للتاريخ العراقي قبل ۲۰۰۳ يتوصل إلى أن العراق من الأمم التي لها تاريخ عريق مشهود له بالتفاعلات الإنسانية، حيث إن أقدم الحضارات التي عرفتها البشرية “الحضارة الآشورية” أثرت وتأثرت بنتاجات العلاقات الإنسانية، كما تعد العراق مكانًا آمنًا، ومحتضنًا للعديد من الطوائف، والأعراق، الذين جاءوا إلى العراق من الدول والمناطق المجاورة وبمرور الوقت أضحوا جزءًا من مكونات الشعب العراقي، يسودهم حالة من التعايش السلمي، والتآخي بالرغم من وجود بعض التوترات في بعض اللحظات التاريخية إلا أن ذلك يعد ثمة أحداثًا عابرة لم يمكن حسبانها في مسار العلاقات الإنسانية العراقية التاريخية

وانقلبت الموازين رأسًا على عقب في العصر الحديث، فتشهد الساحة العراقية منذ منتصف القرن العشرين أحداث عنف، وتوترات سياسية، وحروبًا أهلية عرقية، وتباينت جذور هذه الأزمات العرقية منذ قيام الجمهورية العراقية 1958، ويرجع البعض ذلك إلى اعتماد الإدارة العراقية في نظام حكمها على مجموعات قومية ذات أصول عربية على حساب التكتلات البشرية الأخرى، وكنتيجة عكسية لهذه الممارسات ظهرت أولى جماعات الميلشيا المسلحة “فيلق البدر” عام 1983، وتدريجيًا سطع نجم التكتلات العسكرية المدعومة من إيران، وبقيت الأوضاع العراقية كما هو معهود، ومعروف عنها تشهد استقرارًا سياسياَ واجتماعياَ يتخلله اضطرابات على الأصعدة كافة، وخاصة في ضوء التدخلات الدولية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية كالحصار السياسي، والاقتصادي، فتعايش وتأقلم الشعب العراقي على هذه الأوضاع، ولكن جاء عام ۲۰۰۳ ليغير الخارطة العراقية الديموغرافية، والسياسية، والاقتصادية، جراء الاحتلال الأمريكي للعراق، وسقوط الإدارة العراقية بما فيها أجهزة الدفاع والأمن الداخلي، إذ قامت القوات الأمريكية منذ بداية احتلال العراق بتفكيك كل الأجهزة الأمنية كالجيش، ونسبة كبيرة من القوى الداخلية، وإعادة تنظيم الجيش العراقي مرة أخرى لم يكن بكفاءته التنظيمية والتسليحية التي كان عليها من ذي قبل، فيعد ذلك خرقًا، وتنصلًا من تعهدات الولايات المتحدة الأمريكية بإعادة الأوضاع كما هي عليه لمجرد إسقاط النظام

كما أن قيام الولايات المتحدة الأمريكية بوظائف الدفاع، وإدخالها في الأوضاع السياسية كان سببًا رئيسيًا في إخراج النظام الدفاعي عن وظائفه الأساسية مما أدى إلى عدم تمكن القوى الأمنية في ضبط الأوضاع الاجتماعية والأمنية، وجاء بردود فعل عكسية على الجيش العراقي وترتب عليه ظهور العشرات من المليشيات المسلحة العراقية، والقومية، والإثنية، وخصوصًا تلك المدعومة من النظام الإيراني أي الجماعات المسلحة تحت غطاء طائفي شيعي التي استخدمت شعارات مقاومة الاحتلال الأمريكي في البداية، وبمرور الوقت اتضحت خططها في السيطرة السياسية.

وبالرغم من مغادرة قوات الاحتلال للأراضي العراقية ۲۰۱۱ فلم تشفع هذه التطورات للجماعات المسلحة في وقف أعمال العنف، بل كثفت وزادت حدتها، وأضحى لها نصيب الأسد في القرارات الإدارية. والحشد الشعبي خير دليل على ذلك، والتي تأسست منذ عام ۲۰۱4 إلى أن دفعت تلك الأحداث إلى إعلان رئيس الوزراء العراقي “حيدر العبادي” أن جماعة الحشد الشعبي جزء من الضبط الإداري الأمني للسلطة العراقية منذ حزيران ۲٠١٥

وتشكلت أيضًا العديد من الأحزاب السياسية بعد ۲۰۰۳، تعد انعكاسًا في معظم الأحوال عن القرارات، والخطط الاستراتيجية للقوى المسلحة المسيطرة على الساحة الأمنية العراقية، فنجد أنه بدلًا من تركيز تلك الأحزاب على محاولة إيجاد حلول لعلاج الأزمة العراقية، وإدخال إصلاحات من شأنها أن تؤدي إلى إعلاء دور الإدارة السياسية الموحدة في تنمية الجوانب الاقتصادية واسترجاع الذاكرة التاريخية للحالة العراقية، التي كانت تعد من أفضل النماذج الإقليمية في احتضان الأعراق، والتعددات الإثنية، والطائفية في كيان واحد متجانس، بل وضعت الأحزاب نصب أعينها السيطرة على القرار السياسي، وإعلاء مصالحها الضيقة على حساب مصالح الشعب العراقي، بيد أن توسعات جبهات الصراع بحيث شملت جميع الجوانب في مقدمتها السياسية، والعسكرية، وخاصة بين الجماعات المسلحة السنية، والشيعية، والتي تسعى إلى محاولة فرض سيطرتها على القرار الإداري العام للدولة العراقية

جدير بالذكر أن سلسلة التراكمات التي شهدتها العراق من ضعف، وصراع بين القوى السياسية جعلت من الجيش الوطني ضعيفًا غير قادر على ضبط الأمن، فبدلًا من وجود قوى عسكرية لمليشيات مسلحة على الأقل تقدير له أصول وجذور متأصلة من ذي قبل، ولكن ساهمت هذه التطورات في ظهور جماعات مسلحة أجنبية كتنظيم القاعدة، والذي يبدو أن معظم أفراده من القوات المنبثقة من القوات النظامية

بناء على ما سبق فتنقسم الأوضاع السياسية، والأمنية الحالية إلى شقين أن التكتلات المسلحة إما جاءت لتدعم الحكومة، وإيما ممولة من جهات دولية خارجية وفي الوقت نفسه فإن معظم هذه الجماعات هدفها الرئيس محاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” سواء من قبل الجماعات الشيعية، والأكراد، وبعض الجماعات السنية، ولكن الغاية العليا لهذا الجماعة هي السيطرة على المؤسسات الأمنية، والعسكرية، والتي هي بطبيعة الحال المسيطرة على القرار السياسي، والإداري العراقي، والحشد الشعبي في مقدمة هؤلاء، وتشير أصابع الاتهام إليه بالتعاون مع إيران، وأنكر الحشد ذلك تكرارًا، وذلك من ناحية أهدافها. أما الشؤون التنظيمية للجماعات المسلحة فترتكز في الأساس على محاولة إخضاع الأجهزة التنفيذية الحكومية تحت ولايتها تدريجيًا، وكما تستخدم المناطق الاستراتيجية العسكرية للقوات العراقية الوطنية في أعمالها الحصرية، ويظهر جليًا عندما قامت بعض الميلشيات المسلحة الشيعية بالسيطرة على مطار بغداد بمساعدة الأجهزة الأمنية بعد اختراقها، وذلك بغرض استخدامه أداة لنقل القوات التي تساند، وتدعم الجيش السوري الوطني في حربه على تنظيم الدولة، والمجموعات المقاتلة الأخرى في سوريا

إذن يتضح من خلال الهياكل التنظيمية للجماعات المسلحة، وأهدافها أن غايتها العليا الانتشار الجغرافي، والتوسع، والتوغل في المناطق الجيوسياسية الحيوية والداعمة إلى السيطرة على موارد الدولة، ومناطق جلب، وإرسال مقاتلين من الداخل والخارج في بعض الأحيان، وبالتالي نتوصل إلى أنها جاءت لتحقق مصالحها في المقام الأول دون مراعاة مصلحة الشعب في الأساس، إذ إن المحتل قد غادر منذ ۲۰۱۱، كما أن العراق تمكن من دحر معظم مقاتلي الدولة الإسلامية في السنوات الأخيرة، وبالرغم من ذلك ما زال المشهد السياسي غير مستقر؛ نظرًا لسعي القوى الحزبية، والعسكرية المختلفة لأجل أخذ مزيد من الصلاحيات، والامتيازات في الإدارة العراقية.

المطلب الثاني: الدولة العميقة في العراق بعد ۲۰۰۳

ان أركان الدولة العميقة في ديناميكيات الإدارة العراقية من عدمه؟ حيث يرى أصحاب نظرية عدم وجود ما يسمى الدولة العميقة أن العراق في الأساس في الوقت الحالي في مرحلة اللا دولة فكيف يظهر دولة داخل الدولة، وعلى سبيل المثال يشير إلى أن العراق يسعى إلى بلوغ مكونات الدولة فهي دولة ضعيفة، وهشة، فالعراق طبقًا لتكويناته حاليًا عبارة عن هويات متنوعة، ومتصارعة لكسب النفوذ والتحكم في مقدرات سلطة تعاني من الفساد المتنامي، جعلت العراق يأخذ ترتيبًا متقدمًا في مصاف الدولة التي ينتشر بها الفساد، وليس بها أي من مقومات الدولة القانونية الدستورية، وأن اللا دولة ترتكز على استخدام العنف، والفوضى وكما يعتمد في رؤيته ونظريته على أن الأحزاب، والمليشيات المسلحة هي التي تحرك نموذج اللا دولة بالقوة الجبرية

ولا يتفق الكثير مع هذه الرؤية المتعلقة بمفهوم اللا دولة، ووصف الحالة العراقية بهذه الحالة، حيث إن مفهوم اللا دولة يعني عدم حضور مكونات الدولة بمفهومها الإداري الحديث وتنظيماتها، فمجتمعات اللا دولة لا يحكمها العنف بل تحكمها عادات وثقافات خاصة بها، وتناهض مجتمعات فكرة الدولة لكونها ترتكز وتعتمد على عنصر السيطرة السياسية في يد واحدة من حيث الهيمنة السياسية، والاجتماعية فهناك فرق بين منظومة الفوضى، والصراعات السياسية وبين التعايش الاجتماعي بدون وجود مقدمات ومرتكزات الأجهزة الإدارية ولذلك فإن الحاصل في العراق ما هو إلا صراعات سياسية تأخذ أطرًا طائفية يمكن وصفها بأنها حرب أهلية.

الدولة العميقة في العراق:

ذكرنا سابقا أن سوء الأوضاع الأمنية، والسياسية بعد ۲۰۰۳ أفرز مجموعات مسلحة، وبالنظر إلى مقتضيات مصطلح الدولة العميقة وعند إلقاء نظرة خاطفة على الأحوال العراقية قبل ۲۰۰۳ نتوصل إلى نتيجة مفادها أن الدولة العميقة في العراق يرجع جذورها إلى بدايات عام ۱۹۱۸ حيث تكونت أول مجموعة عسكرية خارج الأطر الشرعية، بدعم من سلطات الاحتلال البريطاني آنذاك، وكانت تسمى حينها “الإدارة المدنية البريطانية” تتشابه نشاطاتها مع أعمال جمعية “الاتحاد والترقي” التركية، التي نشأت في ظلها مقدمات الدولة العميقة في تركيا، فالقاسم المشترك هو أخذ مكانة السلطة الرسمية أخذ رؤساؤه تباعا بإرساء قواعد الدولة العميقة في العراق من خلال بناء شبكة معقدة من رجال الجيش، والقوى الأمنية الداخلية، ورجال سياسة رفيعي المستوى استخدمت فيها أشكالًا متعددة من الاضطهاد، والعنف الفردي، والجمعي، وهذا ما يجعل هذا النموذج متقاربًا مع الدولة العميقة في باكستان، ومصر، بحسب ممارسات احزاب السلطة، ومتقاربًا إلى حد كبير مع نهج الدولة العميقة في الدول العربية والإفريقية الأخرى، كما أنه قام بتحييد دور القوى السياسية الأخرى بشتى الطرق والوسائل، وهذا ما يتقارب مع خصائص الدولة العميقة، والتي سبق وأن ذكرناها آنفًا، وهي أن الدولة العميقة تسعى في المقام الأول إلى تطبيق أهدافها دون مراعاة المصالح العامة، وفي الوقت نفسه، وبالتوازي مع انتهاك القانون

ومرة أخرى تغيرت الأوضاع بشكل دراماتيكي بعد عام ۲۰۰۳، بسقوط الدولة العميقة القديمة، وبداية ظهور مقدمات الدولة العميقة الجديدة، وتتمثل في القوى العسكرية، وأحزابها التابعة إلى “أحزاب الإسلام السياسي” بشقيه السني، المدعوم من القوى الإقليمية المجاورة ايرانية ، والشيعي المدعوم من إيران.

إن المتتبع لمكونات الدولة العميقة يتوصل إلى أن هذه القوى تجذرت أصولها في الأجهزة الإعلامية ومفاصل الدولة وأجهزتها، إذ إن هذه الشبكة العميقة المعقدة، من العوامل الرئيسة في فشل الحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام ۲۰۰۳، ومنذ رحيل الاحتلال الأمريكي ۲۰۱۱، لم تتمكن الحكومة العراقية في تحقيق آمال شعبها، فأضحى من الصعوبة تحجيم دور القوى العميقة في العراق في ظل تنامي الدعم الخارجي لها، وإعلان خططها أمام العيان، واعتراف بعض أعضاء الجهاز الإداري بشرعيتها؛ ومن هنا فإن استخدام مصطلح الدولة العميقة من قبل المسؤولين العراقيين في الفترة الأخيرة لم يكن صدفة، بل نتيجة حتمية لتصدر القوى العميقة المشهد مع تحييد دور الحكومة الوطنية جانبًا، حتى صرح أحد أعضاء التحالف السياسي البرلماني “أحمد المساري” أن الدولة العميقة تعمل الآن على إدارة الدولة، وأنها وصلت إلى البرلمان العراقي، وهو جزء من الدولة العميقة وبناء على ذلك، نستطيع القول إن القوى العميقة أخذت مكانة شرعية، فحجر الزاوية في تمكن الدولة العميقة هو الانتشار والتوزع؛ ويوضح هذا -على سبيل المثال- أعمال ميليشيات الحشد الشعبي في الحصول على مقدرات الدولة العراقية من خلال الانتشار المكثف لما يسمى “المكاتب الاقتصادية” وتحصيل أموال المواطنين إجبارًا، وتوجيهها واستخدامها في التسليح بدلًا من استخدامها لخزانة الدولة، فهذه سمة من سمات الدولة العميقة التي تجني الأموال من المدنيين بالقوة دون مراعاة مصالح الشعب.

وترجع بداية ظهور الدولة العميقة الجديدة على أرض الواقع منذ عام ۲۰۰۸، في ظل الاحتلال الأمريكي، وبحسب جريدة العربي الجديد فإن بداية التأسيس كانت مع وصول حزب الدعوة بقيادة نوري المالكي رئيس الوزراء السابق إلى الحكم، فهذا الحزب هو المؤسس السياسي للدولة العميقة، وتبع ذلك منظمة بدر التي استولت على غالبية الوزرات، فالخطط التي طبقها الساسة آنذاك عمدت إلى تعيين جهاز إداري مقرب أيديولوجيًا من السلطة، وهذا يطابق سياسات حزب البعث في بدايات تواجد الدولة العميقة في مقتبل القرن العشرين، وعمدت معظم هذه القوى لإعلاء مصالحها في المقام الأول، وتكريس النظام البيروقراطي للجهاز الإداري للدولة العراقية، وهذه كلها كما ذكرنا سابقا من أبرز الثغرات التي تستخدمها القوى العميقة في بسط نفوذها تدريجيًا وجدير بالذكر أن الدليل على وجود عناصر ومكونات الدولة العميقة أن القوى الشيعية نفسها تتصارع بين بعضها من أجل مراعاة مصالحها الضيقة، كصراع رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي ومقتدى الصدر، واستخدام كلاهما كافة الوسائل، والأساليب لنيل مزيد من المكاسب طبقًا لتقارير نشرتها جريدة

ويشير ما سبق إلى أن الحروب الأهلية العراقية خصوصًا بين الشيعة والسنة ما هي إلا صراعات تحت غطاءات سياسية ساعدت القوى العميقة في انتشار لهيبها، بدأت جذروها مع الاحتلال الأمريكي، وبدعم إيراني فكثيرًا ما تقترن الدولة العميقة بالجهود والدعم الخارجي، فتؤكد التقارير والشواهد أن الشيعة جزء لا يتجزأ من المجتمع العراقي، وأن العراق وإيران وجد بينهم علاقات قوية وطيدة كما هو الحال مع الدول الخليجية المجاورة، ولكن منذ اندلاع الثورة الإيرانية منذ عام ۱۹۷۹، سعت إيران جاهدة في تصدير ثورتها، وجاء الاحتلال الأمريكي وما نتج عنه من عنف، وسقوط للجهاز الإداري للدولة ثمة نقطة الانطلاق نحو تطبيق ما ترتئيه الدول الرامية إلى فرض ما تريده على العراق في ظل هذا التطورات ولكن الدولة العميقة لا تراعي إلا مصالحها فكثيرًا ما تنتج صراعات فيما بينها، وحتى وإن كان مدعومة من جهة خارجية واحدة.

إن مظاهر الدولة العميقة في العراق تتضح من خلال ممارسات القوى العميقة من أدوات سبق التنويه عنها، مثل استخدام الأخبار المضللة، أو الحقيقية وتضخيمها من أجل تخويف عامة الناس ليخضعوا إلى سطوة تلك القوة، فبعدما اقتحم تنظيم “الدولة الإسلامية داعش” العراق وخاصة في الموصل قامت المليشيات المسلحة بنشر الخطابات الحماسية لتتمكن من كسب عاطفة الجماهير، فتبدلت الأحوال، وأضحت الجماعات المسلحة هي التي تسيطر على مرتكزات الإدارة العراقية

وبالنظر إلى أوجه التفرقة بين الدولة العميقة، والدولة الوطنية خاصة فيما يتعلق بالنموذج العراقي نجد أن الأولى تسعى جاهدة إلى عسكرة الحكومة السياسية والجهات الإدارية العامة للدولة، ومنع أي أعمال لمنظمات حرة تراعي مصالح الأمة العراقية عمومًا، وإغراق الدولة العراقية في براثن الفساد والإجراءات الشكلية للسياسات والنظم الديمقراطية، وبقراءة ما تقتضي مفاهيم ومكونات الدولة العميقة كما ذكرنا سابقا نتأكد من أنها تستخدم فترة التحولات السياسية، والتحول السياسي إلى الديمقراطية وحدوث ثغرات في الإدارة، والتداول السياسي لبسط نفوذها والتعمق تدريجيًا، وتظهر الحالة العراقية الحالية مثالًا واضحًا على ذلك ومن آثار الدولة العميقة في العراق الحالية فشل الحكومة في إدخال إصلاحات سياسية، واقتصادية، والاستغلال الأمثل لعوائد النفط في العمليات التنموية الاقتصادية كل هذه الأحوال مؤشرات تعبر عن مدى تغلغل القوى العميقة في مسار السياسة العراقية، كما تقوض وتحد من حالات التنمية الإدارية، أن لم تكن تلك الأجهزة مخترقة في الأساس من قبل هذه القوي

الترخيص للإرهاب:

يحتوي الدستور العراقي في كثير من مواده على نصوص أصبحت مجرد بنود للاستهلاك المحلي، ومن أهم تلك النصوص ما يتعلق بالبنود التالية:

محاربة الإرهاب بكافة أشكاله، وتطهير البلاد منه

تشكيل الجيش والأجهزة الأمنية من مكونات الشعب دون تمييز أو إقصاء وخضوعها للسلطة المدنية وعدم التدخل في الشؤون السياسية والسلطة

حظر تكوين ميليشيات عسكرية خارج إطار القوات المسلحة

حق كل مواطن في الحياة والأمن والحرية ولا يجوز تقييد هذه الحقوق إلا وفقا للقانون وبناء على قرار صادر من جهة قضائية مختصة

ولكننا نجد الدولة نفسها تمارس الإرهاب ضد مواطنيها، وتحويل القوات المسلحة إلى أداة للقمع، وقتل المتظاهرين السلميين بالرصاص الحي والغازات القاتلة إضافة إلى الخطف والاعتقال غير القانوني والتعذيب، وتحويل أراضي العراق من قبل الميليشيات المسلحة المدعومة من إيران إلى منطقة صراع من خلال قصفها السفارة الأمريكية في بغداد خلافا للمواثيق الدولية وقصف القواعد العراقية التي يتواجد فيها الأمريكان.

وفي واقعة مؤلمة نرى السلطات العراقية وميليشياتها المسلحة حرمت أكثر من 600 من الشباب من الحياة وأصابت وعوقت أكثر من 25 ألف من الشباب والمئات من الشباب المختطفين والمعتقلين بلا أمر قضائي كما نص على ذلك الدستور العراقي الذي أصبح في ظل الحكومات المتعاقبة حبراً على ورق

يتبين لنا من خلال العرض السابق أن مضمون الدولة العميقة متأصل في العلاقات السياسية منذ قديم الزمن، ولكن ظهر المصطلح في بداية القرن العشرين، وأصبح له مدلولات سياسية محددة، وأن الدولة التي تشهد أحداث عنف داخلية، وتوترات سياسية تعد من الدول التي تشهد حضورًا واضحًا لنشاطات الدولة العميقة.

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب