ثقافة وفنون

النزوع الإنساني في رواية « تيبحرين.. محنة الرهبان السبعة»

النزوع الإنساني في رواية « تيبحرين.. محنة الرهبان السبعة»

محمد تحريشي

يملك الروائي السايح الحبيب مشروعا سرديا مهماً يسعى فيه إلى التجاوز، مع المحافظة على ثوابت في الكتابة تقوم في الأساس على أن الكتابة الروائية هي في اللغة، ومن ثم هو حريص على نص سردي يمثل الصفاء اللغوي لبناء درامي يتجدد مع كل نص جديد يكتبه. لعل هذا الاختيار هو ما يجعل تجربته في الكتابة تنضج أكثر وتتطور وهي تلامس أفقا فنيا وجماليا يطمح الكاتب إلى إدراكه وبلوغه.
صدرت مؤخرا للكاتب السايح الحبيب رواية جديدة «تيبحرين محنة الرهبان السبعة» عن منشورات تكوين وضمة للنشر والتوزيع. تقع الرواية في حوالي مئتين وخمس وأربعين صفحة من القطع المتوسط. توزعت أحداثها على ثلاثة فصول، فكان الفصل الأول بعنوان: المجيء إلى تيبحرين، أما الفصل الثاني فموسوم برحلة الإخوان السبعة إلى تيبحرين نحو الجلْجُثة، وعنون الفصل الثالث بسبعة رؤوس طوباوية لتراب تيبحرين. قُسّم كل فصل إلى أجزاء وكل جزء بعنوان فرعي؛ فجاءت أجزاء الفصل الأول كالآتي: فتنتي الأولى ووحشتي، تمثال العذراء. عمى التعصب، يوم صرت واحدا منهم بهوية جديدة، أنا وصديقي الإمام الشيخ عبد الرحمن. وكانت أجزاء الفصل الثاني حسب هذه الترتيب: ليلة المحنة كانت ربيعية، أحمد أمين وجدّه والراهب كريستيان، الأخ كريستيان. بحثا عن الحب الأكبر، الأخ برينو. هرطقة أم زرع وردة، الأخ سيليستان. قتل الغير كأنما قتل الإله، الأخ كريستوف. معراج بالشعر والحب، الأخ لوقا. ثلاث حروب لمصير واحد، الأخ ميشيل. قلق في عزلة الحرب الأهلية، الأخ بول. أملاً في الصفْح. وأما أجزاء الفصل الثالث فهي على هذا النحو: جون. بيار. كان معي ولم يعد، ثم أمسيت وحيدا في المكتبة أيضا، مراد الشاهد يزورني في الدير، اختفت أجسادهم. دُفنت رؤوسهم. وبقيت أرواحهم، آخر مكالمة بيني وبين مراد. آخر زفرة.
إن توزيع الأحداث على الحيز حسب هذه الاستراتيجية، يجعلنا نطرح أكثر من سؤال حول التباين بين الفصول من حيث حجم استغلال الحيز، ومحاولة الوصول إلى المبرر الفني في كون الفصل الثاني استحوذ على الحيز الأكبر من حيث عدد الفصول وعدد الصفحات، فقد اشتمل الفصل الأول على أربعة أقسام، وفي حوالي خمس وثلاثين صفحة، في حين كان الفصل الثاني في تسعة أقسام وفي حوالي مئة وتسع وخمسين صفحة، أما الفصل الثالث فجاء في أربعة فصول وفي حوالي خمس وثلاثين صفحة. ولعلنا نلتمس سببا فنيا يتعلق بطبيعة قراءة هذا النص الذي يجب أن يثير فضول القارئ وهو يروم أفق انتظار يبدأ بالإثارة ويعرج على التشويق، ليلامس التفاعل الإيجابي مع نص شائك يتناول موضوعا حساسا تتحاور فيه الديانتان الإسلام والمسيحية وتتقاطعان، وتتقابل حضارتان بين فتح وعزو، واحتلال واستعمار واستقلال، ومواصلة العيش المشترك، الذي عليه أن يتكيف مع كل وضع جديد.
انطلاقا من هذا التوجه ركب السايح الحبيب مغامرة جديدة وهو يروم الكتابة عن واقعة تيبحرين ومقتل الرهبان السبعة، ضمن ما عرفته الجزائر في العشرية السوداء من أحداث. والواقع أن الكتابة عن هذا الموضوع يضعنا أما سؤال مهم حول القصدية من وراء الكتابة عن هذه الواقعة. فهل الكتابة ها هنا هي من باب التحقيق الأدبي والمحاكمة الفنية؟ أو من باب تصوير الواقع في قالب فني باعتماد الخيال؟ أو أن هذه الواقعة تسمح بمعالجة الكثير من القضايا معالجة فنية وجمالية لبناء مجموعة من القيم حول الإنسان والعيش المشترك والتسامح والحوار الحضاري؟ لا شك في أن استراتيجية كتابة هذا النص تنحت من أسس حوار إنساني حول قيم التسامح، بعيدا عن كل تناحر على الأقل في مستوى تجلي القيم الإنسانية في هذه الرواية، مقابل التعصب والتشدد والتطرف.
يقول الراوي وهو راهب من رهبان تيبحرين، والناجي من حادثة القتل:» ثم تلطّف لي، بأثر بحة في حلقه لِما أثاره فينا وفي المعزين اغتيال الصحافي ذبحا في طريق عودته من العاصمة لقضاء عطلته الأسبوعية مع عائلته، التي كان ربها تاجرا يشتري حصة من عسل الدير بالجملة ليعيد بيعه.
أنت، يا شيخ أميدي، ممن يصطفيهم الله ليكونوا أسوة لمن يتّبعون دينهم.
رعاك الإله وحفظك، يا شيخ عبد الرحمن.
كان صديقي الإمام على درجة سماحة لا نظير لها في التحاور، حتى وهو يدرك أن ذلك لا يرضى كثيرا ممن يؤمهم في الصلاة. كان على إيمان جميل وطهارة ناصعة.
ونحن نفترق عند مخرج بيت العزاء، احتفظت لنفسي بالقول، إن الإله كان سيدمر هذا الإنسان منذ عصيانه الأول الذي تولدت منه الخطيئة، لكن بدل ذلك حرمه الخلود في النعيم. وأنزله إلى ويل الأرض. ومدد له في الأجل إلى حين. وخلق الموت ليرجعه إليه». كان السايح الحبيب في ما مضى يكتب وهو يشعر بأنه جزء من الأحداث، أما في هذه الرواية فهو يكتب متحررا منها، يكتب وقد وضع مسافة بينه وبين تلك الأحداث، يكتب من واقع المفكر والمتأمل متجاوزا هاجس الخوف والإرهاب، إلى أفق إنساني يناقش فيها مسائل لا ترتبط بالجزائر فقط، وإنما ترتبط بالجزائر في محيطها الإقليمي والعالمي، من خلال حوار الحضارات والأديان، أو حتى من باب تصارعها؛ ليكشف أن هناك دوما مساحة للقاء، لولا تضارب النوايا والمصالح، على الرغم من الإرادات الحسنة.
إن الكتابة عن محنة الرهبان السبعة، مغامرة محفوفة بالمخاطر والمطبات والصعوبات. اختار راويا محايدا يعرفنا بهؤلاء الرهبان السبعة مركزا على ماضيهم الذي كانت آخر حلقة فيه هي الوجود في دير سيدة الأطلس في تبحيرين في ولاية المدية. وليس عبثا إن كان من عتبات هذا النص اختيار من الكوميديا الإلهية». من خلالي يدخل الإنسان المدينة المحزنة؛ ومن خلالي يذوق الآلام السرمدية؛ ومن خلالي ينضم للأجناس الضالة، فتخلوا عن كل آمالكم يا من تدخلون هذه الدار» تكاد تكون هذه العتبة من أهم مفاتح هذا النص، كونه نصا سرديا تواصليا؛ يربط جسور التواصل بينه وبين القارئ من جهة، ومن جهة أخرى يعلن عن تواصلية سردية بين الشخصيات، من خلال الأحداث العابرة للمكان وللزمان، تواصلية حضارية بين ثقافتين وديانتين وشعبين، بين الفتح والعزو والاستعمار. يقول الراهب كريستيان» وما طمأن نفسي أكثر تجاه المأمون أنه يتكلم الفرنسية بلكنة أهل البلد؛ لقضائه سنوات الابتدائي في مدرسة الآباء البيض فنال الشهادة الابتدائية، التي بها وظف حارس غابة. فأتاح لي ذلك أن أتحدث، لأول مرة، عن الإله والعبادة مع رجل ناضج من ديانة مختلفة. كان المأمون هو المسلم، وفي قناعة كاملة بذلك، وكنت أنا المسيحي، المختلف عنه. سيكون من عدم اللياقة، وربما من النفاق، إن لم أقل إنه كان أمام كل منا حاجزه الديني.». إن هذا التواصل لا يلغي ما ترسب في ذاكرة كل واحد منهما من مآسٍ وأحقاد وحروب، استمرت آخر مرة سبع سنين ونصف السنة نتيجة عزو بالسيف باليمين والإنجيل بالشمال.
إن النزعة الإنسانية للرواية جعلت الكاتب يختار مفرداته ويراعي فيها كل الدلالات؛ خاصة الدلالة الدينية، فهو يذكر الله والإله والرب من مراعاة المقام لمقتضى الحال. ومع ذلك ما المبرر لوجود الحروب والقتل والاغتيال، وكيف يفرح إنسان بالنصر، وفي الوقت ذاته يصادر آخرين الحرية ويمارس عليهم كل أنواع القمع والاضطهاد».
قبل أعوام، كنت راجعت من أرشيف الدير، هنا في سيدة الأطلس، تلك الحوادث فزادني ذلك على ما عشته في معترك حرب الجزائر، شعورا بالذنب الجماعي؛ إذ في تلك الساعات المفعمة بالمباهج والأفراح والرقص والغناء والانتشاء حتى الثمالة، وبالحب بلا موانع ولا حدود في باريس وبقية المدن الفرنسية، كانت تجري في هذا البلد خلال الساعات نفسها أعمال قتل وحرق وقصف، من البواخر الراسية في عرض البحر من جهة الساحل الشرقي على الأهالي المتظاهرين المطالبين بالحرية والاستقلال. فتلونت الشوارع بالدم وفطّر الألم القلوب، وسكن الحزن الأرواح وملأ المقابر النواح. ونبتت من يومها في النفوس بذرة حرب كانت ستقوّض إلى الأبد بناء تعايش هش ووهمي دام مئة واثنتين وثلاثين سنة. «مفارقة عجيبة يقف عليها هذا النص السردي التواصلي؛ فكيف تتم الدعوة إلى السلم والمحبة، وفي الواقع تتم مخالفة كل الأوامر». من نذر جسده وروحه للرب مثلي كان عليه أن لا يُذنب. كذلك قلت للقس خلال اعترافي عقب نهاية الحرب.
فسألني: ما ذنبك؟
خرجت عن وصايا الرب.
ماذا يقول الرب.
«لا تزن. لا تقتل. لا تسرق. لا تشهد بالزور. لا تسلب…»
الحروب كلها بأنواعها وأسبابها كانت وستظل مستنقعا لفعل تلك الرذائل كلها.
كنت مجندا
ماذا فعلت من ذلك؟
لم أشهد الزور.
وقتلت في بلد غير بلدك أناسا لم يعتدوا عليك في بلدك.
ربما.
أليس ذلك نوعا من شهادة الزور على التاريخ؟»
هكذا جاءت الرواية لتكشف الزور عن التاريخ، وتعلن أن الأحداث والوقائع ليست معزولة، ويجب عدم قراءتها بمعزل عن التاريخ، لأنها في كثير من الحالات هي مستمرة. إن وعي التاريخ والوعي به يقتضي رؤية تجمع بين الماضي والحاضر وتستشرف المستقبل لتحقق تواصلا بين النص والقراء من جهة، وتواصلا بين الأجيال حول المصير المشترك، لتنضج وعيا جمعيا بما وقع وبما سيقع في المستقبل.

كاتب جزائري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب