دراسات

الاستعمار / الديمقراطية، الامبريالية / العولمة  بقلم الدكتور ضرغام الدباغ

بقلم الدكتور ضرغام الدباغ- المركز العربي الألماني - برلين

المركز العربي الألماني – برلين

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الاستعمار / الديمقراطية، الامبريالية / العولمة

 بقلم الدكتور ضرغام الدباغ

هل الغرب الرأسمالي ديمقراطي حقاً … ؟  ألم يحدث في التاريخ كثيراً ولا يزال، أن يهرج أحدهم ويبالغ بالتهريج ليغطي على حقيقة صارخة كامنة فيه …؟

* هل الديمقراطية هي مجرد تبادل سلمي للسلطة فقط، كما يبدو ذلك في الظاهر، وهكذا يفهمها جمهور كبير في بلداننا،  أم هي نظام اقتصادي قبل ذلك ؟

* هل الأنظمة السياسية في أوربا (العالم الرأسمالي) انبثقت من رحم تطور الأنظمة السياسية الأوربية في تعايش بين ثلاث قوى سياسية / اقتصادية / ثقافية : الكنيسة، الملوك والقياصرة، وأمراء ونبلاء الإقطاع. , وهيمنة البورجوازية، وانحسار دور القوى الأخرى لم يأت إلا بعد السيطرة الاقتصادية التامة للرأسمالية التي فرضت هيمنتها بصفة حاسمة.

كان عصر النهضة في تطوراته اللاحقة، بحكم الاستكشافات الجغرافية، والذي قاد إلى عصر ازدهار التجارة عبر البحار (الميركانتيلية ـ Mercantilism)، ثم إلى الثورة الصناعية، وهنا بدأت سطوة  الكنيسة والكهنوت بالتلاشي والاضمحلال ولكن ليس بصفة حاسمة، بل في تراجع مكانتها التراتبي في التحالف الثلاثي الذي يقود الدولة والمجتمع والاقتصاد المؤسسة الدينية، الملوك والقياصرة، ونبلاء وأمراء الإقطاع، وسيتواصل التراجع دون توقف حتى الإنهاء الكامل لنفوذ القوى الأخرى.

وأمام غياب نصوص مسيحية مقدسة من الإنجيل أو أقوال المسيح عامة عن وجود حدود واضحة بين سلطة الله والدين التي تمثلها الكنيسة ورجال الدين، وسلطة البشر الدنيوية التي يمثلها الملك، والنبلاء وأمراء الأرض، وحيث لا ينبغي الجمع بين السلطتين، فتلكم كانت المشكلة التي تثار. فكل من السلطتين تطمحان للمزيد من الصلاحيات وقد أشير بالرموز إلى السلطتين بنظرية السيفين، غلاسنوس ) Glasnia ( سيف الكنيسة وسيف الدولة، ولكن التطور التاريخي كان يشير إلى تقدم سلطة الملوك وإلى تراجع سلطة الكنيسة، وعبثاً كانت تجري محاولات البابوات في استعادة هيمنتهم ونفوذهم الآخذ بالانحسار، فقد اندثرت نهائياً فكرة السلطة الكلية للبابوات التي أطلق عليها أولترامونتيه (Ultramontis) (التأييد لسلطة البابا المطلقة) وكانت تسعى إلى إخضاع الكنائس الكاثوليكية حيثما كانت لسلطة البابا في روما، ودافعوا عن حقه في التدخل في الشؤون الدنيوية للدولة.

وكانت نظرية السيفين(غلاسنوس) تنطوي على غموض في توزيع السلطات والاختصاصات، وعلى عدم الاستقرار نتيجة للتنافس بين السلطتين على النفوذ والهيمنة. وكان هناك بالطبع من يروج لفكرة أن يجتمع السيفان في يد واحدة، الملك أو الكنيسة. ولكن من الواضح أن الحركة كانت تدور لصالح الملوك، لذلك كانت الكنيسة وفلاسفتها يرفضون فكرة اجتماع السيفين في يد واحدة، لأنها ستعني سلطة الملك المطلقة وتضاؤل دور الكنيسة قائلين: ” من المستحيل على السيفين أن يجتمعا بيد واحدة، فما منحه الله ليس لأحد سواه أن يأخذه “.

وقد مثل عصر النهضة بأحداثه المفصلية الهامة (القرن 16 – 15) الذي منح الجرأة للعلماء والمفكرين والفنانين على التصريح بآرائهم وأفكارهم، وتعميق لفكرة إبعاد السلطة الدينية ومؤشر واضح أن ليس سوى الفكر الحر من يقود إلى تحولات تاريخية كبيرة، وكانت أبرز المفاصل في هذه المسيرة :

  • الحركة اللوثرية 1517 : التي قادت ثورة داخل الكنيسة الكاثوليكية، ثم قادت إلى حركة ليبرالية عامة في الفكر والمجتمع الأوربي، ثم إلى إصلاح الكنيسة الكاثوليكية نفسها.
  • الثورة الفرنسية 1789 : التي أطلقت العنان للفرد وحرياته وللفكر. ووضعت أسساً جديدة لنظام الدولة والمجتمع وحددت بوضوح كاف صلاحيات السلطات.
  • الثورة الصناعية 1820 : التي قادت إلى تغيرات اجتماعية عميقة داخل مجتمعات البلدان التي شهدت هذه الثورة، تبلورات طبقية اجتماعية جديدة استلمت فيها البورجوازية القيادة بشكل حاسم من أيدي أمراء الإقطاع والنبلاء ورجال الدين ثم ابتدأت حقبة جديدة من العلاقات الدولية من عصر الاستعمار ونهب ثروات الشعوب.
  • تطور الفكر الاقتصادي الليبرالي، وصار كتاب (ثروة الأمم) كتعاليم مقدسة للأنظمة البورجوازية، الذي وضعه المفكر الإنكليزي، آدم سمث (1723 ــ 1790)  الذي وضع شفرة الأنظمة الديمقراطية بقاعدته الشهيرة ” دعه يعمل دعه يمر “ وهذه قاعدة اقتصادية لا علاقة لها بنظم تبادل السلطة. (سنة 1776) حين أصدر كتابه (بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم)، حيث ضمنه مبدأ أنصار “المذهب الحر/الطبيعي” الأساسي: دعه يعمل دعه يمر، الحرية التامة لاقتصاد السوق وابتعاد الدولة عن التدخل. والمفكر الآخر هو دافيد ريكاردو ريكاردو(1772ـ 1823).

وهذه الفقرات الأربعة الهامة، دارت تفاعلاتها ببطء نسبي على مستوى القارة الأوربية، فبدأت في بعض الدول الأوربية بشكل مبكر كهولندة أولاً ثم بريطانيا ثانياً، كنتائج للحملات الاستعمارية، وقادت مجموع هذه التطورات إلى تعزيز متواصل لمكانة البورجوازية الصناعية التي برزت كقوة اقتصادية قاهرة، وبدأ تشيد نظامها السياسي، ثم بدأت الفئات الاجتماعية كافة ترضخ لها دون مواربة، تعززت العملية من خلال تبلور الفكر السياسي الليبرالي، ثم نضوج الفكر الاقتصادي السياسي الليبرالي فاكتملت مستحقات النظام الليبرالي (الديمقراطي).

تبلور الفكر الليبرالي

كانت أوربا متعبة من الحروب الدينية / الطائفية، والبورجوازية الصاعدة تعد المجتمعات بالكثير من المنجزات والتقدم، ولكن هذا الأمر كان يتطلب دولاً قوية واستبعادا للعناصر التي تمثل العوائق أمام التقدم، ولم تكن تلك العناصر سوى الكنيسة والإقطاع الذي كان بدوره يترنح تحت وطأة التحولات الجديدة، حيث هجر أعداد غفيرة من الفلاحين الريف متجهين صوب المدن للعمل في الورش والمانفكتورات (Manufactour) التي بدأت أعدادها تتزايد ويتحول البعض منها إلى معامل يدوية كبيرة يعمل فيها أعداد غفيرة من العمال، والذين سيصبحون في المراحل المقبلة الرقم الصعب في المعادلة الاجتماعية وشأناً سياسياً مهماً.

وكانت الليبرالية Liberation (قوة التحرر) الكلمة السحرية التي شاعـت في الأعـمال والفعاليات الاقتصادية والاجتماعية على حد السواء، حتى غدا مفهوماً عاماً. ” فالليبرالية بهذا المعنى هي أن يمتلك الإنسان ذاته، وبنفس الوقت القواعد المتعلقة بازدهاره وهيمنة سلطته على العالم بإخضاع الطبيعة والسيطرة عليها “. وعبر آدم سمث (أحد أهم مفكري تلك المرحلة)، أن المصالح الخاصة للأفراد تتناسق فيما بينها، والمصلحة الشخصية هي المحرك لمسيرة الإنسان وبالتالي لمسيرة العالم، وإن كل إنسان طالما كان لا يخرق قواعد العدالة، سوف يترك حراً بشكل مطلق في أتباعه لمصلحته الخاصة كما يروق له. وقد جسدت هذه النظرية قاعدة  ” دعه يعمل دعه يمر “.  (1)

انطلقت الليبرالية، كتيار، كمارد أنطلق من قمقمه، فلم يحده إطار وصار التحرر شعاراً وحركة وسوف تلد الثورات والانتفاضات، والتحولات الخطيرة على كافة الأصعدة، بل سوف تتغلغل إلى الكنيسة ذاتها وستخلق فيها التيارات، فقد كانت الليبرالية تياراً ثقافياً، أندفع فيه بحماسة أدباء وفنانون في تمجيد الإنسان وقدراته والإبداع الفني، أكدت فيه، أنه لا يمكن للإنسان أن يعمل إذا كان مقيد اليدين، كما لا يمكنه أن يبدع وأن ينجز طالما كان مقيداً بقيود الفكر والإرادة والحركة.

وقد سعى الليبراليون إلى تحطيم فكرة الحق الإلهي للملوك، وسوف لن تقبل سلطة مطلقة للملك، إلا أن تكون مقيدة بالدساتير، فهذه مسيرة قد انطلقت ولا سبيل لإيقافها، وليست المسألة سوي وقت فحسب. وستكون تلك من مهام المرحلة المقبلة، وكذلك تحرير الإنسان وإنهاء الهيمنة الدينية وتسلطها على الدولة والمجتمع والأفكار. كما كانت لهم أهدافهم السياسية التي تمثلت بالمساواة، حق الملكية الخاصة واحترامها، حرية الرأي والمعتقد والتفكير، حرية النشر، إبعاد الكنيسة عن التدخل بشؤون الدولة، احترام حقوق الإنسان، والإعلان بأن حقوق الإنسان والتحرر هي من الحقوق الطبيعية، طلب العلم والمعرفة، هي من حقوق المواطن الأساسية، حرية التجارة وعدم تدخل الدولة في الفعاليات الاقتصادية(وفي ذلك مذاهب اقتصادية شتى)، حرية الملاحة في البحار، المطالبة بنظام عالمي للقوانين وصولاً إلى القانون الدولي.(2)

في القرن السابع عشر والثامن عشر، كانت الليبرالية تعني قبل كل شيء التحرر من سلطة الكنيسة، ورجال الكهنوت وتسلط اللاهوت على الفكر والنشاطات الثقافية بصورة عامة، وضلالها القاتمة على الاقتصاد، لذلك فإن مفكراً إنسانياً مثل برتراند رسل يدلي برأيه في هذه المفردات بقوله ” الليبرالية هي رد فعل على الحروب الدينية والتحرر من الخضوع لسلطة الكنيسة المادية والمعنوية” (3) وباعتبار أن اللاهوت يقف موقفاً معادياً من الفكر والفلسفة “، إلا تلك التي يتم تطويعها وتحريفها بحيث تتلائم مع طروحات اللاهوت والخرافات وإلا فإنها من أعمال الشر والشيطان. لذلك كانت الرغبة عارمة في التحرر من هذا القيد الذي يرهق الفكر السياسي بالدرجة الأولى.

وثمة حقيقة لا بد من ذكرها، هي أن الليبرالية كمصطلح سياسي / اقتصادي / ثقافي، قد أرتبط بشكل وثيق باتجاهين:

الأول / ظهور البورجوازية الرأسمالية انتقلا من مرحلة البورجوازية التجارية وظهور أولى أجنة الرأسمالية في أحشاء الاقتصاد الإقطاعي. ومن أجل أن ينمو ويترعرع هذا الوليد الجديد، كان لابد من إزاحة العراقيل أمامه والمتمثلة بالإقطاع واللاهوت المتشدد.

الثاني / حركة الإصلاح الديني واللوثرية بصفة خاصة، ومنجزات عصر النهضة الفكرية والعلمية والأدبية، مثلت في محصلتها تياراً تحررياً أطلق سراح تفاعلات كانت حبيسة، قادت في النهاية ذيوع التيارات الليبرالية وبدورها قادت إلى مراحل أكثر تقدماً في استبعاد الأفكار الرجعية وهيمنة الكنيسة السياسية والفكرية.

فالرأسمالية التجارية الميركانتيلية (Mercantilism) قادت إلى الرأسمـالية الصناعية، حيـث بدأت أولى براعمها تزدهر في المدن الكبيرة (لا سيما في غرب أوربا) لم تولد من لا شيء، بل هناك أساساً ” عوامل تاريخية ساعدت على قيام الصناعة كأتساع السوق وتراكم رؤوس الأموال والتغيرات التي طرأت على الوضع الاجتماعي للطبقات، ووجود عدد كبير من الأشخاص الذين فقدوا مورد رزقهم وحدوث تغيرات في الأوضاع الاجتماعية والسكانية إذ هجر الناس الأرياف إلى المدينة وتطور الورش إلى مصانع”.(4)

وتدريجياً بدأ حلول البورجوازية كبراعم الرأسمالية الصناعية تأخذ أبعادها في المجتمع، حيث أن آليات عمل هذا النمط من العمل الاقتصادي يستلزم أطلاق قوى رأس المال لتعمل بأقصى طاقاتها. الم يقل مارتن لوثر المرن وكالفن المتطرف(دينياً) على حد السواء، بضرورة أن يعمل الإنسان على زيادة ربحه بكافة الوسائل والأساليب..! فإن أحد مزايا العمل الاقتصادي في ظل الاقتصاد البورجوازي، تمثلت بإزالة كافة العوائق أمام الرأسمال المندفع لتحقيق الأرباح والتراكم ثم الانتشار والتوسع، بما في ذلك تقليص سلطة الدولة أو تقيدها إذا ما وقفت أمامه عائقاً، بل وحتى انسحابها إذا كانت المرحلة تستدعي ذلك ” فقانون العرض والطلب وقانون المنافسة الحرة يشكلان القانونين الأساسيين من قوانين الرأسمالية” ويمثلان أدوات التوازن الاقتصادي بما ينفي أو يقلص مبرر تدخل الدولة. وعلى الصعيد الاجتماعي، فإن هذه القوانين قد دفعت بنفوذ النبلاء ورجال الدين إلى الخلف ولكن مع استمرار بقائهم عوائق بارزة في المجتمع، وإن كان ذلك مترافقاً مع الانسحاب التدريجي لتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، مقابل ظهور الاقتصاد الليبرالي، حيث استطاعت البورجوازية أن تعزز مكانتها على الصعيد الاقتصادي والسياسي في تحرك وتداخل مستمر للقوى الاجتماعية. (5)

نلاحظ إذن مسألة مهمة، أن تعديلاً مهماً قد طرأ على التحالف القيادي للدولة والمجتمع إذ غاب أو بهت فيه دور الكنيسة، وتلاشى أو كاد دور الإقطاع. أما الحاكم (الملك) فقد كان مضطراً لأن يأخذ بنظر الاعتبار دور البورجوازية المتنامي وقوتها الظاهرة، المالية في المقام الأول، وبذلك أضحى ترتيب الموقف القيادي: الدولة (الملك)، ثم البورجوازية (متمثلاً بأصحاب رؤوس الأموال / المصارف، أصحاب المصانع والورش الكبيرة وممثليهم)، وأخيراً دور هامشي غير فعال لبقايا الإقطاع، ونفوذ الكنيسة المعنوي. ولكن منذ عصر الليبرالية سيطغي دور البورجوازية على الدولة، إذ ستنسحب الدولة من مجال تأثيرها الاقتصادي مقابل تصاعد هيمنة البورجوازية على الحياة الاقتصادية وبالتالي الاجتماعية والثقافية ويتغلغل نفوذها تدريجياً ويتصاعد دورها في القرار السياسي وقيادة الدولة، بل وهناك في رحم الزمان مرحلة مقبلة غير بعيدة ستصبح فيه الدولة مجرد أداة بيد البورجوازية التي سيفشي نفوذها كافة مرافق المجتمع وتغدو هيمنتها مطلقة، وسيصبح الملوك والرؤساء مجرد موظفين لدى أصحاب رؤوس الأموال والمصارف والاحتكارات العملاقة، وهو بالضبط ما أصبحت عليه ملكيات عريقة في أوربا، فأصبحت كيانات رمزية شكلية ليس إلا..

وكانت البورجوازية (التجارية والصناعية) قد بزغ فجرها في الحياة الاقتصادية لا تتقبل فكرة سلطة الملك المطلقة، فذلك ينطوي على أضرار محتملة بأنشطتها وشراهة فعالياتها. لذلك كانت تدعو إلى “إنكار الحق الإلهي للملوك ” فقد بدا للناس أن هذا الحق لا معنى له، بل هو أحد عوائق التقدم (كونه يشير إلى سلطة غير محدودة للملوك) مقابل تصاعد الدعوة التي قادها مفكرون وفلاسفة، إلى احترام التعليم والدستور والقوانين. وهكذا فقد شمل مفهوم الليبرالية أصعدة السياسة والاقتصاد والتحرر الثقافي من ديكتاتورية الكنيسة الفكرية ” فقد رفضت الليبرالية أيضا السلطة التي كانت الكنيسة تدعيها للتشريع في أمور العلم والفلسفة”. (6)

أما على الصعيد الثقافي، فقد كانت الليبرالية زاهية في أبهي (قوة التحرر) صورها فقد بدا أن القطاع الثقافي قد أنتعش بحلول الليبرالية وازدهارها، كما تطور القطاع الاقتصادي، بل بدا أن كلا القطاعين مكمل أحدهما للآخر، وكان الناس يتداولون أعمال شعرية وأدبية وفنية سراً، أو كانت الكنيسة تفرض قيودها ورقابتها الصارمة على الأعمال الفكرية والثقافية سواء كانت أعمال علمية صرفة أو فلسفة وأدب وشعر وفنون، وأن رفع هذا القيد القاسي أو تخفيفه أدى إلى ازدهار الحركة الثقافية والعلمية، وكانت تلك المرحلة وما تلاها، عصر الاختراعات والاكتشافات المفيدة للصناعة والعلوم بصفة عامة، وللثقافة أيضا، حيث شيدت دور الأوبرا الفاخرة والمسارح والمتاحف لأول مرة، وازدهرت الموسيقى الكلاسيكية وتنامي اهتمام الناس بالفنون والآداب، وبد وكأن عصراً من الظلام الدامس قد أنزاح عن كاهل الشعوب، وبدأت تدريجياً تدب فيها الحياة ثم تضج بالحركة.

دور ومكانة الفكر الاقتصادي الليبرالي الذي قاد للنظام الديمقراطي :

آدم سمث 1723 ـ 1790 المفكر الإنكليزي الذي كان له دوره الهام في تكامل الفكر الليبرالي، من خلال مؤلفاته  وأهمها: كتابان هامان في (نظرية العواطف الأخلاقية) والثاني وهو الأهم بتقديرنا ( بحث في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها) صدر عام 1776 ويعد تأسيساً لعلم الاقتصاد السياسي الرأسمالي. وإذا ضربنا صفحاً عن أراء آدم سمث الأخلاقية اللاهوتية، فهي تبدو قليلة الأهمية حيال آراؤه الاقتصادية / السياسية التي أرست قواعد هذا العلم الذي سيلعب الدور الخطير في مستقبل الاقتصاد وسيكون رديفاً ضرورياً لفهم السياسة وتوجهاتها في الداخل والخارج. وأراء سمث الاقتصادية التي تنظمها كتابة ثروة الأمم، مثلت الدليل الآيديولوجي العلمي الأول لنشاط البورجوازية والوصفة التي كانت هي الدواء الشافي والمحرك الدافع للاقتصاد الرأسمالي.

 يقول آدم سمث ” أنه يريد أن يكفي الناس شر تدخل الحكومة (في الفعاليات الاقتصادية) وتعسفها” حيث تترك الصناعة حرة من كل قيود. وأن قانون المنفعة كفيل بتنظيم الشؤون الاجتماعية، بحيث إذا كفت الحكومة عن التدخل وتركت قانون تقسيم العمل (وهي أطروحة كان سمث قد تقدم بها ) بحسب الكفايات وقانون العرض والطلب يفعلان فعلهما، رأينا مصلحة المنتج ومصلحة المستهلك تتطابقان، فيضع سمث هذه القاعدة: كل أنسأن هو حر طالما لم يخالف قانون العدالة، وهو حر في أتباع الطريق الذي تدل عليه مصلحته، وهو يقبل بالمنافسة التجارية بكافة وسائلها، ولا يقر للعامل بحد أدنى من الأجر، بل يدعه تحت رحمة صاحب العمل.(7)

ولم تكن البورجوازية وأصحاب رؤوس الأموال والاستثمارات يريدون أكثر من هذا التنظير لأهدافهم، فليس هناك يرى المال والأرباح في القاموس الاقتصادي السياسي للرأسمالية، ولكن الأهداف الإنسانية والمعاني الاجتماعية، فهي قضايا لا قيمة لها البتة. وكان سمث قد توصل من قبل إلى نظرية تقسيم العمل (كما نوهنا قبل قليل) فأهتم بزيادة أنتاج السلع الصناعية. وإذا ما تم تجزأة العمل إلى عدة مراحل يقوم على كل مرحلة عامل متخصص، وكانت النتائج التي توصل إليها مبنية بلا شك على معطيات الإنتاج (8) أي على استبيانات ووقائع علمية.

ولا يريد آدم سمث أن يكون للدولة أي دور حتى في القضايا الاجتماعية التي لها جانب أخلاقي أو عاطفي. وبرأيه فإن ذلك ينطوي على أضرار لحرية العمل والإنتاج، ولا يريد أن تتدخل الدولة(الحكومة) لحماية الضعفاء أو لصيانة الأخلاق العامة، بل أنه يقصر وظيفتها على منع العنف وإقرار الأمن. وقد ظن أنه لا يوجد وسط ما يخافه من استبداد الحكومة، وبين ما يراه من إطلاق للحرية وهو تدخل الحكومة في حدود معقولة. والواقع أن آدم سمث طالب الدولة بالتدخل، ولكن فقط عندما يتطلب الأمر حماية النشاط الاقتصادي الرأسمالي، وهذه المطالبة ستغدو ملحة في المرحلة المقبلة عندما تصبح البورجوازية وقواها الصناعية هي القوة الوحيدة في الساحة، أما الدولة فيتعين عليها في المستقبل أن تجد فرص العمل والاستثمار في الداخل والخارج وأسواق لمنتجاتها.

وكان ذلك ما تنبأ به سمث، أو أنه أدرك أن الحاجة البسيطة اليوم سوف تتضاعف في المستقبل، لذلك أكد في كتابه “ثروة الأمم” أن موقع بلاده كجزيرة هدفها هو التوسع البحري والهيمنة على خطوط التجارة التي ستعتمد عليها الصناعة سواء في استيراد المواد الخام أو في تصدير الإنتاج، وفي ذلك تلبية لمصالح إنكلترا (الرأسمالية الإنكليزية بوجه أدق) وقد طالب بحرية التجارة والبحار ولكن بهدف حماية مصالح بريطانيا الاستعمارية في القارة الجديدة (أميركا) وساند قوانين الملاحة التي فرضتها بريطانيا على مستعمراتها الأميركية التي كانت تهدف على احتكار تجارة المستعمرات. (9)

وبهذه الأفكار يعد آدم سمث (Adam Smith) بحق واضع الدليل النظري الأول للفكر الرأسمالي في مجال الاقتصاد السياسي، وما تزال أفكاره حتى عصرنا هذا حية في الفكر الاقتصادي البورجوازي، وإن برزت هناك مدارس أخرى وفلاسفة وعلماء اقتصاد (في الفكر الاقتصادي الرأسمالي) أمثال: دافيد ريكاردو(David Ricardo)، اللورد جون كينز (1883 ــ 1946) (John Maynard Keynes)، وهما بريطانيان أيضاً، وكذلك ميلتون فريدمان(1912 ــ 2006) (Milton Friedman) المعاصر (وهو أمريكي)، وجميع هذه الأفكار تهتم بصورة رئيسية حول دور الدولة في الاقتصاد الرأسمالي وتدخلها عندما يكون ذلك ضرورياً ويستلزم إصدار تشريعات، لإنقاذها من الأزمات الدورية الخانقة: التضخم ـ الكساد ـ الانكماش ـ حالات الهبوط المفاجئ في أسعار العملات الرئيسية، أو في تدخل المصرف المركزي (التابع للدولة) لتعويم شركات عملاقة ـ التدخل بقوة الدولة في أرجاء العالم لحماية مصالح الاحتكارات، وسوف يكتسب هذا المفهوم تدريجياً وبمرور الوقت إلى حقيقة مؤكدة: الدولة هي أداة الطبقة البورجوازية في فرض الهيمنة في الداخل والخارج. وأن فكرة تدخل الدولة لتصحيح بعض مسارات الحياة الاقتصادية (الكنزية) ليست مستحبة (رغم ضرورتها) في الاقتصاديات الليبرالية (الديمقراطية).

ولكن الأمر لم يبق كذلك بشكل خالص، فنشبت الخلافات على كافة الصعد وفي المقدمة التنافس الاستعماري، ثم التنافس على الثروة والنفوذ والمستعمرات التي مثلت أهدافاً اقتصادية كمناجم المواد الخام، ، وسوق لتصريف السلع الجاهزة، ومثلت استراتيجياً القواعد العسكرية والسياسية والاقتصادية في أرجاء العالم، وساقت أبناء المستعمرات إلى حروب الضم والإلحاق الاستعمارية، كما شكلت من جهة أخرى مراكزاً للتوسع الرأسمالي / التجاري، والأمر في نهاية المطاف خرج وأبتعد عن إطار التنافس الحر الخال من الأطماع. فتولت دول تصفية ممتلكات دول أخرى، وتحاربت غير مرة، وهكذا أصبحت دول استعمارية كانت في المقدمة، تراجعت مكانتها الاقتصادية والسياسية بسبب معطيات طبيعية / موضوعية (المساحة والسكان، كهولندة و بلجيكا)، أو عجزت عن تطوير كياناتها السياسية أسباب ذاتية / موضوعية كأسبانيا والبرتغال. أو دول استعمارية فقدت مستعمراتها نتيجة الحروب كألمانيا وإيطاليا.

هكذا تأسس النظام الرأسمالي على بقايا عصور الملوك (تمكنت بعض الملكيات من مسايرة هيمنة البورجوازية الصناعية: بريطانيا (كندا، استراليا، نيوزيلندة)، هولندة، بلجيكا، الدنمرك، السويد، النرويج، وأخيراً أسبانيا)، وبإزاحة شبه شاملة لسيطرة ونفوذ الكنيسة، ثم بتقليص كبير لنبلاء الإقطاع، ومنهم من تحول إلى الصناعة، والمضاربات العقارية، ولكنهم فقدوا نفوذهم السياسي بالكامل.

النظام البورجوازي لم يكن ليقبل وجود شركاء ولا حتى بنسب بسيطة، الكل أو لا شيئ، وعلى هذا الأساس لم تقبل بالنظم الأخرى، كالنظم الاشتراكية ولا بمبدأ (Peaceful coexistence) التعايش السلمي مع أنظمة رغم خلافها الآيديولوجي / الاجتماعي معها، وحتى الأفكار الاجتماعية النبيلة، التي تدعوا للعطف بالفقراء، حتى فيما بعد بدأ النظام الاشتراكي (الأنظمة الشيوعية، قبلت بتعديلات على نظامها منها إلغائها شعار ” ديكتاتورية البروليتاريا” وحتى تصفية ملامح أساسية في نظامها الاجتماعي كدولة روسيا الاتحادية.

ولكن الأنظمة الرأسمالية العالمية كانت في غضون ذلك قد استكملت بناء نظام المتروبولات، والمراكز والنظم المحيطة، واستكملت بناء كياناتها السياسية بما يهدف إلى شيئ رئيسي وسواه تفاصيل تحتمل المناقشة، هو أن يكون النظام رأسمالياً وفق قواعد وقوانين النظام الرأسمالي وهذا هو النظام الديمقراطي وليس شيئ سواه.

 من ذلك مثلاً أنها لم تكن لتقبل اعتبار النظام الألماني (العهد النازي) رأسمالياً بصفة تامة، وكذلك النظام الإيطالي الفاشستي (عهد موسوليني)، أما عندما أبدى هذا النظامان الرغبة والإرادة في دخول ميدان القوى العظمى، وتعديل خارطة توزيع القوى، قادت هذه إلى تحالفات سياسية لإنقاذ خارطة المصالح، فكانت بريطانيا وفرنسا ضامنتان لسيادة بولونيا، وفي الواقع، فإن التحالف البريطاني الفرنسي كان له هدف رئيسي هو منع توسع ألماني جديد في أوربا. واستعادة ميزان القوى في أوربا وفي العالم، فاندلعت الحرب العالمية الثانية مع القوى الفاشية والنازية، رغم أن النظامان كانا رأسماليان بالملامح العامة والتفصيلية.

وإذا كان الهيمنة الاقتصادية، قد حقق للرأسمالية الهيمنة والنفوذ السياسي في الداخل، فإن التفوق العسكري، ضمن لها التوسع في الخارج، فإن هذا لم يحدث إلا بعد أن تحولت البلدان الرئيسية (المراكز ــ المتروبولات) إلى قلاع للاستبداد السياسي والاقتصادي، باستخدام مكثف للقوة المسلحة، كالولايات المتحدة التي فقدت روحها التحررية مع بداية الاستقلال عن بريطانيا، وتنكرت للروح الثورية التي ألهبت مشاعر الفقراء والكادحين والعبيد، الذين جلبوا من قارات أخرى ليعملوا كقوى عمل مجانية في استصلاح الحقول وتنكرت لشعوب وأمم ومثقفين وقفوا إلى جانبها في سبيل نيل استقلالها وحريتها.  بل وقمعت بقسوة دموية الحركات الاجتماعية والمطلبية في بواكير عهد الصناعة، وتحولت بسرعة إلى قوة بأيدي البورجوازية الصناعية الناشئة، وأصحاب الأملاك والأثرياء والمرابين وقوى رأس المال، ووضعت أسس الدولة الرأسمالية الاحتكارية، فأسست الأجهزة القمعية التي مارست ديكتاتورية الرأسمالية، والدليل هو أن حزبان فقط (الجمهوري والديمقراطي) يتناوبان على حكم البلاد من أكثر من 300 عام. ومثل الولايات المتحدة ينطبق القول على بريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا إلى حد ما.

والدول الرأسمالية تمارس القمع داخل مجتمعاتها، ولكن بنعومة، وبدون مبالغة في القمع كما يحدث في البلدان النامية. ولكنها حيال خطر ملموس على أمنها، فإن تصرفها يكون سريع وحاسم ولا يخلو من القسوة. أطلعنا مرة على قوائم الممنوعين من دخول الولايات المتحدة .. الأرقام مذهلة، ومن مختلف الدول حتى الصديقة. ومن بين الممنوعين أدباء وكتاب وفنانين مرموقين. أما المكارثية (نسبة إلى ماك أرثر وزير الداخلية الأمريكي) فهذه لم تحدث قبل مئة عام، بل في نهاية الأربعينات والخمسينات، وهي حركة أمنية جرى خلالها توجيه الاتهامات الخطيرة (سجن نحو 200 شخص) وطرد من الوظيفة ولوحق نحو (10,000) شخص دون إثبات، فجرى خلالها اجتثاث واعتقال أعداد غفيرة من المواطنين الأمريكان، بل وأسقطت الجنسية عن بعضهم كالفنان تشارلي شابلن والعازف لويس آرمسترونغ، والممثل سترلينغ هايدن، والسياسي مارتن لوثر كينغ، والعالم البرت انشتاين والكاتب ارثر ميللر وفنانين وكتاب آخرين، وحدثت أعمال مماثلة في دول رأسمالية أخرى ولكن بضجة أقل.

وفي المرحلة الراهنة التي لم تتخذ بعد شكلها النهائي، الرأسمالية عبرت مرحلة الإمبريالية إلى مرحلة العولمة (Globalisation) : السيطرة الكلية على العالم، ولكن نشوء متروبولات رأسمالية متعددة، سيعقد الأمر بهذه الدرجة أو تلك (بما في ذلك الاتحاد الأوربي، اليابان وكتلة نمور آسيا). سيزيد احتدام الموقف، أو في قيام أنظمة رأسمالية إمبريالية تطورت عن النظم الشيوعية وهي تتغول يوماً بعد يوم، وتستفيد من التناقضات التي تعم العالم الرأسمالي، وتطرح نفسها كنماذج رأسمالية جديدة، تبدو مقنعة  في كثير من الأحيان(كالصين وروسيا).  يحدث هذا وسط نمو اتجاهات عديدة ضمن الرأسمالية، ولكنها تنحو مناحي انعزالية، وتطرح بعضها مواقف وطنية / قومية في أوربا وحتى في الولايات المتحدة.، ودول لها اقتصاديات واعدة(كالهند والبرازيل)

اليوم وبعد أن ترسخ النظام الرأسمالي بدرجة موثوقة، في الديمقراطية الحالية لمرحلة الرأسمالية العالمية، للمواطن الحقوق التي يمنحها له القانون، وإذا أراد الاحتجاج فله ذلك ولكن بطريقة تحددها الدولة (تحدد الزمان والمكان وحتى شعارات التظاهر أو الاحتجاج)، وخارج ذلك بمليمتر واحد سيواجه بحزم. ومن غير المقبول بأي صورة الحديث عن مجتمع يخالف في النتيجة النهائية النظام الرأسمالي وقيمه وأصوله. فالمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية قد وضعت أسسها بحيث يرفض أي تعديل أو تغير وبأي وسيلة كانت.

البلدان (الديمقراطية) في المرحلة الراهنة تصدر نماذجها بالقوة المسلحة تريد فرض النتائج التاريخية المتفاوتة في التدرج وفي النتائج أيضاً، تصدرها معلبة تحت عبارة ” الديمقراطية “ مستغلة ضعف التشكيلات السياسية والاجتماعية والثقافية للبلدان النامية تفرضها بوسائل الضغط والإكراه وصولاً إلى درجة الغزو المسلح، متجاهلة مستوى التطور التاريخي والاقتصادي والاجتماعي، وتجربتها التاريخية. ومتجاهلة حقيقة أن النظم الرأسمالية اليوم نفسها متفاوتة حتى في المعطيات الأساسية. فبالإضافة إلى الخلاف بين الأقطاب الرأسمالية على مفردات عديدة، فهناك خلاف في عناوين رئيسية بين الأقطاب الرأسمالية والصين مثلاً، ثم مع روسيا، وهذان القطبان الرأسماليان يطرحان تصوراً مختلفاً لصورة المجتمع وعلاماته، ناهيك عن تصاعد الخط الشعبوي اليميني المتطرف في بلدان رأسمالية كالولايات المتحدة، ومؤشرات أخرى مهمة في بلدان أوربية، الأمر الذي يطرح تساؤلاً مهماً ما هي ملامح الديمقراطية وما هي أصولها الفكرية والتاريخية التي يراد تطبيقها في البلدان الواعدة، لأن تكون مقبولة ضمن المناخ الدولي العام، ولا تستهدف كياناتها السياسية، لا بالعقوبات، ولا بالمقاطعة أو الحصار أو إجراءات أخرى وصولاً ربما إلى أعمال تدخل عسكرية.

العولمة

والعولمة اليوم هي المرحلة الأحدث في المسار التاربخي للنظام الرأسمالي العالمي. ومن أجل فهم هذا المصطلح الهام، وبالتالي ليصبح بالإمكان تعريفه وإيضاح أبعاده، لنعد إلى عصر الثورة الصناعية قد قادت إلى عصر الاستعمار الذي كان قائماً بصفة رئيسية على الاحتلال المباشر وممارسة سياسة الضم والإلحاق، أما والاستعمار الجديد Neo Colonialism كان تعبيراً صادقاً عن تطور الأنظمة الرأسمالية الاستعمارية وانتقالها إلى مرحلة استعمارية متقدمة تمثلت باتحاد سلطة الدولة مع الاحتكارات وسلطة رأس المال المالي، وصيرورتها متربولات عملاقة للاحتكارات الرأسمالية العظمى اتحدت مع سلطة الدولة وأقامت النظم الإمبريالية.

 وقد تسعى الأقطاب الرأسمالية إلى تنسيق فعالياتها كي لا تصطدم ببعضها وتجنب ما قد ينجم عن هذا الاصطدام من آثار مروعة، وقد تعقد تحالفات وائتلافات، وقد تتفق فيما بينها على هذا الأمر أو ذاك في هذه المرحلة، وتعقد المؤتمرات والاتفاقيات وتتقاسم فيما بينها (المصالح)، ولكن هذه الترتيبات ليست نهائية، وعندما يصل التنافس ذروته حيث لا محل في القمة سوى مقعد واحد، آنذاك سوف تسعى الأطراف المتنافسة إلى احتلاله، وتنهض تحالفات جديدة، وتدور صراعات يمكن أن تتطور في أي لحظة إلى صراع مسلح، عندما يبلغ التناقض نقطة لن يكون بوسع نظام العلاقات السائد استيعابه، ويبلغ التناقض في المصالح درجة لا يمكن السكوت عنها، يتطور ذلك الصراع إلى درجته المسلحة بصرف النظر عن الخسائر فالأمر يدور حول كل شيء أو لا شيء، فتاريخ الحروب في العالم (14 ألف حرب ونزاع مسلح)تشير أن الحروب هي حرفة رأسمالية.

 ومع أن الرأسمالية بجناحيها: الديمقراطي والفاشي / النازي، كانتا معاديتان للاشتراكية، فالحرب العالمية الثانية، كانت ناجمة عن مستحقات جديدة في أوربا من جهة، ومن جهة أخرى كانت هزات ارتدادية للحرب الأولى ومقررات مؤتمر فرساي حيث تناهبت الدول المنتصرة ممتلكات الدول المندحرة بل وقطعت أوصالها وأثخنتها بالديون الثقيلة والنزاعات الداخلية التي قادت إلى أزمات وصراعات محلية. فالحرب العالمية الثانية كانت إذن في لحمتها وسداها عبارة عن نتيجة لاحتدام التناقضات بين الأقطاب الرأسمالية وبسبب بروز فئات جديدة في مجتمعاتها (الفاشية والنازية)، فالتناقضات تقود في مراحلها المتقدمة إلى تيجاوز الصراع الخلافات ما وراء الكواليس وعبر الوسائل الدبلوماسية إلى الصراع مباشرة على مسرح الأحداث ومن درجته الدبلوماسية الهادئة إلى لغة المدافع الصاخبة، ولم يكن هناك رقم صعب في المعادلة سوى الاتحاد السوفيتي الذي كانت كافة الأطراف تكن له العداء وتود تصفيته ولطالما عملت على ذلك سراً وعلناً بالتآمر وبمحاولات العزل السياسي(لم يكن للاتحاد السوفيتي قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية أكثر من 8 سفارات في العالم) والتدخل العسكري والتحريض، كما أن الاتحاد السوفيتي بدوره كان ينظر إلى الصراعات التي تدور في المعسكر الرأسمالي بين استعماريين قدامى وفاشيين جدد، هو صراع بين الأطراف الرأسمالية على الأطماع والمكاسب ليس إلا.

وكان لتأسيس عدد من المنظمات الاقتصادية والتجارية الدولية، منها ما هو تحت راية الأمم المتحدة (بعيد الحرب العالمية الثانية) مثل صندوق النقد الدولي IMF ، والبنك الدولي للتنمية والأعمار IBRD ومنها ما هو خارجها دون أن يكون بعيد عنها مثل منظمة التجارة الدولية GAAT ونادي روما ونادي باريس. وكما مثل مؤتمر برتون وودز واتفاقياته، Bretton Woods (في الولايات المتحدة الأمريكية صيف عام 1944) بحضور 44 دولة تم أعتمد فيها الدولار كقاعدة للتعامل التجاري الدولي. الأداة القانونية الرئيسية للنهب الاقتصادي. كانت أدوات رئيسية لتوسع نفوذ الرأسمال لاحتكاري العالمي.

والمؤشرات الحديثة التي ابتدأت مع نهاية القرن العشرين، كانت عملية قد ابتدأت في الواقع منذ السبعينات، وعندما أشتد تمركز رأس المال المالي(المصرفي) وغدت الدولة أداة بيد الاحتكارات الرأسمالية ليس إلا، كما اشتدت عملية تصدير رأس المال من بلدان المركز (المتروبولات) إلى الخارج، فعلى سبيل المثال بلغ أجمالي مبيعات عشر شركات متعددة الجنسية مساوي لمجموع الإنتاج القومي للقارة الأفريقية، وبلغ أجمالي مبيعات شركة جنرال موتورز الأمريكية عام 1986 حوالي 97 ألف مليون دولار، أي ما يساوي ثلاثة أضعاف أيراد السعودية النفطي، وتسيطر 50 شركة من هذه الشركات الاحتكارية الدولية على نحو ثلثي مجموع الأصول الثابتة في العالم. وتظهر إحصائيات 1986 أن مبيعات 500 شركة أمريكية الأصل(متعددة الجنسية) بلغ 1,8 تريليون دولار وبلغت أرباحها للسنة نفسها 70 ألف مليون دولار.(10)

واتخذت أساليب تصدير رأس المال والفعاليات الخارجية أشكالاً راقية ومتقدمة وتمكنت من اجتياح معظم بلدان العالم، ولم تنفع وسائل الحماية القانونية، حيث تقدمت تلك الاحتكارات بصيغة الشركات المتعددة الجنسية التي استطاعت تخطي الحواجز وقوانين الحماية، ووقفت حكومات البلدان الرأسمالية الصناعية بكل قواها السياسية والعسكرية والاقتصادية وراء هذه الشركات إلى أن تمكنت من التغلغل عميقاً في اقتصاديات مختلف بلدان العالم، والنامية منها بشكل خاص بتأثيرات كارثية.

ومن جهة أخرى، مضت الولايات المتحدة في استغلال هيمنتها المطلقة على مسرح السياسة الدولية بإطلاق شعار النظام الدولي الجديد ومن ثم العولمة، ومنحت هذه العناوين والشعارات أبعاداً دولية شرعية، عبر هيمنتها شبه المطلقة على المنظمات الدولية، السياسية والاقتصادية، وبدت وكأنها تياراً كاسحاً ليس بوسع أحد الوقوف بوجهه، ثم اتخذت هذه الهيمنة طابعها القهري والإرغامي عبر ضربات عسكرية في الشرق الأوسط بصفة خاصة(أفغانستان وفلسطين والعراق) وفي يوغسلافيا، وتوجيه التهديد إلى دول أخرى في العالم (كوبا وكوريا) بذرائع مختلفة.

ولكن هذه التوجهات اتخذت طابعاً فعلياً، بدت فيه الولايات المتحدة الأمريكية تنزع فيه إلى الهيمنة المطلقة بحثاً عن ذرائع ليس لقمع التوجهات التحررية لدى بعض البلدان النامية وإخضاعها بصفة تامة، بل وحتى لبعض حلفائها السابقين، وتلك صفة جديدة حصلت عليها بسبب الهيمنة المطلقة وانعدام ظروف التنافس أو القطبية الثنائية، وسوف نتطرق إلى ذلك.

يركز بحثنا في هذا الجانب على ظروف قيام النظام الدولي الجديد أو العولمة Globalisation، حيث لابد من الإشارة بادئ ذي بدء إلى أن تسمية النظام الدولي الجديد كأنما أريد به نهاية لمصطلح النظام الدولي الذي قام على وحي وروح مؤتمر يالطا (1944) في لقاء مالطا بين بوش وغورباتشوف (1991)، الذي كان قائماً على الثنائية القطبية، وقد أنتهي هذا النظام بتفكك الاتحاد السوفيتي.

وإذا كان النظام السابق وقد تعرفنا على آلياته القائمة أساساً على توازن القوى، فأن النظام الجديد هو عبارة عن مجموعة مفاهيم غامضة، ولكن الفقرة الأكثر وضوحاً فيه، تمثلت بتربع الولايات المتحدة منفردة على قمة هذا النظام، تحدد وتقرر بمفردها توجهاته وتسن مفاهيمه لا سيما في مجال اتفاقيات انتشار الأسلحة والتجارب النووية وأبحاثها وعسكرة الفضاء الخارجي والصواريخ العابرة للقارات، وما إلى ذلك من وسائل السيادة والقوة والهيمنة حتى على الأمم المتحدة ومجلس الأمن. فالولايات المتحدة كسبت الحرب الباردة بعد أن أنهكت الاتحاد السوفيتي في سباق التسلح على حساب التنمية في البلدان الاشتراكية.

وكانت أهم شعارات وشروط النظام الدولي الجديد: حرية السوق، إزالة الحواجز الجمركية، وهذا ما يضمن دخولها المريح السهل لكافة الأسواق العالمية، وشعار حقوق الإنسان، الذي يضمن تدخلها في الشؤون الداخلية لكافة بلدان العالم. ولابد من الإشارة إلى جميع هذه الفقرات يجري تسويقها وتوظيفها وفقاً للمقاييس الأمريكية وقاموس المصطلحات السياسية والاقتصادية الرأسمالية بصفة عامة، فحرية السوق تعني القبول بمبدأ الاحتكار والتجارة الحرة تعني رفع الحواجز مهما كان نوعها أمام فعاليات الشركات الأمريكية. وقد دارت صراعات مريرة بين الولايات المتحدة من جهة واليابان أو الدول الأوربية من جهة أخرى حول تفسير فقرات من اتفاقيات الجات التي أبدت الولايات المتحدة مراراً عدم الالتزام بها. وتعني حقوق الإنسان والديمقراطية تعني إتاحة المجال والفرصة للعمل أمام الفئات أو المتعاونين مع الولايات المتحدة ودون ذلك يعد إرهابا وتخريباً، فالمسألة برمتها تلاعب بالألفاظ يفتقر إلى المصداقية ولو بحدوده الدنيا والشواهد على ذلك كثيرة في الواقع، وفي مقدمة ذلك طرد الولايات المتحدة عام 2001 من مؤتمر حقوق الإنسان العالمي بأغلبية ساحقة من الأصوات.

بيد أن عنوان النظام الدولي الجديد بدا مريباً بعض الشيء فأستعيض عنه بمصطلح العولمة Globalization، وفي الواقع فأن هذين المصطلحين يخفيان الجوهر الحقيقي لعملية تدور وتهدف إلى هيمنة المركز الرئيسي العالمي للرأسمالية الاحتكارية وتوجيه العالم وفقاً لمفاهيمها ومقاييسها والتدخل حتى في الشؤون التفصيلية للشعوب والأمم. وقد سعينا من خلال ما تقدم عرض المرتكزات والشروط الأساسية من أجل فهم دقيق للعولمة ومن خلال:

أولاً/ أن العولمة هي مرحلة من المراحل التاريخية لتطور رأس المال المالي، بل هي أكثرها تطوراً، إن اتحاد الدولة مع رأس المال الاحتكاري، هذا الاتحاد الذي فرخ الدول الإمبريالية، فالعولمة اليوم تعبير على أن هذا الحيوان الهائل قد بلغ مرحلة متقدمة في تطوره، بل أنه يصح القول أن العولمة، هي أعلى مراحل الإمبريالية.

ثانياً/ أن فعاليات الشركات المتعددة الجنسية قد تشابكت وتداخلت لتصبح من سمات الحياة الاقتصادية اليومية لمعظم شعوب العالم، وكذلك كثافة حركة رأس المال على الصعيد العالمي عبر شبكة هائلة من البنوك.

ثالثاً/ إن الموقف الاجتماعي الداخلي (بسبب شدة تمركز رأس المال المالي لارتفاع كلفة المشاريع، وارتفاع معدلات التضخم) أدى إلى وقوع الدولة وأجهزتها في قبضة الاحتكارات وبيوت المال وغدت الدولة الرأسمالية الاحتكارية مسخرة بصفة مطلقة لخدمة هذه الاحتكارات وليس أدل على ذلك من أن الولايات المتحدة ومثلها الدول الرأسمالية الرئيسية وعلى الرغم من ثرائها الكبير، لا تعمل بمجانية العلاج حتى للفئات المسحوقة، بل أن تكاليف التأمين الطبي باهظة بحيث يعجز عن دفع نفقاتها فهناك 37 مليون أمريكي عاجز عن دفع نفقات التأمين الطبي عام 1990 وأن 20% من أصحاب الثروات يستحوذون على 90% من صافي الدخل القومي.(11) وفي مطلع الثمانينات بلغت شدة درجة تمركز رأس المال في الولايات المتحدة، لدرجة سيطرة ثمانية مؤسسات مالية كبرى هي: مورجان، روكفلر، ديبوت، ملبون، بنك أوف أميركا، بنك شيكاغو، بنك كليفلاند، بنك فرست ناشنال سيتي، بلغ رأسمالها المستثمر في السبعينات 218 مليار دولار.(12)

رابعاً/ أما على الصعيد الخارجي فإن اشتداد دولنة الاقتصاد(أي المزيد من جعله دولياً) جعل من ذلك العنصر الأساسي، السمة الأساسية للمرحلة وعنصراً مهماً في أقامة التحالفات الخارجية للدولة (الولايات المتحدة) التي تولت قيادة الإمبريالية الجديدة(العولمة) بفضل انفرادها بالهيمنة على العالم.

خامساً/  ومع أن لكل مرحلة تاريخية من مراحل تطور الدولة الرأسمالية وسماتها التفصيلية، لكن العنصر الثابت يشير إلى استمرار السعي لجني الأرباح والتوسع السمة الرئيسية للرأسمال المالي ولكن مع أشداد ظاهرة الدولنة في الاقتصاد.

سادساً/ إن التنافس بين الأقطاب الرأسمالية(المتروبولات) كان عبر التاريخ وما يزال فقرة أساسية في العلاقات بين الدول الرأسمالية وليس ظاهرة عابرة. وكثيراً ما وصل إلى ذروته(الصراع المسلح) وقد حدث ذلك في مراحل التاريخ دائماً (14,000) حرب ونزاع مسلح (13)، أن التنافس والصراع على مراكز النفوذ واقتسام العالم كان السبب الرئيسي في هذه الصراعات، وسوف يستمر هذا العنصر ملازماً للرأسمالية في كافة مراحلها. وقد قلصت أسلحة الدمار الشامل عدد الحروب وأتساعها ولكنها لن تمنع اندلاعها بأي صورة من الصور

والعولمة)بوصفها الناتج الطبيعي لتطور الرأسمالية لما بعد مرحلة الاستعمار الجديد ـ الإمبريالية، فأنها تتميز بسمات وملامح في هياكلها السياسية والاقتصادية، كما في توجهاتها على الصعيد العالمي ومن تلك:

 أ / باعتبار أن عملية تمركز رأس المال المالي ماضية بل وتشتد أكثر، لتكون في يد فئة قليلة من كبار الرأسماليين (مصارف، مؤسسات تمويل واستثمار) ومع تعاظم نفوذها الذي أنعكس بداهة على تأثيرها السياسي داخلياً وخارجياً. كما غدت القوة الأولى المهيمنة في بلدان المتروبولات، فهي ليست المغذية الأولى للصادرات إلى الخارج الاستهلاك الداخلي فحسب، بل وتعدى حدودها إلى احتكارها لصناعة السلاح وأنشطة الفضاء الخارجي، فغدت الدولة أداة الاحتكارات الأولى، ويندر أن يخلو ملف من ملفات الدولة الخارجية من أهداف هذه الاحتكارات على رأس جدول أعمالها، وتصب معظم فعاليات الدولة السياسية / العسكرية في طاحونة مصالح الاحتكارات.

ب/ بناء على ذلك تراجع دور الرئيس والمؤسسات في اتخاذ القرارات مقابل تعاظم دور المؤسسات المالية وما انبثق عنها من إدارات وهيئات تحت عناوين ومسميات شتى، بل أن الاحتكارات والبنوك، تدير معاهد دراسات وأبحاث سياسية وعلمية وغيرها. ويلاحظ أن القرارات تخضع لعملية طويلة نسبياً، ولكن في النهاية فهي تراعي بالمقام الأول مصالح الاحتكارات.

ج/ واستطرادا، فقد احتكرت الفئات العليا من ملوك الصناعات وبيوت المال السلطة، وجعلت العناصر الأخرى، عناصر مساعدة ثانوية الأهمية، وتلك صيغة فريدة في وصف الائتلاف الاجتماعي الحاكم. ومما يثير الدهشة أن هذه الأنظمة تسوق شعارات الديمقراطية في وقت تحتكر فيه السلطة بحدود ضيقة للغاية. ولكن باعتبار أن النظام الرأسمالي هو نظام قديم تاريخياً، والنظم الحالية أنما هي حصيلة تطور وخبرة قرون كثيرة، تطورت فيها أساليب وتقاليد العمل حتى بلغت هذا المستوى من ترويض العناصر المعادية لها، ووضع القوة البشرية في خدمتها، بما في ذلك نقابات عمال موالية لها.

د/ الإقحام المتزايد لمعطيات الثورة العلمية التكنيكية وشيوع استخدام العقول الإلكترونية والروبوتات في الصناعات الثقيلة والمايكرو الكتروتكنيك في المعدات الدقيقة.

و/ وباعتبار حقيقة مؤكدة هي أتساع حجم وأهمية الاقتصاد الدولي وتكاثف نشاطاته وفعالياته لدرجة يصعب فيها ملاحقة ومتابعة الأصول والجذور لرؤوس الأموال والشركات، فقد غدا الاقتصاد عنصر الضغط الأساسي الذي تمارسه الدول الرأسمالية المتقدمة، إلى جانب وسائل الضغط الأخرى ومنها العسكري، كما يلاحظ وفي أطار تصدير رأس المال ودور الديون وفوائدها وأقساطها (خدمة الدين) في اقتصاديات الدول النامية، الأمر الذي رفع من قيمة ونفوذ بيوت المال في دول المركز من جهة كما زاد من تبعية الدول المدينة من جهة أخرى.

ز/ أبدت الإمبريالية الجديدة وأدواتها الثقافية (وهي كثيرة ومتنوعة، إعلامية وثقافية) العداء لكل ثقافة لا تستسلم لها بصفة تامة، بالاستفادة من الثورة التكنولوجية في دنيا المعلومات وشبكة الاتصالات الدولية والفضائيات، تقدمت الإمبريالية بمشروع ثقافي لا يكن الاحترام للثقافات والمنجزات الحضارية، والقيم الثقافية/ الدينية للشعوب الأخرى، ويسعى في حملات غزو وتأثير سلبي وأضعاف وتهميش لتلك المنجزات بهدف أضعاف شخصيتها الوطنية والقومية وجعلها خيوطاً رفيعة في نسيجها الثقافي، وعدم الاكتفاء (كما فعل الاستعمار والإمبريالية) بجعل الشعوب توابعاً في خدمة اقتصادها العالمي، بل وتكريس تبعيتها نهائياً بإلغاء ملامحها وثوابتها الثقافية والوطنية والقومية، فقد أدركنا من تجربة الاستعمار والاستعمار الجديد (الإمبريالية)، وأن العناصر الثقافية والروحية والقومية لعبت دوراً مهماً في النضال ضد الاستعمار والإمبريالية، لذلك تحاول العولمة تحطيم تلك العناصر في شخصيتها لتزيل عقبة مهمة لتحقيق هيمنتها التامة.

 تخلق هذه الأهداف التي تستهدف جبهة عريضة من شعوب العالم، بما في ذلك أمم صناعية متقدمة، ولم تعد الاشتراكية والنظم الاشتراكية فقط تستوجب العداء، بل أن المركز الرئيسي للاحتكارات (الولايات المتحدة) تجد في العولمة ما يستدعي عداء أمم أخرى كالصين وروسيا وشعوب عربية وإسلامية، بل وحتى أمم مثل فرنسا وألمانيا رغم أنها حليفة للولايات المتحدة التي لم تعد تقبل بأمم حليفة، بل العالم بأسره في معسكر واحد تقوده وتسخر جميع أمم العالم لمصالحها، طالما أنها تتمتع بالقوة العسكرية أولاً والاقتصادية لمثل هذا الدور. فقد تحول المتربول الأمريكي إلى حيوان خرافي يجوع كلما ألتهم أكثر.

فالعولمة ببرنامجها الاقتصادي ـ الثقافي ـ السياسي، تواجه شعوب وأمم العالم، معتمدة على القوة في أرغام تلك الشعوب بوسائل الترهيب والترغيب في غياب قطب ينافسها أو يحدث التوازن في القوى، وبسبب القوة بل التفاوت الشديد في ميزان القوة لصالح الإمبريالية الجديدة، فقد أحدث اضطرابا واضحاً ضمن المعسكر التحرري وسادت الفوضى عدم وضوح الرؤية واختلاط المفاهيم، بيد أن ذلك هو أمر مؤقت، وهناك المؤشرات الكثيرة التي تدل: أن معسكراً عريضاً من القوى والحركات في سبيله إلى النهوض مجدداً لمقارعة الإمبريالية الجديدة. فبالإضافة إلى القوى العمالية والاشتراكية واليسارية وقوى الديمقراطية واتحادات نقابات العمال تلك الغير مرتبطة بالأجهزة الرأسمالية، وحركات الفلاحين والكادحين والشغيلة، واتحادات النساء والطلاب، وفئات تقدمية، من الخضر والمحافظين على البيئة وغيرها من القوى المعادية للإمبريالية القديمة والحديثة، فإن عناصر وفئات كثيرة تنظم اليوم إلى التحالف العريض منها: الموظفين والتكنوقراطيين وفئات كانت تعتبر ميسورة الحال ضمن الظروف الاقتصادية السابقة، دفعهم اشتداد التمركز إلى ما تحت خط الوسط في المجتمع.

ومن المتوقع أن ينظم إلى هذا التحالف العريض المعادي للإمبريالية الجديدة في مراحل لاحقة ومتقدمة من الصراع حتى الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، بل وحتى الفئات العليا مكن البورجوازية الأوربية دفاعاً عن مصالحها المهددة من قبل الولايات المتحدة، أولم تكن الحرب دائماً حرفة الرأسماليين المفضلة ؟

ومن الخصائص المبكرة في هذه الجبهة العريضة (وهي بصدد التشكل) المناهضة للإمبريالية الجديدة، أنها ليست قائمة على تناقضات اقتصادية/ طبقية، بل وأيضاً بسبب التناقضات العرقية/ الأثنية، والثقافية / الدينية، بالإضافة إلى التناقض الأساسي، الاقتصادي / الطبقي. وعلى هذا النحو، فأن هذه الجبهة العريضة تجذب إليها قوى وعناصر كثيرة سواء داخل البلدان الصناعية أو خارجها. ففي الداخل، فأن طبقة الشغيلة التي هي توسيع لمصطلح الطبقة العاملة، حيث تجد فئات الشغيلة نفسها في موقع النهب من قبل الاحتكارات العملاقة، وقد يدخل في عداد هذه الفئات حتى المهندسين والأطباء والتكنوقراطيين والبيروقراطية، وهناك اليوم عناصر وفئات وطبقات كانت إلى ما قبل عقود قليلة بعيدة عن مجرى النضال الاجتماعي في البلدان الرأسمالية الصناعية المتقدمة.

ومقابل تقلص الائتلاف الحاكم في بلدان المتروبولات نتيجة لشدة تمركز رأس المال المالي كما بينا، حدث توسع في جبهة النضال المعادي للاحتكارات، باعتبار أن ما تستهدفه (العولمة) في بلدان العالم النامي وغير النامي، أهداف كثيرة منها ما يتصل بثوابت الشعوب والأمم من لغة وركائز ثقافية منها التقاليد والعادات والطقوس الوطنية والاجتماعية وغيرها، فالعولمة تعني تدخل فظ في الاتجاهات الأساسية من حياة تلك الشعوب. فالرأسمالية الحديثة(العولمة) لا تهدف إلى نهب البلدان اقتصاديا فحسب، فالعمل الاقتصادي الحديث يتقدم تكنولوجياً بحيث أنه يتطلب إنسان راق، وهذا الإنسان بحاجة إلى شحنة ثقافية بقد ما يفيد عملية الإنتاج، وبذلك أصبح وفق حسابات العولمة من الضرورة فرض لغة ومزاج وبلورة ذوق في اللباس والطعام تهدف في النهاية إلى خلق شبح إنسان، أو ظل باهت في البلدان النامية أو حتى الصناعية، وضرورة أن تدور عمليات اجتماعية/ ثقافية تحت السيطرة، لا تقود إلى انفجارات في المستقبل. وهكذا فأن هذا الصنف الجديد من الاستعمار(الإمبريالية الجديدة) هي من أشد ما واجهتنه البشرية من شراسة وعدوانية، بحيث أنها تستهدف الإنسان ليس في قواه العضلية كما فعل الاستعمار وقوى الرأسمال السابقة فحسب، بل أنها تستهدف ثقافته ومكوناته الوطنية والقومية ومصادرة تامة لحقوقه المادية والمعنوية. بهدف نهائي هو وضع شعوب العالم في خدمة الإنتاج.

وعلى هذا الأساس أيضاً، أثارت (العولمة) الإمبريالية الجديدة عداء قوى ليست معادية للإمبريالية تحت عناوين وشعارات اجتماعية، بل ثقافية ووطنية بالدرجة الأولى. فقد كان الاستعمار يستثير ضده عداء عناصر واسعة من المجتمع، بما في ذلك عناصر من الإقطاع ورجال الدين، وبورجوازية وطنية، فأن الجبهة المعادية للإمبريالية الجديدة لا تقل جبهة العداء لها أتساعاً، لذلك فأن النضال المعادي لها الآن سوف يجد في صفوفه تيارات غير تلك التي ناضلت ضد الاستعمار والإمبريالية، منها قوى التحرر الوطني والديني والقومي، بالإضافة إلى الفئات الاجتماعية العريضة التي سترى في الإمبريالية الجديدة(وذلك مهم) خطراً على مرتكزاتها الثقافية وأصولها وجذورها الفكرية وما يشكله ذلك من مخاطر على الروابط الوطنية والقومية تؤدي في المدى البعيد إلى تفكيك الكيانات الوطنية وأضعاف روابطها.

واستيلاء مؤسسات الرأسمال المالي الاحتكاري على السلطة لم يكن بهدف نيل مزايا المنصب، بل هم يأتون على الأغلب بشخص غير مهم ويمولون حملته من أجل الفوز(تكلف حملات التمويل بضعة مئات ملايين من الدولارات)، وتنحصر المنافسة(وهكذا الأمر منذ تأسيس الولايات المتحدة) بين شخصين، كلاهما هو خادم للاحتكارات بدرجة متساوية تماماً. وهدف الاحتكارات من استيلاء التام على السلطة، هو استغلال قدرات الدولة السياسية والعسكرية، بشكل أساسي من أجل إحراز المزيد من المكتسبات وفي ذلك بالضبط اشتدت ظاهرة تدويل الاقتصاد العالمي، واشتدت كثافة الفعاليات الدولية في مجال الاقتصاد، وهذا ما تتميز به المرحلة الحالية، اشتداد ظاهرة الدولنة / Internationalisation   (التدويل) والتنافس بين بلدان المتروبول على كسب بلداناً وجعلها على محيطها الاقتصادي(الاقتصاديات الوسيطة)ويدور مثل هذا الصراع في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وعندما لا تبقى أماكن شاغرة(بلداناً ومجتمعات) يبادر كل طرف (حسب قدرته وقواه) إلى الاستيلاء على ما بحوزة الأطراف الأخرى.

تقليدياً، كانت أميركا اللاتينية ملعباً محتكراً للولايات المتحدة وفعالياتها، إلا أن المتروبولات الأوربية واليابان بدأت بالتسلل ثم باقتحام هذا الوسط وكذلك هجومها على أسواق جنوب شرق آسيا التي كانت مكرسة تقريباً للاحتكارات الأمريكية واليابانية، وليس بعيداً عن هذا المعنى ما يدور من صراع علني وخفي لإحراز المكتسبات وبصفة خاصة على نفط الشرق الأوسط الضروري في أي صراع بين المراكز الرأسمالية، وهو يفسر إلى حد ما تقوم به الولايات المتحدة في الشرق الأوسط البلاد العربية والإسلامية تحديداً.

الإمبريالية الجديدة (العولمة) تهدف إذن إلى الأهداف التالية بصفة عامة:

  • عولمة الاقتصاد: إيجاد عالم بدون حدود اقتصادية وجعله عالماً واحداً فقط، وذلك يعني حرية الطرف الأقوى: الاحتكارات.
  • الثورة العلمية التكنيكية: اندماج للعلم مع التكنولوجيا بوتائر متسارعة.
  • استنفاذ الدولة لدورها التنموي وسقوطها التام فريسة بيد الاحتكارات وبيوت المال.
  • مبدأ كفاءة وحرية السوق، فكرة تتبنى الحرية كمفتاح رئيسي للايدولوجيا البورجوازية(حرية مطلقة للعمل الرأسمالي) بوصفه محركاً لعالم شامل مزدهر ومحفز للثورة العلمية( حرية السوق، خلوه من العوائق الافتراضية للدولة كقوانين الحماية).
  • أطلاق موجة ثقافية على كافة الأصعدة السياسية/ التاريخية/ الفنية / الموسيقية..الخ تؤدي في النهاية إلى خلق ثقافة سطحية لا تغوص إلى مشكلات الإنسان الحقيقية والعميقة.(14)
  • إذن ووفق مؤشرات عديدة أن الإمبريالية الجديدة، هي ذات الإمبريالية القديمة(الاستعمار القديم) ولكن مع إضافات غير جوهرية أملتها التطورات السياسية(الانفراد بقيادة العالم) اقتصادية دولية(دولنة الاقتصاد ـ مكانة الاقتصاد الأمريكي) وعسكرية(امتلاكها لحجم هائل من أسلحة الدمار الشامل وتكنولوجيا التدمير).

وتمثلت الظواهر الجديدة في جانبها الرئيسي بالسعي لاحتكار مطلق لقيادة الاقتصاد الدولي والعالم الرأسمالي، واشتداد التمركز والاحتكار داخل الاقتصاد الأمريكي بشكل غير مسبوق. وبهذا المعنى كان هناك احتكار داخلي واحتكار خارجي.

وكانت قد سرت منذ الثمانينات (بصفة مركزة) موجة كتابات موغلة في الرجعية والشوفينية، وما لبثت هذه الكتابات والأفكار أن بلورها كاتبان أمريكيان: صامؤيل هنتكتن، وفرانسيس فوكوياما، وما يستحق الإشارة إليه هنا هو أن الكاتبان لم يكونا بعيدان عن مصادر صناعة القرار السياسي الأمريكي. والقوام النظري لهذه الأفكار هو موجه بصفة رئيسية ضد الثقافات والديانات الشرقية (وهي تلقى اهتماما خاصاً في الولايات المتحدة الأمريكية)، تلك التي ما زالت تحض على الثراء الروحي وعدم الإيغال في عالم الماديات، وجعل المكتسب المادي هدف الإنسان الأول بصرف النظر عن أسلوب الكسب. (ويتناغم هذا الاتجاه مع فلسفة الرأسمالية البراغماتية) وهو ما يتعارض مع الثقافة البورجوازية وتيارات وتوجهات العولمة(الإمبريالية الجديدة)، فلا بد من تحطيم وتهشيم كل مكونات الإنسان عدا قواه العضلية أساساً، وتخصص ضيق ودقيق في مجال التكنولوجيا وعمليات الإنتاج الصناعي والزراعي، وحسب تقدير هذه الأوساط أن (حشو) فكر الإنسان بقضايا إنسانية وسياسات اجتماعية، قد تؤدي إلى مخاطر تدفع الإنسان إلى التفكير في الاستحقاقات والغبن الاجتماعي والاقتصادي. وهدف الثقافة الرأسمالية الحالية هو أن يقضي الإنسان وقت فراغه في تسلية مثيرة، سواء تمثلت تلك الإثارة بالقتل والمخاطرة والجنس وحشد قدرات الإنسان وجعله أعتدائياً وزرع فكرة الإنسان المتفوق،   Super Mann وبنظرية النخبة، (Elite) وخلاصة هذا الفكر النخبوي الأعتدائي، تتوجه ماكنة الدعاية بأن الإسلام والبوذية والكونفوشية هي العدو الأول في هذه المرحلة لأنها تنطوي في جوهرها على تناقض مع فكر العولمة الذي يهدف إلى جعل البشرية ضمن نسيجها الثقافي، وصرفاَ عن القضايا ذات الطابع الجوهري، وجعل هذه الأصناف البشرية أقل من مستوى الإنسان في المجتمعات الصناعية، ويحق لنا أن نلاحظ، أن هذه الأفكار لا تختلف في جوهرها عن الأفكار الفاشية العنصرية.

وتستهدف الولايات المتحدة بوصفها قائدة للمعسكر الإمبريالي الجديد وقطبه العدواني الشرس في توجهاتها عدد واسع من الأهداف على أسس مختلفة :

  • على أسس أثينية / دينية، تستهدف الإسلام والكونفوشية بدرجة رئيسية.
  • لا يخفي (مفكروا) وعلماء الإمبريالية الجديدة عدائهم للكونفوشية والبوذية والإسلام بوصفها تيارات ثقافية تضم اتجاهات أخلاقية وتقاليد تناهض تقاليد العولمة وثقافتها المتفسخة.
  • البلدان الإفريقية بوصفها هدف دائم للنهب الاستعماري والاستثمار، وتكاد تكون مكشوفة تماماً مساعي الولايات المتحدة في إشاعة الحروب الأهلية وتشجيعها، وشراء ذمم شخصيات سياسية ومحاولات أحداث انشقاقات وتمرد والتحريض على المذابح والمجازر.
  • البلدان العربية (بعدد سكان يقارب النصف مليار نسمة) بوصفها تمثل قدرة حضارية وثقافية واقتصادية مهمة، واعدة في المستقبل، لاسيما البلدان المناهضة لقاعدة الإمبريالية الجديدة في الشرق الأوسط، الكيان الصهيوني.
  • البلدان الاشتراكية أو الساعية إلى أحياء تجربة اشتراكية جديدة.
  • البلدان الساعية إلى تأكيد كياناتها السياسية والثقافية الرافضة للاندغام في نسيج العولمة (الإمبريالية الجديدة) ومنها بلدان كثيرة في أميركا اللاتينية، أبرزها، فنزويلا والبرازيل، وفي أوربا مثل: روسيا، وفي آسيا: الصين وكوريا الجنوبية وماليزيا وغيرها..

إذن فأهداف الإمبريالية الجديدة كثيرة ومتنوعة تشمل كافة اتجاهات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وكذلك هو المعسكر الذي يواجهه عريض وواسع، ولكن تشتت الإرادة، والآراء والقدرات ووعي القيادات يشوب صفوف هذه الجبهة ولكن ضراوة المعركة ونهم الإمبريالية سوف يسهم في تسارع عملية تبلور تشكل المعسكر المناهض للإمبريالية. وبقدر ما يسود التنسيق بين جبهاتها وتغليب التناقض الرئيسي أمام الخصم على التناقضات الثانوية في التفاصيل من أجل مواجهة هذا الخطر العاتي الذي لا يستهدف اقتصادياتها الوطنية كالاستعمار القديم، بل كيانها بأسره بكل مكوناته من دين ولغة وثقافة وعادات وتقاليد، بل وحتى الأمل بالمستقبل.

وبرغم ذلك، فإن العالم لم يصبح أكثر أمناً، ويشير تقرير سنوي حول النزاعات في العالم أن عام 2002 وحده شهد ثلاثة وعشرون نزاعاً مسلحاً راح ضحيته 125000 ألف إنسان، بالإضافة إلى 79 نزاعاً متوسطاً، تسبب في مقتل  100ـ 1000 لكل منها، و38 نزاعاً سياسياً عنيفاً أدى كل منها إلى مصرع 25 ـ100 شخصا، ولم تشخص إلا 35 دولة فقط في العالم تخلو من الصراعات السياسية العنيفة، أي أقل من ربع دول العالم.(15)

والقارئ لأطروحات وأفكار العولمة، يرى برنامجاً واسعاً يشمل العالم بأسره، بأصعدته السياسية والثقافية والاقتصادية، وأن منظري العولمة يضعون التفاصيل لما ينبغي عليه أي شعب ودولة في العالم فعله، وهذه البرامج ترافقت مع نهاية القطبية الثنائية أي قبل نهاية الألفية الثانية والقرن العشرين بما يقارب العقد، في مرحلة يطلق عليها الاستراتيجيون أو الدبلوماسيون على حد السواء، استثمار الفوز، تتضمن الاتجاهات الأساسية للعولمة، ولا يخفي هؤلاء المفكرون الخطط الأمريكية لقيادة العالم حسب تصورها ولمصلحتها، ولكن الوقائع والمعطيات الحالية تشير بعد ما يزيد على العقد من السنين، أن الخطط لم تأخذ بنظر الاعتبار للكثير من الخصائص، وأن ثقافات الشعوب وتقاليدها ليست معلبات يمكن تصديرها أو استيرادها، فهناك شعوب كرست تقاليدها منذ ألاف من السنين، بل وتخيلت الولايات المتحدة أن بالإمكان بوسائل الضغط أن تتخلى أمم عن لغاتها الوطنية، فاللغات الصينية واليابانية مثلاً، رغم تعقيدها الشديد قراءة وكتابة ونطقاً، إلا أن تلك الشعوب وغيرها لا يمكن أن تجد في محاولات الولايات المتحدة حلولاً معقولة، فمسألة الذهنيات والتقاليد القائمة هي عبارة عن توليفة من العناصر والمعطيات ليس من السهولة اختراقها، وتشير دراسة هي نتاج لدراسات مكثفة عن البيئة الاجتماعية قام بها خبراء تابعون للأمم المتحدة في البلدان النامية في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، وجدوا أن لتلك الشعوب تقاليد ثقافية في اللباس والطعام هي عبارة عن نسيج ذو مصادر متعددة، ومجموعة التصورات الخاطئة قادت إلى نتائج لا يمكن أن توصف بالنجاح بسبب تجاهلها التام المكونات العميقة للشعوب وتقاليدها الثقافية.

وحصاد العولمة خلال ما يزيد قليلاً عن العقد تنبأ أحدث الإحصائيات الدولية لهيئة الإغاثة ومكافحة الجوع، بأرقام مدوية: وتشير إحصائيات فبراير/2007 أن هناك 850 مليون شخص في العالم يعانون من المجاعة وسوء التغذية، ويموت 18 ألف طفل يومياً بسبب المجاعة، ومن المرجح أن هذه الإحصائيات هي أقل من الواقع بسبب سوء الإحصاء وتخلف وسائطه في البلدان النامية.(16)

وتغرق البلدان النامية في ديون ذات طابع متصاعد، ويعتبر خبراء الاقتصاد إذا تجاوزت ديون دولة ما 30% من حجم صادرتها، أنها بلغت درجة يصعب معها سداد خدمة الدين، لذلك فسوف تضطر إلى الاستدانة مجدداً من أجل تسديد خدمة الدين، إلي الدخول في دائرة الشيطان، وتضاعف الديون هي سمة من سمات عصر العولمة.

 وقد تراكمت وتضاعفت بمرور الوقت ديون ضخمة على قرابة 58 دولة من الدول النامية من 600 مليون دولار عام 1980م إلى 2.2 تريليون دولار العام الماضي (وفق تقرير صندوق النقد)، وقد غدا شبه المستحيل أن تسدد هذه الدول ديونها، أو أن تسدد ما يُسمى بخدمة هذه الديون(قسط الدين + الفائدة)، ويتعين على الدول الفقيرة أن تدفع يومياً قرابة 700 مليون دولار أي ما يعادل 500 ألف دولار في الدقيقة، فخلال الفترة ما بين أعوام 1972 وحتى1992 اقترضت الدول النامية مجتمعة ما يقرب من 1.935 تريليون دولار، وبلغ مجموع ما سددته من أقساط وفوائد عن هذا الدين خلال نفس الفترة تقريباً 2.237 تريليون دولار، ولكن على الرغم من ذلك، فهي ما زالت مديونة بنحو 1.7 تريليون دولار، ويمكن التصور بعد أجراء عملية حسابية بسيطة، أن الدول المدينة قد سددت ديونها مرتين من خلال الفوائد، ولكنها ما زالت ترزح تحت الدين،هذه العملية لا نهاية لها، فهذه الشعوب تكدح وتعمل لتدفع ثمن إنتاجها في ظل نظام نهب مدهش.

والفساد الحكومي، الإداري والمالي، ظاهرة اشتددت باشتداد ظاهرة الدولنة في الاقتصاد، واقتحام الرأسمال الأجنبي (أو تسلله) كل زوايا البلدان النامية، وتهدف السياسة التي تتبعها الدول الصناعية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية إلى خلق أنظمة تعمل بمقتضى المصالح السياسية والاقتصادية لها وليس لبلدانه، تسبب في حالة من الفساد، بنتائج كارثية، فقد وجدت الديون الخارجية لعدد من البلدان مساوٍ تماماً لحجم ديونها الخارجية، بل ويزيد أحياناً،  كما حدث في الفلبين عندما نهب الديكتاتور فريناندو ماركوس أكثر من 15 مليار دولار من خزانة الدولة ورفع من حجم الديون المستحقة على بلاده من 2.3 مليار دولار عام 1970 إلى أكثر من 35 مليار دولار حتى الآن، وفي تقريرها الأخير أشارت مؤسسة مورجان مورانتر المالية الأمريكية إلى اختفاء مبلغ 189 مليار دولار من 18 بلدًا ناميًا في سنة واحدة مع العثور على 31 مليار دولار منه في حسابات سرية في البنوك السويسرية والأمريكية.

وفي البرازيل قدرت كلفة إنشاء سد إيتابو المبدئية بحوالي مليار دولار، فيما تعدت تكلفة الإنشاء الفعلية 25 مليار دولار وهو ما أدى إلى تراكم مديونيات البرازيل التي بلغت حتى الآن ما يقرب من 180 مليار دولار، وقد وافق صندوق النقد الدولي في نهاية العام الماضي على إقراضها نحو 43 مليار دولار لتصل بذلك ديونها إلى نحو 223 مليار دولار، وفي مثال آخر مشابه، بقيام الفرنسيون والإيطاليون بتمويل تكاليف إقامة سد (ريوبارنا) على الحدود بين الأرجنتين والمكسيك، بقرض قدره 1.5 مليار دولار في عام 1978، ولكن النفقات الواقعية النهائية لتشييد هذا السد انتهت بتكلفة قدرها 15 مليار دولار.

ويتكرر في عالم الاقتصاد الدولي المعاصر مصطلح الدول المانحة، وهو ما لا يعني بأن هذه الدول تهب وتمنح المساعدات لإغراض نزيهة، لكنها في الواقع تربح أضعاف المبالغ التي تقدمها بل تشير الحقائق: إنها تفعل ذلك لزيادة نفوذها، ومن تلك الأمثال على ذلك موقف فرنسا من إفريقيا، ففرنسا تعد على رأس الدول المانحة لإفريقيا فقد بلغت قيمة مساعداتها لإفريقيا عام 1997 حوالي 7.18 مليار فرنك فرنسي أي ما يعادل 49% من مجمل المساعدات الفرنسية الخارجية، ولا تمثل هذه بالطبع مساعدات لدول استعمرتها عقود طويلة هذه القارة ونهبت ثرواتها، وإنما لتكثيف نفوذها وفي إطار التنافس والتسابق مع أقطاب رأسمالية أخرى في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية في الفوز بالأسواق الإفريقية، باعتبارها أسواقاً واعدة قوامها 700 مليون مستهلك يمثلون خمس سكان العالم، والواقع يقول: إن هذه الدول المانحة هي ذاتها الدول التي تستورد السلع الأولية من البلدان النامية بأسعار منخفضة للغاية ثم تعيد تصديرها إليها بعد تصنيعها بأسعار مرتفعة جدًا، وتحرص أن تكون لها اليد العليا في تحديد هذه الأسعار إما مباشرة أو عن طريق شركاتها العابرة القارات، وإذا كان بديهياً ألا تُمنح القروض إلا بضمانات فإن الضمان الوحيد الذي تحصل عليه هذه الدول المانحة من الدول المدينة أن هذه الديون تحرمها من حرية اعتماد سياسيات سليمة لنموها وتنميتها.(17)

ويرى الدكتور مطر أن العولمة قد اقترنت بظواهر متعددة استجدت على الساحة العالمية أو ربما كانت موجودة من قبل، ولكن زادت من درجة ظهورها، وهذه الظواهر قد تكون اقتصادية أو سياسية أو ثقافية أو اتصالية أو غيرها، ولا شك أن أبرز هذه الظواهر هي الظواهر الاقتصادية التي أهمها: (18)

ظهور تقسيم دولي جديد للعمل تتخلى فيه الدول المتقدمة للدول النامية عن بعض الصناعات التحويلية (هي الصناعات التي تعتمد على تحويل المادة الخام إلى سلع مصنعة يمكن الاستفادة منها، كصناعات الصب والبتروكيماويات والتسليح وغيرها) التي لا تحقق لها ميزة نسبية، مثل الصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة وكثيفة العمل والملوثة للبيئة، وذات هامش الربح المنخفض، مثل صناعات الصلب والبتروكيماويات والتسليح، بينما ركزت الدول المتقدمة على الصناعات عالية التقنية كصناعة الحاسبات والبرامج وأجهزة الاتصالات والصناعات الإلكترونية، ذات الربحية العالية والعمالة الأقل.

وجاء إحلال مفاهيم جديدة محل القديمة كسيادة مفهوم الميزة التنافسية competitive advantage وحلوله محل الميزة النسبية Comparative Advantage بعد توحد الأسواق الدولية وسقوط الحواجز بينها، وكذلك سقوط مفهوم التساقط الذي تبناه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لمدة طويلة، حيث إن الطبقات العالية الدخل في الدول النامية هي طبقات مسرفة لا تدخر ولا تستثمر وتبدد فوائضها في مصارف استهلاكية لا يستفيد منها المجتمع، وهو ما أدى إلى تناقص معدلات النمو في هذه الدول بسبب نقص الاستثمارات وزيادة عجز الموازين التجارية وموازين المدفوعات.

 لم نجد خلال المسار التاريخي، أو الواقع المادي ما يشير إلى الديمقراطية، بقدر ما عاش التاريخ الوسيط والحديث وقائع قمع دموي في حقب ظلم واضطهاد ونهب، وأبتعد عن الصيغ الديمقراطية في تقبل الفكر الآخر وتجربته، ويحاول فرض تجربته بحذافيرها، بتقديرنا، وأن سيطرة البورجوازية لم يأت بالانتخابات، بل عبر سيطرة حاسمة، وإنهاء تام لنفوذ سيطرة الكنيسة والنظام الملكي.

أن التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، سيطرح في مسارات العمل ملامح جديدة، من خلال التجربة والتطوير الذاتي،  فليست هناك ضرورة لنسخ عملية واستنساخها في أي بلد آخر، أو ولادة قيصرية ستبقي النموذج المفروض يفتقر إلى الولادة الطبيعية السليمة. وإن نظاماً عربياً جديداً سيجد نفسه إلى الطريق بفعل مساهمات علماء السياسة والاقتصاد والاجتماع، ودراسة علمية موضوعية للتجارب التي مرت بها أقطارنا، والتخلي عن التعصب الفكري والسياسي، وبحث القضايا بروح التوصل إلى نتائج، ليس بالضرورة أن تكون غداً، ولكن في المستقبل المنظور.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 المصادر :

  1. 1. الطعان، د. عبد الرضا: تاريخ الفكر السياسي الحديث، ص336
  2. أبو جابر، د. فايز صالح : الفكر السياسي الحديث، ص54
  3. 3. رسل، برتراند: حكمة الغرب، ص103
  4. 4. بابي، جان: القضايا الأساسية للاقتصاد السياسي للرأسمالية نفس المصدر، ص45
  5. 5. الطعان، د. عبد الرضا: تاريخ الفكر السياسي الحديث، ص339

. 6. رسل، برتراند: حكمة الغرب، ص104/105

  1. 7. كرم، يوسف: تاريخ الفلسفة الحديثة ، ص154/155
  2. 8. رسل، برتراند: حكمة الغرب ، ص210
  3. 9. أبو جابر، د. فايز صالح : الفكر السياسي الحديث ، ص52
  4. عبد الله، عبد الخالق: العالم المعاصر والصراعات الدولية، الكويت / 1989 ص 2
  5. 11. Dietrich, Mario: Lebens Schild In USA, in Stern Nr. 22/1990, Hamburg, BRD
  6. نامق، د. صلاح الدين: النظم الاقتصادية وتطبيقاتها، ص28 ،  القاهرة/ 198212.
  7. الدباغ، د.ضرغام عبد الله: الأبعاد السياسية لحرب فوكلاند، ص5، بغداد/1985
  8. سوزا، نيلسون أروجودي: انهيار الليبرالية الجديدة، بغداد/ 1999
  9. برجنسكي، زبيغينيو: الاختيار: السيطرة على العالم أم قيادة العالم، بيروت/2004: ص 51
  10. وكالات الأنباء: 17/ فبراير،  إحصائيات وكالات الغوث ومكافحة الفقر والجوع
  11. سعيد، لبنى: مطرقة الدَّين، وسندان الفساد، موقع اقتصادي على الإنترنيت، فبراير/ 2007
  12. مطر، د. زكريا: العولمة، هدم الاقتصاد القديم، موقع اقتصادي على الإنترنيت، فبراير / 2007

المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: [email protected]

العدد : 375

التاريخ :  /   2024

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب