سهرة الصداقة التونسية البولندية تنافس موسيقي وإبداع بين أحمد الوافي وشوبان

سهرة الصداقة التونسية البولندية تنافس موسيقي وإبداع بين أحمد الوافي وشوبان
روعة قاسم
تونس ـ بمناسبة الاحتفال بالذكرى الخامسة والستين للعلاقات الدبلوماسية التونسية البولندية وللصداقة المتميزة بين البلدين، احتضن قصر النجمة الزهراء ببلدة سيدي بوسعيد بضواحي العاصمة التونسية عرضا للعزف على آلة البيانو للعازفة البولندية ماجدالينا ليساك والعازف التونسي المتميز باسم المكني. والسهرة هي برعاية السفارة البولندية بتونس ومركز الموسيقى العربية والمتوسطية النجمة الزهراء الذي يتخذ من قصر البارون البريطاني الراحل رودولف ديرلانجي بسيدي بوسعيد مقرا له، وهو قصر منيف بني على الطراز التقليدي التونسي العتيق وبالألوان البيضاء والزرقاء التي تُعرف بها بلدة قطب التصوف التونسي سيدي أبي سعيد الباجي.
ولا يبدو أن اختيار قصر البارون ديرلانجي من قبل البولنديين كان اعتباطيا وذلك بالنظر لما عرف به البارون الراحل من عشق للموسيقى التونسية والعربية، ومن سعي دؤوب طيلة حياته لحفظ التراث الموسيقي التونسي بمعية أساطين الفن والموسيقى التونسية وآبائها المؤسسين. ولذلك تم تحويل قصر البارون البريطاني من قبل وزارة الثقافة التونسية بعد وفاته إلى مركز للموسيقى العربية والمتوسطية، وأُطلق على المركز اسم النجمة الزهراء وعهدت له مهمة حفظ التراث الموسيقي التونسي والعربي والمتوسطي ويضم متحفا ومخبر بحوث ومكتبة موسيقية بها مراجع هامة ومفيدة للباحثين في المجال الموسيقي.
عازفون ماهرون
كانت سهرة رائعة واستثنائية بكل ما للكلمة من معنى، حيث انطلقت مع غروب الشمس مع تلك الإطلالة الساحرة زمن الغروب لقصر النجمة الزهراء على البحر المتوسطي، وعلى خليج تونس، صانع مجد قرطاج البحري، وذلك من أعلى جبل سيدي بوسعيد وغابته الوارفة. كما أن ما جعل هذه السهرة مميزة واستثنائية هو مهارة العازفيْن، البولندية ماجدالينا ليساك والتونسي باسم المكني وهما من أفضل عازفي البيانو في بلديهما، وهذا بالإضافة إلى البرنامج الهام والثري الذي تلاقحت فيه الحضارتان.
إن الاحتفال بالذكرى الخامسة والستين للعلاقات الدبلوماسية بين الجمهورية التونسية وجمهورية بولندا بالموسيقى هو أمر بديهي وطبيعي ولا يمكن أن يكون إلا على تلك الشاكلة، ذلك أن للبلدين تقاليد هامة وتاريخية في المجال الموسيقي، وبينهما تعاون قديم ووثيق في المجالين الثقافي والتربوي. كما أن تونس وبولندا هما من البلدان القليلة في أفريقيا وشرق أوروبا التي تهتم بحفظ التراث الموسيقي وتقوم بتطويره، ويولي كلاهما الإرث الموسيقي والتراث عموما اهتماما لافتا وذلك حفاظا على الذاكرة والهوية الوطنية التي تؤثثها عدة مكونات ومنها التراث الفني والموسيقي.
رائد الفن التونسي
لقد أحسن العازف التونسي باسم المكني الاختيار عندما أدرج في برنامجه لهذه للسهرة الرائقة مقطوعة موسيقية للكبير أحمد الوافي، أحد رواد الفن التونسي من الجيل المؤسس، والذي يعتبر ذاكرة التونسيين لما يسمى بالموسيقى العلمية وواحد من أساطين ومراجع فن المالوف الأندلسي في تونس والعالم. لقد ولد الوافي وعاش بمدينة تونس العاصمة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وبرز كمؤلف موسيقي بارع وملحن فذ ومجدد في فن المالوف ذي الأصول الأندلسية، وبرز أيضا كمطرب وأديب وحافظ للقرآن الكريم ولتلاحين البردة والهمزية وغيرها من التلاحين القديمة والمدائح الدينية وأذكار المتصوفة التي تربت أذناه على سماعها في جامع الزيتونة بتونس الذي درس في جامعته وتخرج منها.
ولعل الصداقة المتينة التي جمعت بين أحمد الوافي والبارون ديرلانجي خلال الثلث الأول من القرن العشرين هي التي ألهمت المكني على عزف ألحان من تأليف أحمد الوافي في قصر البارون الذي كثيرا ما ارتاده الوافي من أجل التخطيط لحفظ وتطوير الموسيقى التونسية. ويُروى أن البارون جلب لأحمد الوافي مختصين من أوروبا في الفن العربي حتى يتمكن الأخير من وضع الأسس الأولى للموسيقى التونسية ولفن المالوف بالإضافات التونسية وطابعها المتميز، وتتلمذ على الوافي لاحقا فنانون كبار نقل إليهم معرفته وعلمه الغزير في المجال الموسيقي.
فريديرك الكبير
كانت هذه السهرة أيضا حوارا موسيقيا على آلة البيانو بين الموسيقى التونسية ممثلة بمعزوفات للمرحوم أحمد الوافي أبدعتها أنامل باسم المكني، وفريديريك فرانسوا شوبان الفنان البولندي الذي عزفت مقطوعات من موسيقاه الفنانة البولندية ماجدالينا ليساك وكأنها ترد بطريقة غير مباشرة على زميلها التونسي بالقول موسيقيا إذا كان لديكم أحمد الوافي فإن لدينا فريديريك العظيم. وشوبان هو مؤلف وملحن موسيقي بولندي من وارسو عاش في القرن التاسع عشر خلال الفترة الرومانسية بين مسقط رأسه وعاصمة الأنوار باريس وتم اعتباره واحداً من أهم مبدعي ورواد جيله في المجال الموسيقي كمؤلف وحتى كعازف. لقد استخدم شوبان البيانو في كل مؤلفاته وجعل أغلبها عزفا منفردا وألف مقطوعات استثنائية وفريدة ومتميزة زادها سحرا ما روي عن أدائه المتميز في العزف على آلة البيانو بمشاعر مرهفة وإحساس عال. لذلك كان اختيار ماجدالينا ليساك لمعزوفات شوبان لهذه الليلة الفريدة خيارا صائبا لاقى الاستحسان من قبل الحضور من ذوي الأذواق الراقية.
وكان شوبان الحاضر الغائب بامتياز في فضاء قصر البارون وكانت مقطوعاته التي اختارتها ماجدالينا ليساك تكرمه أفضل تكريم في هذه السهرة على أرض قرطاج الحضارة، العاشق شعبها منذ الأزل للموسيقى. لقد أضفى شوبان الحي بإبداعاته الموسيقية على آلة البيانو، ومن خلال مواطنته ماجدالينا ليساك، رونقا خاصا على هذه السهرة في هذا الفضاء الاستثنائي قصر النجمة الزهراء الذي أبهر رواده بسحره الشرقي ومعماره التونسي الجميل.
شيمانوفسكي وزاريبسكي
قامت ليساك، التي أمتعت الجمهور الحاضر، بتأثيث برنامج سهرتها أيضا بالنغمات الشرقية لكن من خلال مقطوعة شهيرة للبولندي شيمانوفسكي تحمل عنوان «شهرزاد» بدت متناسبة مع الطابع الشرقي التونسي العتيق لقصر النجمة الزهراء. ولئن دلت هذه المعزوفة على شيء فهي تدل على سحر الشرق على شعوب العالم وإلهامه لهم فنيا وحثهم على الخلق والإبداع وابتكار أرقى الإنتاجات على غرار مقطوعة شهرزاد التي أمتعت الحاضرين وشدت انتباههم خلال السهرة.
واستكملت ليساك برنامجها بمؤلفات مواطنها زاريبسكي، وراوحت هذه المبدعة البولندية في رحاب رأس قرطاج، وهو الاسم القديم لبلدة سيدي بوسعيد التي تم اختيارها مؤخرا كثالث أجمل بلدة في العالم من قبل جهة عالمية ذات مصداقية في مجال التصنيف السياحي، بين الكلاسيكية الحالمة لشوبان وحداثة شيمانوفسكي وزاريبسكي. وبذلك قدمت الفنانة المبدعة بأناملها الذهبية لمحة موجزة عن الموسيقى البولندية العظيمة التي خلفت إرثا محترما للإنسانية جمعاء وأنجبت مبدعين ذاع صيتهم في كل أنحاء العالم على غرار العميد فريديريك فرانسوا شوبان.
«القدس العربي»: