ثقافة وفنون

عشرة مللي ثانية قبل موتي بقلم أحمد بشير العيلة / قصة قصيرة

بقلم أحمد بشير العيلة-غزة -

عشرة مللي ثانية قبل موتي
أحمد بشير العيلة / قصة قصيرة
لا أدري لماذا عادت القذيفةُ ذاتها مرة أخرى على الرغم من أنها زارت هذا المكان الذي أرتاحُ فيه من عمليات الإنقاذ. الليلة الماضية، هدمت ما هدمت وقتلت من قتلت، حسبتها انفجرت وانتهت مع من استشهدوا من الجيران، لكنها عادت، ما هذه القوة العجيبة لدى تلك القذيفة، تعود دوماً بعد أن تلملم شظاياها، وتخترق مَن تخترق من حجرٍ أو بشر، إنها تجدد نفسها في وتيرة لا تنتهي، كنا نحسب أنفسنا نحن الشعب الفلســــطيني فينيقَ العصر، لكن القذائف أبدعت في استلاب أساطيرنا وصارت هي الفينيق الذي لا ينهض من رماده، وهي تنهض من شظاياها، ها هي تعود بشراسة أكثر، ولكن هذه المرة باتجاهي.
كل الأمر لم يستغرق ثانية قبل أن تصلني، بل أجزاء صغيرة من الثانية، بل لعل الزمن لُغيَ تماماً، حتى أني لم أستطع أن أسترجع شريط ذكرياتي مثل بقية من يموتون موتاً اعتيادياً، مانحين لأنفسهم فرصة أن يستغفروا ربهم أو ينطقوا بوصية تشبه البرقية السريعة، لم أكن كهؤلاء الذين يموتون على مهل، يبدو أنهم محظوظون في مناورة الموت ليقولوا أشياء لن تُقال بعد ذلك أبداً، إلا أن موتي كان أسرع من أن يرتد طرفي، وفقدتُ كل ما كنتُ أدّخر من كلمات وطقوس ما قبل الموت.
كنتُ أتتبعُ، بل أعايش التفاصيل الدقيقة للإبادة الجماعية، بفعل عملي، الشهداء يتساقطون يومياً بالمئات، هرولتُ تقريباً في كل الاتجاهات وأنا أرفع شهيداً لأفسح الطريق لشهيدٍ آخر، وحملت في هذه الفترة ما مجموعه الأطنان من الأشلاء التي لا نعرف لها أصحاباً إلا لِماماً، كنا في الدفاع المدني كمتطوعين، نقاوم بطريقتنا الفريدة في المقاومة، نزحزح الأحجار عن الشهداء ليرتقوا، نساعدهم على الصعود من ما يعيق دربهم نحو السماء، نادراً ما نجد حياً منهم، والغريب إن وجدناه يهبنا جرعةَ أملٍ برفع يديه – إن كانتا موجودتيْن- بعلامة النصر، لكل جثة أخرجناها حكاية كنا نقرأ عنوانها فقط من غلافها، إنما التفاصيل فقد التهمتها القذيفة.
في صباح ذلك اليوم الذي متُّ فيه، بحثتُ عن مكانٍ أحلق فيه ذقني الذي اكتثّ من قلة الاهتمام، لأني لم أعرف لذة العيش في البيت منذ مدة، ببساطة لأن القذيفة التي تقترب نحوي الآن مرت عليه منذ أشهر وهدمته، ولم ينجُ من أسرتي الصغيرة والكبيرة سوى ثلاثة، تركتهم يخرجون من سَم الخياط الذي يسمى معبر رفح، ولكن بمبلغٍ كبيرٍ هو آخر ما نملك جميعاً، يقطعه من لحمنا تجار الحروب على الجانب الآخر من الحدود، والذين يحاصروننا كأنهم العدو البديل.
بقيتُ وحدي، في دير البلح، وكثيراً ما أقول لنفسي: “هذا أفضل لأتمكن من مواصلة الإنقاذ دون أعباء”، تخيلوا؛ كل الناس تحزن للفراق، إلا أنا؛ فرحت عندما فارقت أحبتي الثلاثة المتبقيين من المجزرة، لأنهم نجوا، ولو بعضاً منهم. واستمريت في عملي في انتشال الشهداء من تحت الركام نحو يدي المصابتين بالأنين، ذاهبين إلى أماكن غير مألوفة، لم تكن قبوراً، وإنما سماوات.
ووجدت كيف أحلق ذقني، وابتسمت للمرآة المكسورة لأول مرة منذ بدء المجزرة، لكن المرآة نهرتني فأعدت لوجهي الحليق ملامح الحزن العميقة.
في هذا الصباح تحديداً رأيت القذيفة الثقيلة وهي تتجه إلى مبنى مجاور، رأيتها بأم عيني وهي تسير، خُيِّل لي أنها بطيئة جداً، تابعت مسارها وهي تتجه إلى الهدف، وأحسستُ بأنها نظرت إلي شزراً وهي تسير، صراحةً خِفت من تلك النظرة التي أراها من قذيفة لأول مرة منذ المجزرة، كان للقذيفة عينان براقتان، تجيد تدويرهما نحوي، وما إن سقطت وانفجرت، حتى سارعت مع زملائي لإنقاذ المتبقيين على الحياة، إلا أن القذيفة ذاتها نهضت واتجهت نحوي، نعم اتجهت نحوي وصفيرها يشبه تلاوة قراءات تلمودية، بل كأنها تسير نحوي مأمورة بالهالاخاه، وأنا مأمورٌ بالاستغفار ونطق الشهادتين قبل أن تنفجر بي، وكأننا في العشرة مللي ثانية قبل موتي في مشهد صراع نصوصٍ يرتقي لأن يكون صراع وجود.
كان منظر القذيفة وهي تتقدم مخيفاً يشبه الغولة التي ظهرت للشاطر حسن في حكايا أمي، وسألت نفسي في بارقة سريعة، هل هذا شكل عزرائيل، تخيلوا أن كل البشر منذ بدء الخليقة رأوا عزرائيل في العشرة مللي ثانية قبل الموت، لكن لم يكفِ هذا الوقت أبداً لأن يصف أحدهم لنا شكل عزرائيل، على الرغم أن البشرية رأته، هو لم يظهر لي بعد، ولكن يبدو أن الغولة المسماة عسكرياً (قذيفة) أصابته هي الأخرى قبل أن تقتلني.
طوال عملي في انتشال جثامين الشهداء في المجازر المكثفة والمتسارعة، كنتُ أمتلكُ إحساساً أن الشهيد الذي أحمله، كله أو أجزاءً منه، كان يريد أن يقول شيئاً في العشرة مللي ثانية قبيل موته، ولكني رأيت الكلمات تخرج من جسده دماءً ودموع، ولم يخطر على بالي أن أتتبع بصمات عزرائيل قابض الأرواح على أجساد الآلاف ممن حملت، ولكني رأيت بكل وضوح آثار القذيفة، نفس القذيفة التي تتجه نحوي الآن.
زملائي في الدفاع المدني المنهكون والمتعبون والمنهارون إلا بقليلٍ من الصبر، يشاهدون مثلي القذيفة من خارج المشهد وهي تتجه نحوي ولكن الزمن لديهم كان بالفعل مللي ثانية، أما أنا فقد طال الزمن عندي وامتد لدرجة أن فكرة نسبية الزمن برقت لدي، وأنا لحظتها كنتُ أنظر للقذيفة وهي تقترب، كأني أحل مسألةً في النهايات، كل مسائل النهايات التي أتقنتُ حلها، وجدتُ تطبيقها الآن، في العشرة مللي ثانية قبل أن تؤول (س) إلى الصفر، لكن للأسف لن أستطيع إخبار طلابي بهذا الكشف لتطبيق النهايات.
يا إلهي، طلابي! كثيرٌ ممن حملت على كتفي من الشهداء، كانوا طلاباً عندي، أصروا حتى بعد موتهم أن أعلمهم الدرس الأخير في فن الصعود، ولكن بعد الموت. نعم أنا مدرس رياضيات، لكني في الحرب تطوعت في الدفاع المدني، في غزة صار التعليم جزءً من مشهد الموت، الطلاب والمعلمون شهداء ارتقوا ليكملوا مناهجهم في مكانٍ لم أعلمه بعد، والمدارس صارت توابيت، وأفنيتها مقابر جماعية، وكتبُها وقودٌ لعشاءٍ أخيرٍ ساخن، يمنح الذاهبين دفئاً إضافياً قبل الشهادة.
زاد اقتراب القذيفة، وأحسست أن حجمي ازداد كثيراً كأني برجٌ سكني يسكنه كل من حملت، كان نظري متسمراً في شكل مقدمتها التي صُنعتْ بعناية في المصانع الأمريكية، عشرات المهندسين والفنيين والخبراء تفننوا في أن يكون رأس القذيفة التي تتقدم نحوي متقناً في استدارته وقوته التفجيرية، وانتابني شيء من تفاخر أن مصانع الأسلحة الضخمة وعشرات الأبحاث التي أجريت في جامعات ومعامل أمريكية، كانت تعمل كلها من أجل أن أموت.
كانت صورة والداي رحمهما الله أمامي، تذكرت أنهما حكيا لي عن هذه القذيفة بعينها، كيف كانت تسقط على الجموع المُهجّرة من قريتنا، وها هي القذيفة ذات العمر الأطول من عمر والديّ ترجع وتتجه نحوي بشكلٍ أفقي تماماً.
وفي مفارقة غريبة، استعدتْ روحي لتسرع في حمل جثماني بعد أن انتهت العشرة مللي ثانية، أنا أُنتشل أناي، بل جثوتُ على ركبتي وأنا ألملم أشلائي، وأضعها في كيسٍ أسود تبرعت به مشكورة دولة شقيقة لنا، والقذيفة تجلس على مقربة مني كعجوزٍ لاهثة بعد عملتها هذه، تحاول أن تلتقط أنفاسها، لتبحث عن ضحيةٍ غيري، تركتُها وحملتُ أشلائي وارتقيت.
أحمد بشير العيلة
14/5/2024
@متابعين @إشارة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب