سميحة أيوب… تجلّيات إلكترا القاهرية

سميحة أيوب… تجلّيات إلكترا القاهرية

بروين حبيب
شاعرة وإعلامية بحرينية
تكريم المبدعين الذين قدّموا لأوطانهم ولمحبّيهم الكثير، وأمتعوهم أدبا، أو موسيقى أو تمثيلا، واجب علينا وهم أحياء، أما بعد رحيلهم، كما أصبحت العادة لدينا فلا ينفع ذلك صاحبه. أذكر هذا وأنا أستحضر في ذهني عشرات ممن عاشوا حياة تعيسة، رغم إخلاصهم لفنهم ولم تلتفت إليهم أي جهة مسؤولة، بل تنكر لهم حتى زملاؤهم، وما أن ينتقلوا إلى رحمة الله حتى توضع على قبورهم النياشين وتُقام لذكراهم التكريمات، وتخترع على ألسنتهم القصص والمواقف. وفي مقالاتي عن الشخصيات التي عرفتها عن قرب أحاول الإضاءة على جوانب إنسانية لمستها تخفى عن القارئ، وإلا ما جدوى تكرار ما هو متاح في اليوتيوب ووسائل التواصل وصفحات الإنترنت.
ومن الشخصيات التي عرفتها عن قرب وارتبطت معها بصداقة تقارب العشرين عاما، سيدة المسرح العربي سميحة أيوب، وإذا كانت الشبكة العنكبوتية تخبرنا أنها الآن في عقدها التاسع، وكانت قد بدأت التمثيل وهي في الخامسة عشرة من عمرها، كما كانت مديرة للمسرح القومي المصري مرتين ومديرة للمسرح الحديث، ورصيدها من المسرحيات بلغ مئة وسبعين مسرحية، وعددا من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية والأدوار الإذاعية المهمة. كما اختارتها وزارة التربية شخصية عامة ضمن منهج الوزارة للصف السادس الابتدائي. فكل هذا معلوم مشهور نحصل عليه بنقرة واحدة من جهازنا، أما ما هو غير معلوم فما أرويه عن حكايتي معها.
بدأت الحكاية وأنا طالبة دراسات عليا في القاهرة، تربيت مثل أبناء جيلي، بل أبناء العالم العربي كله على المسلسلات المصرية، يوم كانت القنوات قناة واحدة، والاختيارات محصورة في ما تقدمه هذه القناة. ومن جملة من حُفرت أسماؤهم في ذاكرة الطفولة والمراهقة اسم سميحة أيوب، خاصة في دور الأم الصعيدية في مسلسل «الضوء الشارد»، وقد تابعت أدوارها من «شاطئ الغرام» وهي في الثامنة عشرة من عمرها إلى «الليلة الكبيرة» وهي الثالثة والثمانين، بل حتى آخر مسلسل تلفزيوني «حضرة العمدة» الذي شاركت فيه قبل سنة، وقد تجاوزت التسعين من عمرها. وهذا ما دفعني لحضور مسرحياتها على خشبة المسرح القومي منذ أيام الدراسة، امتّع ناظري وسمعي بامرأة من جيل الكبار، تتألق في دورها وتتحدى قدرات جسدها.
وحين بدأت البرامج الحوارية ترددت كثيرا قبل أن أطلب محاورتها، فهي في ذهني المرأة المهيبة القوية سيدة المسرح، بل القاسية أحيانا، ولكن كان لا بد من المحاولة، فاستضفتها في برنامجي «نلتقي مع بروين» سنة 2005 وكان في سنته الأولى، ومن يومها ارتبطنا بصداقة سهّلت هي سبلها باحتضانها وأمومتها وحرصها على التواصل. سلّمتني مفتاح شخصيتها من أول جملة قالتها في الحوار «أعرف الخشبة أكثر من بيتي»، فرغم أنها شاركت في عشرات الأفلام والمسلسلات التلفزيونية والأعمال الإذاعية، يبقى المسرح غرامها الأول والأخير، فهي حين تسافر إلى أي دولة تسأل أول ما تسأل عن مسارحها، وقبل تقديم عرضها تتآلف مع المسرح فتجول في أركانه وتلمس خشبته، وكأنها صوفي في لحظة انجذاب، في محاولة منها للتوحد معه. هي ليست مسكونة بالمسرح فقط، بل هي كائن مسرحي بحركتها ونبرة صوتها وانفعالاتها، تعيشه عقلا وقلبا وأعصابا. وهذا السر في استمراريتها لما يقارب الثمانية عقود، ولا أدري إن كان هناك ممثل أو ممثلة، حتى في العالم الغربي من داناها في هذه المدة الزمنية من التمثيل. فقد جايلَت ممثلي الأربعينيات وصولا إلى جيل التيكتوك والسوشيال ميديا، بتألق وتجدد وعفوية وفوق هذا بمثابرة وحضور ذهني تحسد عليهما. وليس المدهش هذه الاستمرارية فقط، بل قدرتها على تأدية أدوار مختلفة وشخصيات متنوعة من ألكترا في مسرحية «الذباب» لجان بول سارتر (وقد روت في مذكراتها كيف أعجب سارتر وسيمون بوفوار بأدائها) إلى الأم الشجاعة في مسرحية «الإنسان الطيب» لبريخت، وصولا إلى الأم الصعيدية في بعض أدوارها، والمرأة البسيطة بائعة الشاي والقهوة في الشارع كما في مسرحية «كوبري الناموس»، دون إغفال الشخصيات القوية التي أسبغت عليها من شخصيتها مثل، كليوباترا أو هند بنت عتبة.
من أول لقاء شخصي بيننا أذابت سميحة أيوب جبل الثلج بدفئها، وسرت بيننا كيمياء بدأت باتصالات هاتفية وزيارات وسفرات مشتركة وصداقة طويلة، أطال الله عمرها. وأصبح بيتها أول محطة لي في كل زيارة قاهرية، بل إن لم أتواصل معها في أي زيارة لي إلى مصر ينالني منها عتب الأم حين تتغاضى ابنتها عن واجباتها، وللحقيقة إنني أحس بقواسم مشتركة بيني وبينها، فأنا مثلها قدِمت من بيئة محافظة ترفض أن تمتهن ابنتها التمثيل أو المسرح، وكان من هواياتي التي مارستها بشغف في مراهقتي، وقد أكون ذهبت إلى العمل التلفزيوني، حتى أبقى قريبة من البيئة التي عشقتها وانبهرت بها، وأنا مثلها أيضا تمرّدت على محيطي بعض التمرّد، لا كلّه، حين مضيت وراء حلمي بما جرّه عليّ ذلك من مضايقات وتحديات، لذلك وجدت فيها مثلا أعلى للسعي وراء تحقيق الأهداف مهما كانت العوائق. فكانت مدرسة لي تعلمت منها أشياء كثيرة مثل، المقاومة بالعمل، ولا تفارقني نصيحتها حين ترى على وجهي علامات الإجهاد من ضغوط العمل تقول لي بحنو الأم، ورأفة الصديقة «انتبهي لوجهك فنحن نشتغل بوجوهنا، الميكاب يساعد على إخفاء التعب شكليا لكن لا يزيله»، وحاولت مثلها أن أفصل حياتي الشخصية عن العمل، فنجحت حينا وفشلت أحيانا أخرى، خاصة في تعلم شدّتها، وفي بعض القرارات التي تستدعي فصلا وحسما، لذلك كنت ألتجئ إليها لأقاسمها حماقاتي وخيباتي العاطفية، وأستمد من نصائحها وقوة شخصيتها ما يُعنيني على تحمل بيئة قائمة على الضغوط، تأكل أعصاب أصحابها مثل بيئة العمل الإعلامي.
أشد ما يدهشني ويعجبني في الفنانة سميحة أيوب حضورها الدائم في الفعاليات والأنشطة التي تثير اهتمامها وهي، الحاضرة عبر صوتها وصوت زميلها عبد الله غيث في التعليق الصوتي على المواقع الأثرية في مصر، سواء في الأهرامات أو في أسوان والأقصر، فهذا الجلد والإصرار على العمل مثيران للإعجاب مع سنّها العالية، أذكر أيام وباء كورونا حين كنت أطمئن عنها تجيبني «لقد أصبحت جزءا من الكنبة فأنا لا أتحرك»، ولكنني أتفاجأ أنها اشتركت في أحد المسلسلات وهي في التسعين من عمرها، أو ما تزال تقرأ السيناريوهات وتعطي رأيها موافقة ورافضة، وتمثّل وتنزل إلى أماكن التصوير، فالعمل يسري في دمها مع حرصها على الظهور بشكل لائق لا يسيء إلى تاريخها الفني، وأخبرتني أنها ترددت كثيرا قبل أن توافق على مشاركة الفنان الكوميدي محمد هنيدي فيلم «تيتة رهيبة» ولكنها جازفت ومثّلت ونجحت. ومن غيرها مثَّلَ مع يوسف وهبي ومع محمد هنيدي وتألقت في الحالتين.
حواراتي معها لا تنقطع، فقد كانت تتابع حلقاتي وتقدم لي ملاحظاتها مبدية إعجابها، أو حتى عدم رضاها أحيانا، فلم تبخل بأي توجيه، بل يمتد الحوار بيننا إلى تقييمها لما تُشاهد مسلّحة بمعرفة كبيرة بالممثلين والحقب الفنية وبذاكرة عجيبة تختزل ثمانين سنة من عملها الفني، وحين سألتها يوما عن سر قوة ذاكرتها، أرجعت ذلك إلى اتباعها نظاما غذائيا صحيا، ولا أعتقد أن هذا النظام الصحي هو مصدر خفة دمها أيضا وسرعة بديهتها وطربها للنكتة تلقيا وإلقاء، فرغم ما يظهر من صرامتها وقوة شخصيتها في داخلها تعيش البنت (الشقية) في تجلٍّ حقيقي للروح المصرية الأصيلة.
ولأنها عاشقة المسرح الأبدية، كانت وما زالت تحرضني على ممارسة التمثيل المسرحي، وحين سمعت إلقائي للشعر قالت لي «لقد أخطأت طريقك كان يمكن أن تتجهي إلى المسرح». وكم سعدت مؤخرا حين قدّمَتْ شهادة بحقي في برنامج «ليالي الكويت» التلفزيوني، ولما علقت المذيعة قائلة: «سمعت أنك الصندوق الأسود لبروين حبيب»، أجابت بخفة دمها: «لا، أنا الصندوق الملون». في لمسة وفاء من سيدة متحفظة جدا في صداقاتها، ولكن حين تصادق تكون الترجمة العملية لكتاب أبي حيان التوحيدي «الصداقة والصديق». هذه هي الفنانة سميحة أيوب التي قال عنها جان بول سارتر يوما «أخيراً وجدت إلكترا في القاهرة».
شاعرة وإعلامية من البحرين