مجتمعنا الفلسطيني: إمّا شموخًا فلسطينيًّا أو ضياعًا إسرائيليًّا
مجتمعنا الفلسطيني: إمّا شموخًا فلسطينيًّا أو ضياعًا إسرائيليًّا
يملك المواطنون العرب الخبرات وأدوات المواجهة المدنية المطلوبة، ولكنها تحتاج إلى إعادة تنظيم وترتيب وأهمها تمسكهم بالخطاب الديمقراطي ومبادئ الحرية والمساواة والعدالة
في هذه الورقة، وعلى شرف المؤتمر الثامن للتجمع الوطني الديمقراطي سأحاول أن أقدم تصورًا أوليًا للتحديات المستقبلية للمرحلة المقبلة وتبيان محاور العمل الممكنة.
إن التغيرات الإستراتيجية المستجدة على الساحة الدولية والإقليمية والمحلية، وما آلت إليه حرب الإبادة في غزة تحتم على المجتمع العربي الفلسطيني دراسة التطورات وتحديد ملامح المرحلة القادمة وتحدياتها، وملاءمة البرامج والأدوات للتعامل معها بما يخدم المصالح المدنية والوطنية للمجتمع الفلسطيني في الداخل، ومصالح شعبنا الوطنية في إنهاء الاحتلال وبناء دولته المستقلة.
في العقدين الأخيرين يلاحظ أن المجتمع اليهودي ينحدر نحو التطرف، وخاصة بعد أن وصلت أحزاب المتطرفين إلى الحكم، وبدأت بتطبيق نظريات التفوق العرقي اليهودي فعليًا على كل المستويات. وبعد الحرب على غزة بدأت هذه النظريات والأفكار بالتمدد إلى أحزاب أخرى وهي آخذة بالتوسع والانتشار بين أوساط كثيرة داخل المجتمع اليهودي. هذه الأفكار المتطرفة تشكل خطرًا حقيقيًا فعليًا، لكونها اعتلت السلطة التنفيذية، وبدأت تمتلك وتحتكر استخدام العنف من خلال غطاء حكومي ولكونها لا ترى بالعرب بشرًا، بل تراهم غزاة للوطن “اليهودي” بأحسن حال.
ثمّة تحديان بارزان ومتشكلان من جديد: الأول قضية المساواة الكاملة لكل المواطنين في إسرائيل والمحافظة على الهوية والانتماء الوطني من خلال دولة المواطنين. والثاني، السعي الحثيث للمساهمة في إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة الكاملة وعاصمتها القدس الشريف. تحديان أخلاقيان من الدرجة الأولى لا يمكن لأي شخص أو سلطة مهما كانت إنكار حق مطالبة الناس بحقوقها بالمساواة أو بالتخلص من الاحتلال. وهما يختزلان الواقع الصعب والمتصاعد بين النهر والبحر، من احتلال واضطهاد وطرد وقمع للحريات. هذه التحديات ليست جديدة، ولكن الواقع المتشكل أعاد صياغتها من جديد بوضوح وأظهر المخاطر الكبيرة في عدم مواجهتها، وفي تجاهلها أو الانزياح عنها لبرامج ثانوية. وبات من الضروري اعتماد فرضيات جديدة ومحددة لبناء برامجنا السياسية والإستراتيجيات المطلوبة، وسأحاول التعرض لبعضها باختصار في ما يلي:
1- المساواة وإنهاء الاحتلال هما مشروع واحد: لقد أثبتت الحرب الأخيرة والتحولات السياسية في إسرائيل، أن أي محاولة للفصل بين المشروع المدني من أجل المساواة ومطلب إنهاء الاحتلال هو خطأ إستراتيجي يرتكبه من يظن أن الدولة وبما فيها تياراتها العنصرية الصاعدة يمكنها أن تتغاضى عن لون البشرة والانتماء الإثني للمواطن. إن محاولة البعض في اشتقاق نهوج شعبوية جديدة ونزع الصفة الفلسطينية عن مجتمعنا والاعتراف بالرواية الصهيونية والتنكر للحقوق الفلسطينية المشروعة، أو تركيز العمل السياسي على المساومة والمداهنة أو الوساطة بين السلطة والمواطن، أثبت فشلها على الملأ. حيث تبين بالبرهان للقاصي والداني أن استمرار الاحتلال والغطرسة على شعبنا الساعي للحرية والاستقلال هو السبب المباشر والأول في نمو وصعود التيارات الفاشية والعنصرية، وفي عسكرتها وزيادة بطشها ضد شعبنا ومجتمعنا في الداخل، وفي أراضي السلطة الفلسطينية.
2- سقوط المواطنة: أظهرت الأحداث الجارية أن الدولة سقطت في امتحان محافظتها على أمن المواطنين العرب، فأعلنت عنهم كأعداء محتملين، وقامت بقمعهم وقمع صوتهم الداعي إلى إنهاء الحرب وإحلال السلام؛ وبذلك أسقطت مكانتهم كمواطنين، وحولتهم إلى متهمين وإلى عبء أمني ضمن حالة طوارئ تخص المواطنين العرب فقط. فبطشت بالجميع وتابعت قمعها للأصوات الحرة التي طالبت بإيقاف الحرب، وتلك التي لم تقبل الراوية الإسرائيلية.
3- إرهاب الدولة: إن القمع والملاحقة الذي تعرض لها مجتمعنا بعد السابع من أكتوبر لفنانين، وسياسيين وقياديين، وطلاب جامعات ومحاضرين عرب، وعمال وموظفين، أسس لمرحلة جديدة يجب مقاومتها ومواجهتها جماعيًا. هذا التنكيل لم يعد مقتصرًا على المتطرفين أو على الشرطة، بل أصبح رياضة شعبية شاركت بها الجامعات واتحادات الطلاب ورؤساء بلديات وصحافيون وأناس عاديون، وكأنه موسم صيد لزملائهم العرب في مقاعد الدراسة أو العمل، يستكثرون على مجتمعنا حتى الشعور الإنساني البسيط أو أخذ موقف ضد حرب الإبادة. بل يستكثرون أن يكون لنا رأي مخالف لرأي الأغلبية اليهودية التي باتت تتصرف كقبيلة. تقليص الهوامش أنتج حالة كارثية بمكانة المواطنين العرب لا يمكن تجاهلها.
4- المواطنون العرب قوة اقتصادية سياسية: نحن نعي حاجات المواطنين العرب اليومية وارتباطنا الاقتصادي بالسوق الإسرائيلية، ولكن هذا الارتباط يجب ألا يحولنا إلى جيش من الأفراد غير المرتبطين في ما بيننا. علينا أن نعي أن السوق الإسرائيلية أيضًا بحاجة إلينا فهي أيضًا مرتبطة بنا، ولا يمكنه الاستغناء عنا. فإذا تصرفنا كأفراد فقط من دون هوية جماعية، فيمكن لأرباب العمل في المستشفيات والجامعات والمصانع وغيرها طرد الموظفين والعمال والتنكيل بهم، دون أن يهتم أحد، ولكن إذا تعاملنا مع أنفسنا كجماعة سيؤدي هذا إلى أن يكون أي تعرض ضد أي فرد من المواطنين العرب بسبب انتمائه العرقي كتعرض للجماعة. هذه هي قوة التنظيم وقوة الانتماء. هذا سيكون عاملًا مهمًا لوقف الاضطهاد والتصدي للعنصرية.
5- الشعبوية وتقزيم النضال: إن نهج العابثين في تقزيم النضال الوطني في الداخل إلى موضوع ميزانيات وإلى مشاريع مالية، إنما يشرعن واقعنا كمواطني درجة ثانية، ويساهم في تثبيت نظريات التفوق العرقي ضدنا، وهو انحراف كامل عن مشروع المساواة الكاملة الذي يسعى إليه التجمع الوطني والقوى الوطنية، وهو يتلاءم مع توجهات اليمين الإسرائيلي في إعادة طبقة “الوجهاء” (“نخبديم”). ففي صميمه سيؤدي هذا النهج إلى تحويلنا من جماعة قومية ذات هوية إلى أفراد منفصلين من دون هوية وبلا تاريخ، يسعون للنجاح الفردي والنجاة الشخصية دون مطالب سياسية جماعية؛ مما يساهم في تفتيت مجتمعنا ليسهل التعامل معه والبطش به، بحيث يصبح هدم البيوت هو مسألة شخصية تهم صاحب البيت، والطرد من العمل هو مسألة شخصية، والملاحقة هي مسألة من شأن صاحب الأمر والتنكيل بطالب جامعة هي شأن الطالب وحده.
6- الشاباك بين المواطن والسلطة: تطور خطير في دور الشاباك وجهاز الأمن في المجتمع العربي في المقاربة والتوسط بين العرب والوزراء، ففي شهر أغسطس 2023 اجتمع وزير المالية مع رؤساء السلطات المحلية العرب بخصوص نيته تجميد ميزانيات وهبات مستحقة، والخطير أن هذا الاجتماع عقد بحضور رئيس الشاباك رونين بار، وهذا أمر غير عادي وخطير، والموافقة عليه تثبت النظرة والتعامل معنا كأعداء محتملين كمواطني درجة ثانية. وفي شهر مارس 2024 جرى لقاء مشابه بين وزير الداخلية ورؤساء سلطات محلية وبحضور رئيس الشاباك من جديد. هذان الحدثان يجسدان التوجه الجديد الذي تقود إليه الدولة، وللأسف فنهج القائمة الموحدة في لعب دور الوساطة والمساومة أيضًا يتماثل مع هذه التوجهات من خلال ربط الميزانيات بالسلوك السياسي والمواقف، وهذا هو النقيض الآخر لمشروع دولة المواطنين المتساوين، ويمثل تدهورًا خطيرًا في مكانة المواطنين العرب المدنية.
7- مخاطر حقيقية: من السذاجة الاعتقاد أن خطط “حوموت ماغين 2” الموضوعة مسبقًا لن تنفذ مستقبلًا، بالذات مع وجود حملة تسلح شعبية لدى اليهود ووصول عدد حملة المسدسات الشخصية لدى اليهود إلى أكثر من 120 ألف شخص في غضون أشهر قليلة بحسب تصريح وزير الأمن، إضافة لتأسيس مجموعات حراسة ومليشيات في المدن اليهودية وتوزيع ما يقارب 55 ألف قطعة سلاح عليهم. ومع وجود مد جارف من التحريض الدموي والعنصري من أعلى مستويات في الدولة بما فيها قطاعات غير رسمية واسعة في الدولة.
8- قيم الحرية والعدالة: لا يوجد سبيل للصمود على أرضنا والعيش بكرامة إلا بالتمسك في قيم الحرية والعدالة والمساواة وتطوير النضال والمواجهة من خلال العمل السياسي، والتثقيف والتمكين ،والتكافل المجتمعي وبناء المؤسسات الداخلية، وربط الشراكات الدولية مع المجتمع الديمقراطي ومؤسساته التي تؤمن بهذه القيم. حتى وإن بدا لنا أن حكومات هذه الدول تتغاضى عن تطبيق مبادئ الحرية والعدالة في تعاملها مع قضية الشعب الفلسطيني حاليًا، فهذا لا يعني أبدًا أن نتخلى نحن أصحاب القضية عن هذه المبادئ، فالمشكلة في التطبيق وليس بالمبادئ، وإستراتيجية نضال جدية لا بد أن تؤتي أكلها من خلال التراكم النضالي خاصة مع وجود حراك شعبي عالمي غير مسبوق، ومع إصدار قرارات لمحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية تعتبر متقدمة، وتحاصر إسرائيل وتعزلها دوليًا.
9- عودة القضية الفلسطينية: عادت بقوة إلى رأس جدول الأعمال الدولي، الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية بدأ يتدحرج في أروقة الحكومات الغربية، ولم تعد لدى حكومة نتنياهو أوراق سياسية لتلعب بها، فأصبح جليًا أن إسرائيل تسعى للقضاء نهائيًا على حل الدولتين، ما يتناقض مع المواقف المعلنة لدول العالم.
10- العمل البرلماني: التمثيل البرلماني العربي هو أداة مهمة للنضال من أجل مكانة وحقوق المواطنين العرب، وإلى منع صعود المتطرفين إلى الحكم. وتمثيل عربي قوي يمكن أن يفرض ويحقق أهدافًا بهذا الاتجاه.
يملك المواطنون العرب الخبرات وأدوات المواجهة المدنية المطلوبة، ولكنها تحتاج إلى إعادة تنظيم وترتيب وأهمها تمسكهم بالخطاب الديمقراطي ومبادئ الحرية والمساواة والعدالة، وثانيًا القدرة على التنظيم وبناء روح الجماعة والانتماء في هيئات ونقابات ومؤسسات تحت أهداف سياسية واضحة تسعى لتغيير واقعهم ومكانتهم (وليس الحصول على ميزانيات كرسوم صمت للعيش الذليل)، فالإمكانيات في حال تنظمهم في تفعيل وسائل الاحتجاج ستكون ذات تأثير كبير. كما تستوجب المرحلة المقبلة تطوير عملنا مع الدول الأوروبية وبناء علاقات إستراتيجية مع مؤسسات دولية، حكومية وحزبية وحقوقية وبحثية، ناهيك عن بناء علاقات متينة مع الإعلام الغربي من صحافيين وإعلاميين ووسائل إعلام للتعريف أكثر في قضايانا وتحدياتنا.