نهاية العالم في «النفق» الموسكوبي المحصن
جودت هوشيار
«النفق» الرواية الرابعة للكاتبة الروسية يانا فاغنر، صدرت في موسكو في آذار/مارس 2024، وأصبحت على الفور واحدة من الروايات الأكثر إثارة للجدل في الأوساط الأدبية الروسية هذه الأيام، وقد بيعت حقوق تحويلها إلى مسلسل تلفزيوني حتى قبل صدورها في كتاب ورقي يقع في 570 صفحة. وهي رواية رعب عن نهاية العالم.
أصبح هذا النمط الروائي شائعاً جداً في روسيا في الآونة الأخيرة وتعكس المخاوف من التهديدات التي تواجهها البشرية في عالم اليوم. ازدحام مروري شديد في نفق السيارات عند مدخل موسكو مساء يوم الأحد في منتصف شهر يوليو/تموز .هذه المرة طابور السيارات المنتظرة طويل جدا. تقف مئة وخمسون سيارة بلا حراك، وفيها نحو خمسمئة شخص من مختلف الأعمار والأديان والجنسيات، الذين لا يعرفون بعضهم بعضاً، ويعاني ركابها من الجو الحار الخانق والملل، ويريد الجميع العودة إلى منازلهم بسرعة، لأن الوقت فات بالفعل، وغداً هو يوم عمل. سكان عائدون من منازلهم الريفية مع أطفالهم والكلاب والقطط. سيارة بيكآب تحمل علب مياه معبأة مع سائق أوزبكي شاب لا يفهم كلمة واحدة بالروسية، وسيارة أجرة يقودها سائق أوزبكي مقيم في موسكو منذ تسع سنوات. حافلة عادية مع ركاب. سيارة ليموزين لمسؤول تنفيذي كبير مسن ومساعدته وحارس أمن. شاحنة صغيرة مع فريق من البنائين. سيارة بولندية تحمل صناديق مثلجات وعصائر. سيارة شرطة فيها سجين تعرض للضرب في المقعد الخلفي. سيارة حمراء مكشوفة فيها فتاة جميلة جداً ذات شعر وردي مع رفيقها الوسيم. الفتاة الجميلة نامت في انتظار بدء حركة السيارات. هي الوحيدة التي لا تفعل شيئا. وغادر رفيقها خلال الازدحام المروري ولم يعد.
من الصفحات الأولى، نعرف أن الأحداث تجري في النفق الشمالي الغربي المحفور تحت نهر موسكو بطول ثلاثة كيلومترات، حيث يتم إغلاق النفق من كلا الجانبين بواسطة بوابات خرسانية وقضبان معدنية في حالة وقوع ضربة نووية أو هجوم بيولوجي. ويبدو أن كارثة ما قد حدثت بالفعل على سطح الأرض في الأعلى – فلا أحد في عجلة من أمره لإنقاذ «الرهائن». لا يوجد أي اتصال مع العالم الخارجي. وبعد ساعات قليلة بدا للجميع أنه لم يعد هناك عالم خارج النفق. تحاول فاغنر إجبار «الناس» المنقطعين عن العالم على بناء مجتمع جديد، في حين يبدو أن الأمل في الخلاص يختفي تدريجياً. تصف يانا فاغنر بالتفصيل، دقيقة بدقيقة كيف تقضي شخصيات الرواية ساعات الانتظار الطويلة: هناك من يشتم ويصب اللعنات، وهناك من يحاول تكوين صداقات، أو علاقات عاطفية. ثمة مرضى على وشك الموت، والكل يحاول البقاء على قيد الحياة، ويهدد الأوكسجين بالنفاد عاجلاً. لم يعد للنفق مخرج ولا مدخل. أغلقت الأبواب الخرسانية القوية ونزلت القضبان الحديدية العملاقة من السقف من كلا الطرفين أمام أنظار أصحاب السيارات القريبة. تم عزل نحو خمسمئة شخص في مكان ضيق ومغلق لفترة غير محددة، ليست هناك أي بوادر للمساعدة من خارج النفق على الإطلاق. وليس من المعروف تماما ما إذا كان أي شخص سيخرج من هذا الفخ سالماً. يزداد الرعب من المجهول، والحاجة إلى التعايش والصراع من أجل البقاء مع مرور الوقت. تقول احدى شخصيات الرواية: « يا إلهي، إلى متى تتظاهرون بأن شيئا لم يحدث؟ لا يوجد مخرج من هنا. لا توجد سلالم أو مصاعد. فوقنا نهر بعمق ثلاثون مترا، والخرسانة من حولنا في كل مكان، ومن جميع الجهات. لا يمكننا تفجيرها. لن نخرج من هنا أبداً».
الرواية مثيرة للاهتمام، من خلال الطريقة التي يتفاعل بها أشخاص مختلفون للغاية، وجدوا أنفسهم بالمصادفة في مكان ضيق ويحاولون إيجاد لغة مشتركة للتواصل في ما بينهم. قامت الدار الناشرة للرواية، وهي من كبريات دور النشر الروسية بحملة بروباغندا هائلة لترويجها بشتى الوسائل المتاحة وتقول إن: «النفق الواقع تحت نهر موسكو يشكل نموذجاً لروسيا، وعلى نطاق أوسع للعالم بأسره. وكما هو الحال في الواقع، لا يمكن تقسيم الناس إلى أخيار وأشرار، وشجعان وجبناء. إنهم غير متسقين ويخضعون لدوافع لحظية، وهم مدفوعون بنبل مفاجئ، وجرأة محطمة، وغضب وتعاطف، وذعر غير عقلاني».
يانا فاغنر لا تعطي أسماء لشخصياتها عمدا – نحن نعرف معظم الشخصيات في النفق من مهنهم أو أنواع سياراتهم: سيارة مكشوفة، طبيب أسنان، أستاذ زائر، فولكس فاغن، مساعدة المسؤول الكبير. وهذه التقنية، كما لو كانت مساهمة في تنزيل الأشخاص إلى مستوى الأقنعة والأنواع، وينتج عنه تأثير معاكس تماما. إنه يسلط الضوء على عدم قابلية الناس للاختزال في مجموعة بسيطة من الخصائص. تبدو جميع الشخصيات في «النفق» غير منطقية، وغير كاملة ومختلفة. يفتقر الأشخاص المحاصرون إلى موارد كافية من الماء والغذاء والدواء والمعلومات والمساحة لقضاء حاجتهم، وهي قواسم مشتركة للمشاكل التي يعانون منها، وتكشف عن الخصائص الفردية البشرية إلى أقصى حد. يعاني بعض الأشخاص من مشاكل بسيطة وآخرون من مشاكل أكثر خطورة: تشعر المرأة الحامل بنزول ماء الولادة، ويحتاج شخص ما إلى الأنسولين بشكل عاجل، ويموت شاب بسبب جرح غير خطير لمجرد عدم وجود مطهرات ومضادات حيوية. بالنسبة للبعض، يكون الدافع واضحاً – تهدئة طفل مرهق مصاب بالتوحد، وإطعام قطة، والعثور على مراهقة ضائعة. بالنسبة للبعض الآخر، يكون الأمر أقل شفافية ـ التنفيس عن المظالم التي طال أمدها من خلال تخويف أشخاص عشوائيين. بعض الناس يستمتعون بالفوضى. بعض الناس لا يعرفون حتى ماذا يفعلون. يتساءل المرء لماذا تقوم مساعدة المسؤول الغامض في سيارة ليموزين بتسجيل أسماء ومهن جميع المحصورين في النفق؟ ماذا ستفعل بهذه اللائحة؟
في مكان ضيق وفي فترة زمنية محدودة للغاية (زمن أحداث الرواية هو 28 ساعة) تحاول فاغنر بناء رواية ملحمية، حيث يمكن للقارئ أن يلاحظ على الفور الصورة العامة لما يحدث في النفق، والعديد من القصص الفرعية – محرجة ومؤثرة ومفهومة. معركة من أجل الاستيلاء على سيارة تحمل عبوات المياه المعدنية، قصة عاطفية هادئة لملازم شرطة، يقع في حب حسناء السيارة المكشوفة. الصحوة البطولية لطبيب أسنان متواضع على استعداد لتحمل المسؤولية عن جميع المرضى والمقعدين في النفق، ينطلق مشهد كوميدي تقريبا لاقتحام سيارة تحمل أغذية للحصول على الطعام. عشرات القصص الشخصية، المتشابكة بطريقة معقدة، دون أن تفقد قيمتها المستقلة، تشكل صورة مخيفة وإنسانية ومؤثرة في آن واحد. طلب طبيب الأسنان من السائقين التراجع قليلا بسياراتهم لفسح المجال لإنشاء ما يشبه مركزا صحيا لنقل ومعالجة الجرحى. لم يكن ينبغي نقل الجرحى إلى أي مكان على الإطلاق. كان نقلهم خطيرا، خاصةً رجل مصاب بطلقة في عموده الفقري،.
كان النفق بأكمله مليئا بالنفايات وغير معقم، ولم يكن أي جزء منه مناسبا حتى لمركز طبي مزيف، حيث لم يكن هناك جراح، ولا طبيب طوارئ، ولا حتى مسعف أو ممرضة، لكن فقط طبيب أسنان من عيادة «سمايل» الذي لم يقطع أي شيء أكثر خطورة من اللثة خلال عشرين عاما من الممارسة الهادئة لمهنته. اختار طبيب الأسنان مكاناً، على بعد حوالي عشرات الأمتار من البوابة الرهيبة للنفق التي أزهقت أرواح ركاب سيارة تصادف وجودها تحت الكتل الخرسانية عند إغلاقها تلقائياً. وبعد ذلك، وبالسرعة نفسها، أحضروا إلى هناك الماء، والفوط الصحية والحفاضات، وعشرات من أدوات الإسعافات الأولية للسيارات، وحتى زجاجة من مشروب الخمر الريفي التي نجت بأعجوبة. باختصار، لقد فعلوا كل ما قال لهم طبيب الأسنان ، كما لو كان لديه هذا الحق.
أقحمت الكاتبة صداما دينيا مفتعلا في روايتها، كأسهل طريقة لنيل إعجاب النقاد الغربيين عند ترجمة الرواية إلى الإنكليزية واللغات الأوروبية الأخرى، حيث تترجم الروايات الروسية الرائجة إلى اللغات الأجنبية بعد فترة وجيزة من صدورها. وقد شغل وصف هذا الصدام في الرواية عشرات الصفحات وسنحاول تلخيصها بقدر الإمكان..
لم تعد هناك حاجة ملحة إلى الماء الآن، ومع ذلك فإن مساعدة المسؤول الكبير كانت تفاوض الأوزبكيين. عرضت عليهما تبادل العلب بالزجاجات، وظلت تساومهما لفترة طويلة. بحلول هذا الوقت، كانت مساعدة المسؤول من جانبها قد استطاعت استمالة عدد من الرجال الأقوياء.
تقول فاغنر: «في مكان قريب كانت تقف سيارة أجرة وشاحنة صغيرة تحمل زجاجات مياه معبأة يقودهما سائقان أوزبكيان. لم يكن سائق الشاحنة يعرف اللغة الروسية. عاش سائق التاكسي في موسكو لمدة 9 سنوات، وتعلم اللغة جيدا، لكنه كان يكره الروس الذين لم يكن لديهم سوى القليل من الاحترام له: كان في إمكانهم البحث عن سيارته لفترة طويلة بعد الاتصال به، وأحيانا يعد ولا يأتي، وكانوا يتحدثون عبر الهاتف بأصوات عالية أمامه، وبدت له النساء الروسيات خليعات. بعد الوقوف لساعات، نفدت المياه لدى الكثيرين، بينما لم تكن لدى آخرين مياه معبأة على الإطلاق. كان الصيف حاراً، والجو في النفق خانقاً، وكان الناس عطشى. عثروا على شاحنة المياه المعبأة وتحركوا نحوها. أرادوا أخذ الماء وتوزيعه على السيارات. وكان السائق يخشى أن يعطيهم الماء، خوفاً من أن يعاقبه صاحب الشاحنة لاحقاً على ذلك. ووعدوا بتعويضه عن كل شيء. تردد السائق، ولم يفهم معظم ما قيل له. ركب سائق التاكسي الشاحنة وأمر السائق بإغلاق الأبواب. وقال إنه ينبغي عدم التنازل عن المياه بأي حال من الأحوال، لأن الروس يطالبون بها، ولم يطلبوا الماء بلباقة، وإنهم سيوزعونها على الجميع، والمياه ملك للأوزبك. طلب السجين – الذي تمكن من الهرب من سيارة الشرطة – ركوب السيارة المحملة بالمياه المعلبة. سمحوا له بالدخول. وكان قد توصل إلى خطة حول كيفية الاستيلاء على المياه، وبيعها بثمن باهظ. أعجب سائق التاكسي بالخطة. ذهب للبحث عن شركاء، وانضم إليه بسرور جميع المسلمين العالقين في النفق، وضمنهم بروفيسور أذربيجاني وزوجته الروسية. وهما من سكان موسكو. كان البروفيسور حاقدا على الروس لأنهم لم يكونوا يعاملونه باحترام. كانت الخطة كما يلي: الاستيلاء على عشرات السيارات التي كانت واقفة على الجانب، واستخدامها كحاجز، وأخذ ركابها رهائن. بعد ذلك سيكون من الممكن تحصيل أموال كبيرة مقابل الماء، وإذا اعترض أي شخص، فسيكون من الضروري استخدام القوة واتخاذ الرهائن دروعا بشرية. وفي الوقت نفسه، وجدت مساعدة المسؤول الكبير مصدرا جديدا – شاحنة بولندية مع الأطعمة والمشروبات المعلبة. لم يقاوم السائق البولندي كثيراً وسمح بتوزيع المعلبات والعصائر. من حيث المبدأ.
لم تعد هناك حاجة ملحة إلى الماء الآن، ومع ذلك فإن مساعدة المسؤول الكبير كانت تفاوض الأوزبكيين. عرضت عليهما تبادل العلب بالزجاجات، وظلت تساومهما لفترة طويلة. بحلول هذا الوقت، كانت مساعدة المسؤول من جانبها قد استطاعت استمالة عدد من الرجال الأقوياء. تم إعطاؤهم أسلحة ( ولا توضح فاغنر من أين حصلت المساعدة على الأسلحة؟). ذهبوا جميعاً للتعامل مع الأوزبك. وهكذا، نشأ صراع ديني مع المسلمين. ووجدت زوجة البروفيسور نفسها في خط النار وقُتلت برصاصة طائشة. واضطر الأوزبك إلى التخلي عن المياه وأطلقوا سراح الرهائن. ولم يعد لدى الرهائن مكان للجلوس بعد أن تضررت سياراتهم.
يمر الوقت في الرواية ببطء، وأحيانا يتباطأ أكثر ويتركز في أذهان شخصيات معينة. علاوة على ذلك، فإن الحدث الرئيسي يستغرق نحو 28 ساعة ويحتوي على الكثير من الأحداث الفرعية غير المتجانسة… ورغم أن في الرواية العديد من اللحظات المتوترة وحتى المخيفة، إلا أن الأبطال في الغالب ينجحون بدرجات متفاوتة في محاولاتهم، للتحرك عبر النفق، والجدال، والتنافس، والشكوى من الظروف من أجل التظاهر بالحياة الطبيعية، وإخفاء الشعور بالكارثة الوشيكة. علاوة على ذلك، هناك وصف حي للانزعاج الجسدي الناجم عن الحرارة والعطش والتعب.
تنتهي الرواية فجأة في منتصف الليلة التالية: النفق فارغ تخرج منه الحسناء ذات ذات الشعر الوردي، تحمل قطة بيضاء تحت ذراعها. تغادر دون الإجابة على أسئلة الصحافيين الفضوليين. تقف سيارات الإسعاف وطواقم التلفزيون بالقرب من النفق، وتقدم تقارير حية. يقولون إن هذا النفق كان آخر الملاجئ والأنفاق التي تم فتحها. لقد نسوا عنه في الفوضى. ماذا حدث؟ نفذ قراصنة مجهولون هجوماً سيبرانياً أدى إلى تعطيل كل النظم الإلكترونية تلقائيا. وحدثت كبرى المشاكل في أنفاق المترو، حيث كان مئات الآلاف من الأشخاص عالقين فيها. وقال الصحافيون: «إن هذا نوع جديد تماما من التهديد».
فكرة مطروقة
هناك رواية قصيرة (نوفيلا) للكاتب الأرجنتيني خوليو كارتاثار (1914- 1984) بعنوان – «الطريق السريع الجنوبي» نشرت عام 1966. في هذه القصة أيضاً ثمة ازدحام مروري كبير في أحد أيام الأحد من شهر أغسطس/آب قبل دخول باريس. تقف آلاف السيارات على الطريق السريع الجنوبي، ويحلم سائقوه وركابه بالوصول أخيرا إلى الأمكنة التي يقصدونها. بعد مرور عدة أيام شعر الكثيرون بالجوع والعطش. لم تكن هناك هواتف محمولة في ذلك الوقت، لذلك لم يحاول الناس الاتصال بأي شخص. ولماذا لم يغادروا؟ كان من المؤسف ترك سياراتهم. حاولوا تنظيم حياتهم، ومساعدة بعضهم بعضا. تم تكوين صداقات جديدة وحتى علاقات رومانسية. استؤنفت الحركة بعد عدة أسابيع، وذهب الجميع إلى أعمالهم ، متناسين الحياة في الازدحام المروري.
سميت معظم شخصيات كل من كورتاثار وفاغنر بأسماء الماركات التجارية للسيارات بالنسبة لكلا المؤلفين. وقد اعترفت المؤلفة في مقابلة صحافية أن الفكرة الرئيسية للنفق مستوحاة من قصة كورتاثار.
كاتب عراقي