دراساتمقالات

الدين والديموقراطية- الحلقة الاولى-  بقلم د.يوسف مكي

بقلم د.يوسف مكي -المنبر الثقافي العربي والدولي -

الدين والديموقراطية
الحلقة الاولى
 بقلم د.يوسف مكي
العلاقة بين الدين والديمقراطية كانت موضوعا لندوة عقدت في مدينة القطيف قبل عدة أعوام، وكان لي شرف المشاركة فيها. ولعل ما حرض على اختيار هذ الموضوع، ان الديمقراطية باتت محورا مركزيا في البرامج السياسية العربية، وحديثا أثيرا للمناقشة بالفضائيات العربية، في السنوات الأخيرة، ولأهمية الجدل الذي يدور حول جذورها ومفاهيمها وتطبيقاتها.
كان تداعي النقاش قد هيأ المقدمات للحديث عن علاقة الدين بالديمقراطية. هذه المقدمات تكمن في العلاقة المتبادلة بين المطلق والنسبي. وهذه العلاقة ذات صلة مباشرة ببعدي الزمان والمكان. والمطلقات هنا تعني الثوابت غير القابلة للتغيير، ونعني بها بداهة روح الدين من عدل ومساواة وإماطة الأذى عن الناس، وتعميم مكارم الأخلاق. إن هذه المبادئ والقيم غير خاضعة لقوانين النسبية، ولا ببعدي الزمان والمكان.
وإذن فالدين في روحه وجوهره يحمل مبادئ، تحمل صفة الإطلاق لا النسبية. أما الديمقراطية، فهي من جهة، تحمل روحا تقترب في جوهرها من ذات المبادئ العالمية التي تبشر بها الأديان، من حرية وعدل ومساواة. لكنها في تطبيقاتها، خاضعة للاعتبارات الظرفية.
في الحضارة العربية الإسلامية، لم يوجد، على الصعيد النظري، قوالب ثابتة وجاهزة لنظام سياسي إسلامي، واضحة نظمه وهياكله. فالرسول (ص)، حسب إجماع غالبية المسلمين، ترك الأمر شورى بين الناس. وتجمع المهاجرون والأنصار في سقيفة بني ساعدة، واختاروا أبا بكر الصديق، خليفة أول لرسول الله. وجاء اختياره من قبل نخبة القوم. أما عمر فتولى الخلافة، بوصية من الخليفة الصديق، في كتاب مختوم. وربما كانت الخشية من حدوث فراغ في المركز الأول، في الوقت الذي يحتدم فيه القتال على جبهة اليرموك بين المسلمين والبيزنطيين، هي التي دفعت بالصديق إلى اتخاذ هذه الخطوة. وبعد محاولة اغتيال الخليفة عمر، وقبل استشهاده رشح ستة من صحابة رسول الله هم عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوّام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، وجرى انتخاب عثمان بن عفان من بينهم ليكون خليفة للمسلمين. أما علي بن أبي طالب، الرابع من بين الخلفاء الراشدين، فقد جرت مبايعته بالمدينة المنورة، إثر الفتنة الكبرى التي استشهد فيها الخليفة عثمان بن عفان.
خلاصة القول، أننا هنا إزاء أنصع حقبة في تاريخ الإسلام، بعد حقبة الرسول، لم تتجاوز الثلاثين عاما، شهدنا فيها وصول أربعة من الصحابة لمركز الخليفة. كل واحد منهم وصل إلى قيادة الدولة بشكل مختلف عن بقية الخلفاء، وأصبحت الخلافة من بعدهم “ملكا عضوضا”. وذلك يعني، أن الإسلام لم يشرع طريقة بعينها للحكم، وترك الأمر، اجتهادا للمسلمين، كما رأينا، باعتبارهم أعلم بتدبير شؤون دنياهم.
هكذا إذن كانت طريقة الحكم، خاضعة للمعايير الظرفية، بمعنى آخر، للنسبي وليس المطلق، شريطة أن لا تتعارض مع روح العقيدة،وأساسها العدل والمساواة واحترام كرامة الإنسان.
الديموقراطية، كمفهوم كما آشرنا، هي حكم الشعب، ويعادلها في الإسلام الإجماع والشورى، وهي كلمة لاتينية. أما من حيث الإجراء، فإن المفهوم ذاته ليس ساكنا، فقد حدثت في طريقة تطبيقه تطورات هائلة، خضعت بدورها لمتغيرات ظرفية، زمانية ومكانية. وتمحورت حول الكيفية التي يحكم الشعب فيها نفسه.
في الإرث السياسي الأرسطوي، كانت بداية الحديث عن الديمقراطية بالمجتمع الأثيني. وكانت ديموقراطية تخص الطبقة الأرستقراطية، ويستثنى من ممارستها العبيد والبرابرة والنساء, والمسموح لهم بحق الانتخاب هم أولئك: “المكتملون إنسانيا بجدارة”.
في التاريخ الحديث ارتبطت الديموقراطية بالفكر السياسي الغربي. وجاءت تعبيرا عن انتقال رئيسي في مراكز القوى الاجتماعية، وتحديدا أفول الإقطاع وبروز الطبقة الصناعية، وما صاحبه من بناء مدن صناعية ضخمة وانتقال من الأرياف إلى المدن. وقد تزامن قيام الثورة الصناعية الأولى، ببروز أفكار بشرت بالمرحلة الجديدة، وسادت أوساط الكنيسة من جهة، والنخب الفكرية من جهة أخرى. وكانت تلك التطورات هي المقدمات اللازمة التي هيأت لاندلاع ثورتين رئيستين غيرتا من وجه التاريخ، هما الثورة الفرنسية والثورة الإنكليزية.
على صعيد الكنيسة، برزت حركة الإصلاح الديني، التي قادها مارتن لوثر، والتي أجازت ترجمة الإنجيل للغات الحية، وألغت صكوك الغفران. وبرزت البروتستانية حركة دينية مسيحية تتجانس في مقولاتها ومناهجها مع التحولات الاجتماعية الكبرى الجديدة، لدرجة جعلت مفكرا غربيا، هو ماكس فيببر، يرى في القانونية العقلانية، التي هي أعلى مراحل الديمقراطية، تعبيرا عن الأخلاق البروتستانية.
ومن جهة أخرى، كان مصلح آخر، هو كالفن يقود حركة إصلاح ديني أخرى في فرنسا. ويسهم بقوة في الفصل الحاد الذي حصل لاحقا بين الدين والسياسة، وبالتالي بين الدولة والكنيسة. وكان الملك الإنجليزي، هنرى الثامن، قد وضع بملاحقاته للكهنة والقسس، وحملات التعذيب والإبادة في صفوف أفراد المؤسسة الكنسية المقدمات لتحقيق هذا الفصل، ولاندحار المؤسسة الكنسية في آخر الأمر، وتقوقعها في حي صغير من أحياء روما القديمة، هو ما يعرف الآن بدولة الفاتيكان.
وعلى صعيد الفكر، برز عدد من المفكرين الذين رفضوا بقاء الحكم في أوروبا على قاعدة “الحق الإلهي”، فأصدر جان لوك كتابه الشهير “اتفاقيتان”، كما أصدر مفكر آخر، هو مونتسكيو، كتابا نال سمعة واسعة هو “روح القانون”، الذي أصبح لاحقا مرجعا هاما في أصول التشريع. كما دفعت التطورات المتسارعة التي مرت بها القارة الأوروبية بمفكر آخر، من فرنسا هو جان جاك روسو إلى إصدار كتاب تحت عنوان “العقد الاجتماعي” أشار فيه إلى أهمية قيام علاقة تعاقدية بين الحاكم والمحكوم، تستند على قوانين وأنظمة ولوائح يصنعها الجمهور. وتزامنت تلك الحركات الفكرية والدينية، بحركة أدبية واسعة، حملت طابعا رومانسيا، وتبشيريا بفكرة التغيير الاجتماعي، وكان في مقدمة الأدباء الذين أسهموا في الحرك كمفهوم هيجو وفولتير.
أشرنا إلى أن الديمقراطية. تعني حكم الشعب، ومن حيث الإجراء، فإنها ليست ممارسة ساكنة، وقد حدثت تطورات هائلة في تطبيقاتها.
كانت الثورة الفرنسية، انعطافة كبيرة، في طريق إنهاء نظرية “الحق الإلهي”، وتعزيز الفصل بين السلطات. وكانت نتاجا لتحالفات اجتماعية واسعة، شملت أرباب الصناعة الذين تصدروا قيادتها. كما شملت الطبقة المتوسطة، وجمهور الجياع الذي انقض على الباستيل، وأنهى مرحلة تاريخية، سادت لحقب طويلة.
ورغم أن هذه الثورة طرحت منذ البداية، شعارات كبيرة، أصبحت فيما بعد محرضا لتغييرات كبرى في الخارطة السياسية العالمية، كحقوق الإنسان، والتعددية السياسية، والتداول السلمي للسلطة، لكن تلك الأهداف لم تكن واضحة المعالم كما هي الآن. كان هناك حديث عن سلطات ثلاث، تشريعية وتنفيذية، وقضائية، لكن الفصل بين السلطات لم يكن محددا بدقة. وبنفس المستوى، لم تتحدد بوضوح القوى الحاضنة لمشروع التغيير إلا بعد مرور عدة عقود.
ومع أن قادة الثورة تبنوا بيانا لحقوق الإنسان، صدر في 26 سبتمبر عام 1789م، أشار إلى أن “الناس يولدون أحرارا ومتساوين في الحقوق”، وأن هذه الحقوق تتضمن الحقوق في الحرية والملكية والسلامة ومقاومة الاستبداد. لكنه لم ينص صراحة على الحرية الاقتصادية، بالمعنى الذي أكدت عليه نظرية آدم سميث. في موضوع الحرية، تحدث البيان المذكور عن أنها تعني حق الفرد في “عمل كل شيء لا يلحق الضرر بالآخرين”, وعلى هذا الأساس، فإنها حرية مفتوحة لا حدود لها إلا حرية الآخرين. لكن الضمانات الإجرائية لتطبيق تلك الأهداف لم تتبلور بعد، عند صدور ذلك البيان. وكانت الخشية شديدة من أن تتغور السلطة التنفيذية على السلطتين الأخريتين، التشريعية والقضائية، كونها هي المسؤولة عن تطبيق القوانين والأحكام القضائية، من خلال هيمنتها على تنظيم وإدارة القوات المسلحة والأمن الداخلي.
لقد أكدت التطورات اللاحقة أن الشعارات، التي بدت جميلة ونبيلة كانت تحمل في جنباتها مضامين مضمرة، تعكس مستوى قوة الدور الاقتصادي الذي تلعبه الشريحة الاجتماعية التي تصدت لقيادة التغيير. لقد كانت الشعارات في تعابيرها، إيذانا باندحار شريحة اجتماعية، وحلول أخرى محلها، لا تتيح لها بنيتها العمل وفقا للسياقات القديمة. فكان لا بد من صياغات جديدة تنسجم مع التطورات التي أخذت مكانها بسقوط الإقطاع، وفي مقدمتها شرعنة الفصل بين السلطات، وقيام مؤسسات المجتمع المدني، وبروز أنظمة وهياكل تؤمن احتكار أرباب الصناعة للسلطة.
وإذا، فالديموقراطية، في نتيجتها هي تعبير عن توازن في القوة بين شرائح فتية، لا يمكنها حسم الصراع فيما بينها، فكان لا بد من الاحتكام إلى الدستور وإلى القوانين المدنية، والقضاء المستقل، لتكون جميعا الحكم في الصراعات التي تنشب بين القوى الفتية التي تمارس صناعة التاريخ الأوروبي الحديث.
لكن التحالفات التي نشأت عشية التغيير بين مختلف الشرائح، هي مسألة أخرى، لا بد من حسمها. وكان ذلك هو ما حدث بالفعل، في الثورتين الفرنسية والإنجليزية معا، بل يمكن اعتبار الحرب الأهلية الأمريكية، أثناء حقبة الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن أحد تعابير الحسم، بين القوى التي صنعت الأمة بتعابيرها ومؤسساتها الحديثة، لتصدق المقولة الشائعة ﺒ”إن الثورة تأكل أبناءها”..
في فرنسا بدأت التصفيات في صفوف قادة الثورة منذ أيامها الأولى، وتصاعدت وتائرها، حتى تمكنت الطبقة البورجوزاية من الاستئثار بالسلطة بعد القضاء على اليعاقبة، وقائدهم الخطيب المفوه، وأحد الذين ساهموا في صناعة تاريخ الجمهورية الفرنسية، روبسبير عام 1791، بعد أقل من ست سنوات على قيام الثورة، وكان برفقته العشرات من زملائه الذين تم إعدامهم دون محاكمة. وبالمثل، انتهت ثورة المتطهرين “البيوريتاين” الذين قادوا الثورة في إنجلترا. وأعدم قائدهم أوليفر كرومويل، وأودع وزير خارجيته الشاعر، جون ميلتون السجن المؤبد، حيث أصدر من معتقله واحدا من أشهر الدواوين الشعرية “الفردوس المفقود”، والذي أشاد فيه بمبادئ الحرية التي بشرت بها الثورة، موضحا “أن من يقتل الكتاب يقتل الكلمة، وأن من يقتل الكلمة يقتل الإنسان”. وبعد فشل الثورة أعيد الملك تشارلز السادس إلى الحكم، لكن النظام النيابي، والفصل بين السلطات الثلاث بقي قائما حتى يومنا هذا.
وضعت الثورتان، الفرنسية والإنجليزية المقدمات لوجود نمطين من الأنظمة الديموقراطية، كلاهما يلتزم بالفصل بين السلطات، ويستند إلى الحياة الدستورية المستندة على نظام في شكل وثيقة أو عرف تدار من خلاله العملية السياسية، ويوفر رقابة فعالة على ممارسة السلطات الحكومية لأدوارها، وهما النظام البرلماني والنظام الرئاسي، وبينهما، نظام وسط هو النظام الثنائي.
فمن إنجلترا برز النظام البرلماني، حيث يشكل نظامها “نموذج وستمنستر” أو النظام الوزاري نمطا كلاسيكيا بارزا ومتميزا في الحياة النيابية. ويوفر هذا النموذج تكامل وانصهار السلطتين التشريعية والتنفيذية. وتنحصر إدارة الرقابة في هذا النموذج بصفة رئيسة في تصويت البرلمان برفض الثقة في الحكومة أو في واحد أو مجموعة من تشريعاتها. ويكون دور رئيس الدولة في هذا النظام احتفائيا ورمزيا.
أما النظام الرئاسي، وتعتبر الولايات المتحدة نموذجا رئيسا في تطبيقه، فيعتمد على مبدأ الفصل بين السلطات. ويميز فيه بقوة بين الجهاز الإداري والجهاز السياسي. وتجري في هذا النظام انتخابات دورية منفصلة للسلطة التشريعية والتنفيذية. وتتحقق الرقابة عبر آليات عديدة، يضمنها حق الفيتو لرئيس الجمهورية، الذي يمكن أن يتجاوزه الكونجرس بأغلبية الثلثين. ويقوم البرلمان بالتصديق على المعاهدات، والموافقة أو رفض الاقتراح بالتعيينات لكبار مساعدي الرئيس، من وزراء وسفراء، والتصديق على الموازنة السنوية، والموافقة على إعلان الحرب وإرسال القوات إلى الخارج.
أما النظام الثنائي، فيجمع بين مواصفات النظامين البرلماني والرئاسي، وتشكل فرنسا أنموذجا له. وفي هذا النظام يجري انتخاب الرئيس بالاقتراع العام المباشر لمدة سبع سنوات، قابلة للتجديد مرة واحدة فقط. ويقوم الرئيس باختيار رئيس وزرائه من الأغلبية النيابية. وقد بدأ الأخذ بهذا النظام، بعد ما يقرب من قرنين من قيام الثورة الفرنسية، وتحديدا عام 1958، في عهد الرئيس الفرنسي، شارل ديغول. وكان الهدف من تبني هذا النظام الثاني، هو معالجة قضية عدم استقرار الحكومات الفرنسية في فترة الجمهورية الرابعة. لقد جمع الدستور الفرنسي الجديد مواد دستورية من النظامين الأمريكي والإنجليزي.
وعلى كل فليس الهدف من هذا الحديث هو إعطاء تفصيل شامل عن الكيفية التي تدار بها شؤون الحكم في الأنظمة الديموقراطية، فليس هذا مكانها، ولكن التأكيد هنا على الطبيعة النسبية في التطبيق، على عكس الأديان التي تعتمد على المطلقات. لكن هذا الاختلاف لا يعني بأي شكل من الأشكال، تناقضها وتنافرها مع الدين. فطالما أن المبادئ التي بشرت بها الأديان هي مبادئ إنسانية عالمية، فإن العلاقة بينها وبين كل ما من شأنه أن يعزز من الكرامة الإنسانية هي علاقة إيجابية وليست علاقة تضاد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب