
حيوانات غزة: الضحية المنسية

منصف الوهايبي
أظهرت فلسطينية تعيش في مدينة غزة، قطة تتجول في حاوية قمامة قريبة وكتبت «الحيوان الذي لا يجد طعاما يحاول إطعام نفسه، يأكل بقايا القطط الميتة.» وقد انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تظهر القطط والكلاب الجائعة وهي تتغذى على جثث الفلسطينيين الذين قتلهم الجيش الإسرائيلي في بلدة خان يونس جنوب قطاع غزة؛ ولم تتمكن فرق الإنقاذ من انتشالهم. ويقول سكان غزة إن العديد من الحيوانات ماتت نتيجة الهجمات الإسرائيلية أو المجاعة، والحرب على غزة أتت على الحيوانات كما أتت على البشر. ومنهم من دعا إلى وقف الحرب الإسرائيلية لإنقاذ الحيوانات التي تعيش في غزة، خاصة القطط، التي يمكن أن تشكل روابط قوية للغاية مع الناس، كما كتب بعضهم، بل إن طبيبا بيطريا فلسطينيا بنى ملجأ لحماية القطط، في مدينة رفح.
عدت وأنا أتابع يوميا محنة فلسطينيي غزة، وضحايا هذه الحرب الهمجية من بشر وحيوان، إلى جورج باتاي عسى أن أفهم سر هذه الهمجية؛ وهو أحد كبار الفلاسفة المعاصرين الذين أفدنا منهم الكثير، وتحديدا في ما يخصني، في رسالتي الجامعية منتصف الثمانينيات عن» الجسد المرئي والجسد المتخيل في شعر أدونيس». غير أني أعود إليه في هذا المقال، في مباحثه المخصوصة بالحيوان في علاقته بالإنسان، وربما لا أحد مثله كتب في هذه العلاقة استدراكا على أرسطو، بشغف وسعادة كما كتب بحثا في جذر «الإنسان» أو «الخليقة». وقد أشاح باتاي كما يقول دارسوه عن الفكر الغربي الذي لم يبرح «مركزية الإنسان» بوصفه الكائن الحي «الأعلى، ليغوص في قاع الحياة الحيوانية؛ عسى أن يفهم ما سماه «هذا العبور من الإنسان المتوحش إلى الكائن غير المحدود الذي هو نحن» فـ»الإنسان هو منذ البداية الحيوان الذي يفلت من الإكراه القوي إكراه الرغبة المداهمة. إنه الحيوان الذي يؤجل الرغبة، ويكرس نفسه بالكامل، من أجل تجويد أداة تحقيقها». ولعل كل من يقرؤه، وإن بقدر كبير من المتعة، وقدر غير يسير من العنت؛ لا يمكن إلا أن يتمثل بوصف سارتر له: «الصوفي الجديد، وبالشاعر بول إيلوار الذي يحفظ أبناء جيلنا قصيدته «حرية»؛ وينسون «حيوانه»
«العالم يضحك
سعيد هو العالم، فرحٌ مسرور
ينفتح الفم ويبسط جناحيه، ثم يقع
الأفواه الريقة تقع
الأفواه النخرة تقع
حيوان يضحك أيضاً
وهو يزف فرحَ حركته البهلوانية
في كل أنحاء الأرض
الزغب يتحرك، والصوف يرقص
والطيور ينسل ريشها
حيوان يضحك أيضا
ويقفز خارج نفسه
العالم يضحك
حيوان يضحك أيضاً
حيوان يهرب»
وما يحمد لباتاي، هو تمكنه بفطنة لافتة، واستئناسا بالعلاقات البدائية، بالمعنى الحصري للكلمة، بين الحيوان والحيوان، والإنسان والحيوان، من صياغة مفهوم مستجد للدين أو نظرية غير مطروقة أساسها سر التضحية في الديانات عامة والافريقية تخصيصا؛ بل في ما يتعلق بالإثارة الجنسية، أو تجربة الإنسان الباطنية حيث الحيوان وهو الكائن الحي يثير من الأسئلة ما يثير، سواء في ما يتعلق بعلم الحشرات وحياتها الاجتماعية، أو بعلم التشريح والطب، والفنون كلها مكتوبة أو مرئية.
هذا الهوس بالحيوان عند باتي، على نحو لا أعرفه عند غيره، ليس غائبا عن عمله الأدبي القصصي» مدام إدواردة» كما قد يتبادر إلى قارئه، فـ»الحيوانية» تجري في ثناياه؛ كما لو أنها مادة الشخصيات ولب أزمتها أو محنتها و»حطام سفينتها» ومدام إدواردة [المومس] ليست سوى: «الذئب الذي يقنعها، ويجعلها حيوانية… عارية كالحيوان»؛ وهي تقول: «كنت عارية، فظننت أنني وحصاني وحوش الغابة».
وقس على ذلك وصف الميت، حيث «المشهد، في بطئه، يستدعي ذبح خنزير أو قبر إله». وشخوص جورج باتاي في حياتهم الجنسية المنتهكة، حيث تضمر الرغبة، يغوصون بنا في هذه الحالة الحيوانية التي يتعذر وصفها على العقل. وهم من ثمة، يأخذون بأيدينا إلى لحظة التضحية بالحيوان، في عصور ما قبل التاريخ، بل إلى الأشكال الأولى من الفن. صحيح أن باتاي يذكر بهيجل وبمعلميه من الفلاسفة، لكنه يذهب بحدس الصوفي وحس المبدع أبعد؛ فهو لا يترسم التاريخ أو يستفتي الآثار وحسب، بل يتهجى سيرورة الإنسانية ذاتها، بل هو يضرب أبعد من عصور ما قبل التاريخ، ويوقفنا على فجر الإنسانية، حيث كان خيال الإنسان «بطيئا» أو لم يتهيأ له ما يفصل نفسه عن البشر. وفي هذه اللحظة العجيبة المراوغة، يكتشف باتاي معنى التضحية وسرها. مثلما تعري غزة حيوانية الإنسان «جيش الاحتلال» يعري باتي وكأنه شاهد عيان. هذا «الجوهر» الذي يتم إنكاره كما يفعل قادة إسرائيل من عتاة اليمين، وهو ليس سوى الحيوانية التي نحن البشر امتداد لها؛ وإن بنسب مختلفة، حيث تنتفي كل علاقة موضوعية سواء مع العالم أو مع الحيوانات الأخرى. فـ»كل حيوان هو في العالم مثل الماء في الماء».
وهو لا ينفصل عن هذا العالم، لأنه لا يدرك وجوده أو هو لا يعيه. وهذه «المحايثة» كما يقول أهل الفلسفة، إنما ندركها بشكل أفضل في العلاقة بين الحيوان والحيوان، حيث يفلت كلاهما من جدلية السيد والعبد؛ حيث يأكل الحيوان حيوانا آخر كما نرى في غزة، كما يأكل الإنسان «الجندي الإسرائيلي» ضحيته الفلسطينية. وفي هذا الاختلاف بين الحيوان والإنسان ما يسلط الضوء الساطع على الدين والتضحية. ولعل تحليل باتاي وهو في تقديري أشبه بـ»تشريح» للإنسان أو بقطع اللحم على العظم. والسؤال ونحن ننظر بعينيه هو: كيف يتخلص الإنسان من حيوانيته؟ نحن البشر نستخدم الأشياء، ثم نحولها إلى أدوات حقيقية، ونأكل الحيوان، لكن ليس بلا مبالاة، أو بشكل غريزي؛ إذ لو كنا كذلك، لخنا «أصلنا المخزي» فدون الوعي بموت الحيوان، نعود إلى الحيوانية. ولذا يحول الإنسان ما يأكله إلى شيء. «إن إعداد اللحم ليس في أساسه بحثا في مجال تذوق الطعام؛ وإنما يتعلق الأمر قبل كل شيء، بحقيقة مفادها أن الإنسان لا يأكل أي شيء قبل أن يصنع منه شيئا». واللافت في حرب الإبادة على غزة، أنه مثلما لا يوجد شيء محرم على الحيوان أبدا؛ فلا شيء محرم أو محظور على جند الاحتلال. والمحظورات تشمل أكثر ما تشمل ثلاثة مجالات: الموت والأكل والجنس. وفي هذا «الثالوث» إذا ما انتهك، ما يعيد الإنسان إلى حيوانيته أو يذكره بها.
والمحظورات تنشئ نظاما صارما من شأنه أن يذكر الإنسان بأنه هو نفسه قابل للاستهلاك. ومثلما «ينبغي للشجرة أن لا تخفي الغابة» فإن «الأضحية» أو «الضحية» هي قبل كل شيء مشهد، أو «فرجة» بل عملية «قتل مذهلة» كما نرى في غزة، حيث يرى المحتل في موت الفلسطيني أو في دمه، ما يصون حياته، سواء كان هذا الاعتقاد حقيقيا كما نرى في همجية المحتل، أو نفسيا أو دينيا بحتا. فالموت فقط (موت المضحى به) هو وحده الذي يمكن أن يفدي حياة المحتل. أما الحيوان فلا يرزح مثلنا تحت إرث الموتى، فإذا كان له ماض فهو ماضينا نحن قبل أن تمتد إلينا يد المجتمع، وتحفر صورتها في لحمنا. ربما جمعنا وإياه صباح غابر من أيام الخليقة، حيث كان درب يوحد بيننا نحن حيوانات الأرض وهذه الكائنات البكماء، رغم أن هذه القرابة قد نسيت ـ كما كتب طاغورـ منذ عهد سحيق، ولم يبق من ذلك الفردوس غير وشم في لغتنا هو هذه «المحاكية الصوتية» حيث الكلمات تحاكي أصوات الحيوان والطبيعة.
على أن حيوانية الإنسان، ليست حيوانية الحيوان إلا في هذه الحرب الهمجية، وحضور الحيوان فينا نحن البشر لم يكن مقطوعا عن جذور أنثروبولوجية تشد وجود الإنسان إلى وجود الحيوان. فقد تعلم الإنسانُ من الحيوانِ، وساعده ذلك على الاستقرار في المكان والانصراف إلى أعمال أخرى كجمع القوت؛ فالكلب الذي يدفن العظم، والسنجاب الذي يجمع الجوز، والنحل الذي يملأ الأقراص بالشهد، والنمل الذي يخزن الطعام لليوم المطير، إنما هي حيوانات يعود إليها بعض الفضل في إبداع الحضارة نفسها.
أما الحيوان في الديانات الوثنية أو في التوراة أو في القرآن، فمبحث مستقل بنفسه، إذ حظيت الحيوانات الأهلية الأليفة والوحشية، بمكانة مقدسة، في كل عبادات الشرق القديم. وكان لهذا أثره في الديانات التوحيدية مثل أساطير الحيوان التوراتي، وحيوانية الإله أو ألوهية الحيوان لوياثان، وعبادة الثور، والثور المجنح (الكيروب/ البراق) وأما ضحايا غزة وهم هؤلاء الفلسطينيون الذين تتقطع بهم السبل في أرضهم، مثلما هم هذه الحيوانات التائهة الهشة البكماء، وهي أشبه بقطعة لحم تندلق إلى الأرض، وتتدرج موكولة إلى هشاشتها في ذلك السديم الأول، نتوسل بالحركة والإيماءة أو بالبكاء كما نتوسل نحن البشر.
كاتب تونسي