ثقافة وفنون

الصحافة السرية في الجزائر… عندما ولد الإعلام في الخفاء

الصحافة السرية في الجزائر… عندما ولد الإعلام في الخفاء

سعيد خطيبي

أطالع نسخاً من جرائد ومجلات، صدرت في الجزائر عقب الاستقلال، وأدقق في أسماء الصحافيين التي تذيل المقالات، ثم أبحث عنهم في محركات البحث، من غير أن أعثر عنهم. سألت قدامى الصحافيين عنهم ونفوا معرفتهم. هذا أمر غريب! فالجيل الأول من الصحافيين، الذين عملوا في الجزائر، صاروا غير معروفين، كما أنه لا صور لهم.. ولا أثر يحيلنا إليهم. أسماؤهم باتت مجهولة، مع أن مقالاتهم كانت تظهر عليها أسماؤهم كاملة، بالاسم واللقب (أنور عبد العزيز، بوزيد قدور وغيرهم). استعنت بمراجع سياسية وأخرى إعلامية في البحث عنهم، من غير أن أبلغ مبتغاي. بدا لي الأمر مريبا، كيف يعقل أن صحافيين كانوا يوقعون مقالاتهم بأسمائهم الكاملة ثم يندثرون، أو تمحى ذاكرتهم وكأنهم لم يعيشوا معنا! أواصل البحث في مراجع أخرى قبل أن أبلغ ما غاب عني، أن الأسماء التي تداولت، في الصحافة الجزائرية، غداة الاستقلال إنما هي أسماء مستعارة. لقد ولدت الصحافة الجزائرية على يد أسماء مستعارة، لم نعد نعرف شيئاً عنها في الزمن الحالي. يبدو الأمر مثيرا للأسئلة، لأننا نتحدث عن حقبة البدايات، في زمن كان فيه من يوقع مقالاً يصير مشهوراً، فما هو السبب الذي جعلهم يخفون هوياتهم؟
من المتعارف عليه أن الجزائر كانت تحصي نسبة أمية عالية، عقب الاستقلال. وأشارت السلطة الناشئة آنذاك إلى أن 80% من الشعب (إجمالي 9 ملايين نسمة)، كانوا لا يقرؤون، وفي الغالب يتكلون على الراديو في سماع الأخبار. بينما كان الوضع كذلك، سارعت السلطة حينها في تأميم الجرائد الفرنسية، التي كانت تصدر في الجزائر، وفي إنشاء أخرى. ويتبادر السؤال: لماذا عجلت السلطة في تنويع الجرائد والمجلات وهي تعلم أن جل الشعب لا يقرأها؟ الجواب ببساطة أن الإعلام في الجرائد، ولد من أجل مخاطبة الخارج لا الداخل. من أجل مخاطبة الأجانب لا المواطنين. من أجل مخاطبة فرنسا وحلفاء البلد الآخرين، وإبلاغهم أن الجزائر في أحسن حال، فقد كان إعلاماً مسرفاً في مديح الاشتراكية والديمقراطية، لم يكن إعلاما يقوم على نشر الخبر أو الرأي، بل كان أقرب إلى «البرافدا» السوفييتية، في تغليب البروباغندا على الحق في المعلومة. وبما أن الجزائر كانت تداوي حالها من الأمية، فقد كان من النادر التوفر على صحافيين، لذلك بات من الملّح استقطاب صحافيين من الخارج، لاسيما من فرنسا (بحكم أن جل المطبوعات كانت تصدر بالفرنسية). ولكن استقطاب صحافيين أجانب لم يكن يخدم التوجه العام للحكومة، التي تقول إنها في أحسن حال، لذلك توصلت إلى فكرة: أن الصحافيين الأجانب يوقعون مقالاتهم بأسماء جزائرية. هكذا إذن ولدت الصحافة في الجزائر، على يد صحافيين فرنسيين، يتغاضون عن توقيع أسمائهم أدنى المقال، أو التوقيع باسم جزائري.
وحسب مصادر تاريخية أخرى، كانت توجد فرقة رقابة، تزور الجرائد، قبل أن تذهب النسخة إلى المطبعة، قصد التأكد من الأسماء التي وقعت مقالات، والاطمئنان على أنهم أسماء جزائرية، فعدد قليل ونادر من الفرنسيين من كان يسمح لهم بالتوقيع بأسمائهم الحقيقية، حصراً أولئك الفرنسيين الذين خدموا حرب التحرير، على غرار المحامي الشهير جاك فيرجاس، أو المناضل هنري علاق. وجرت تسمية أولئك الفرنسيين الذين أسسوا الصحافة، في البلاد، بتسمية (الأقدام الحمر)، وكلمة الحمراء تعود إلى أنهم من المنتسبين ـ في غالبيتهم ـ إلى الشيوعية، في زمن كانت فيه الجزائر تعلن نفسها خصماً للرأسمالية وللمعسكر الغربي.

التخلي عن الميراث
بعض الصحافيين الفرنسيين، الذين جاؤوا إلى الجزائر وعملوا فيها تحت أسماء مستعارة، سوف يصيرون من أعمدة الإعلام في فرنسا، بعدما استعادوا أسماءهم الحقيقية، على غرار هيرفي بورجس، الذي صار مديراً لشبكة التلفزيونات الفرنسية، أو آرنو سبير، الذي صار مدير جريدة (L’Humanité)، في باريس. بالتالي فإن المنفعة كانت متبادلة بين الطرفين، ساعدوا السلطة الناشئة، أوائل الستينيات في إنشاء صحافة لها، ثم استفادوا من مغامرتهم معها في خوض مسيرة حافلة عندما عادوا إلى فرنسا. وبدءاً من أوائل السبعينيات، سوف يجري التخلي عن الصحافيين الأجانب، شيئاً فشيئاً، واستخلافهم بصحافيين محليين. في البداية جرى استبعادهم من الكتابة في الشأن السياسي عن البلد، ثم تحييدهم عن المواضيع الاجتماعية، ولم تبق لهم سوى الكتابة عن الأحداث الدولية أو التعليق عليها، قبل أن تجري «جزأرة» قطاع الإعلام وتحويله إلى خصوصية جزائرية، بعدما نجحت الحكومة ـ نسبياً ـ في معركتها ضد الأمية، واستطاعت تكوين الأجيال الأولى من الصحافيين، الذين تخرجوا من جامعة الجزائر العاصمة.
ولكن في السنين الأخيرة يبدو أن الصحافة في الجزائر قد انقلبت على ميراثها، وتنازلت عن المكاسب التي حققها الجيل الأول، حيث صارت صحافة منغلقة على نفسها، من النادر أن نصادف صحافياً أجنبياً يعمل في مطبوعة جزائرية، وكأن الإعلام في مصاف القطاعات السيادية، مثل الطاقة أو الدفاع، وكأنه لا يجوز العمل فيها سوى لحاملي الهوية الجزائرية. عندما يغيب هذا التلاقح مع صحافيين أجانب، ومع كتاب أجانب، فمن المنطقي أن هذه الصحافة سوف تسير، بخطى ثابتة، إلى الانغلاق على نفسها، وذلك ما حصل بالفعل، حيث صارت الصحافة في البلاد تخاطب نفسها فحسب، في مونولوج مطول، بعدما فقدت الصلة مع القارئ أو تكاد. لأن القارئ في الجزائر صار يلتمس أخباراً عن بلده من قنوات وصحف أجنبية، أو من السوشيال ميديا، ولا يهتم إلا نادراً بالإعلام المحلي. وعلى رأي النكتة، فإن الناس لا يطالعون الجرائد المحلية، سوى في الاستقصاء على أحوال الطقس أو مواعيد الصلاة. عدا ذلك فقد خسرت هذه الصحافة موقعها، بعدما كانت تلعب دوراً في محو الأمية، وفي توطيد العلاقة بين المواطن والحكومة، وكانت هي النافذة التي تفيدها بما يحصل خلف الحدود.
هكذا هو الحال في الصحافة الجزائرية، بدأت حياة سرية، يشرف عليها صحافيون يوقعون مقالاتهم بأسماء مستعارة، كي لا ينفضح للناس أنهم من الأجانب، ثم انتهى بها الحال، في هذه السنوات، صحافة سرية كذلك، تصدر كل يوم ولا نعرف من يقرأها، لأن الناس مهتمون بقنوات وصحف أجنبية لا محلية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب