البحث العلمي وقضيتنا الفلسطينية

البحث العلمي وقضيتنا الفلسطينية
د. نادية هناوي
(اللي يعيش بالحيلة يموت بالفقر) مثل شعبي يتداوله العراقيون كثيرا، وهو ينطبق على الأفراد الذين يتخذون من الفهلوة والتدليس طريقا لصيد المكاسب واحتلال المناصب، وكما في كل الأمثال يمكن سحب المثل سالف الذكر على حالات أخر، فينطبق على تنظيمات وكيانات تتخذ الطريق ذاته لتحقيق مآربها المشبوهة، محتالة على العالم باختلاق الأكاذيب وافتراء البدع والضلالات.
والصهيونية أكثر الكيانات المصنوعة بالحيلة والدهاء، أقامت بنيان دولتها المزعومة على أحابيل ليست لها أدنى مشروعية دينية أو تاريخية أو أنثروبولوجية أو جغرافية أو قومية أو ديموغرافية؛ وإنما هي اعتقادات خاطئة روّجتها الدوائر الصهيونية بشكل ممنهج وبمغالطات كبرى محبوكة بدهاء ومكر كبيرين، صارت من كثرة تكرارها على مدى قرن ونيف وكأنها حقائق لا تقبل الجدل بالنسبة إليها وإلى الغرب المضَلَل بها. وكل ذلك جرى ويجري على حساب الشعب الفلسطيني ومشروعية كفاحه من أجل العودة إلى أرضه واسترداد حقوقه. ولقد ساعدت ماكينةُ الإعلام الامبريالية الصهاينةَ وشاركتهم فعل الاحتيال والتزييف وخداع الرأي العام العالمي. وهنا يبرز دور مؤسسات ومراكز البحث العلمي في تفنيد المزاعم وفضحها وتعرية الأباطيل أيا كان شكلها ومهما تقادمت عهودها.
غير أن البادي على مؤسسات البحث العلمي في عالمنا العربي قصر باعها فيما تقدمه من دور في هذا المجال بالقياس إلى هول ما تضخه الصهيونية من أفكار مضللة.
ولا تتأتى محدودية البحث العلمي العربي من ناحية ضآلة عدد المختصين بدراسة الشأن الفلسطيني دراسة علمية على وفق منهجيات دقيقة وأساليب موضوعية، وإنما أيضا من ناحية تراجع البحث العلمي بسبب ندرة الدعم المعنوي وقلة التخصيصات على المستويين الجامعي وغير الجامعي. هذا إلى جانب ما اعتاده الباحث العربي من اطمئنان إلى اتباعية البحث العلمي الغربي والاعتياد على موضوعات معينة وبمناهج أحادية في الغالب.
وما من توجه ملموس لدى باحثينا العرب نحو الإفادة من دمج العلوم بالآداب والاهتمام بتوظيف التعدد الاختصاصي في كشف الأباطيل، بل المعتاد الاعتماد على تخصصين هما السياسة والتاريخ، بينما تغيب علوم أخرى عن الاهتمام مثل الجغرافيا والاقتصاد والأنثروبولوجيا والاجتماع والنفس والبيئة واللغة وعلم السرد وعلم الجمال فضلا عن حقول الفكر والثقافة والفلسفة والنقد الأدبي. وبمستطاع هذه الميادين مجتمعة أن تجعل البحث العلمي سلاحا مهما في مواجهة اللوبي الصهيوني.
وإذا كان ميدان البحث العلمي غير الجامعي هو الأنشط والأكثر حضورا على الصعيد الثقافي، فآن له أن يوجه جهوده باتجاه تعددي علمي وموضوعي يدرس عبره الظاهرة الصهيونية دراسة معمقة، تكشف الحقائق وتغرس الوعي بعدالة القضية الفلسطينية وتفتح علاوة على ذلك آفاقا جديدة أمام الباحثين وتشجعهم على أن ينساقوا إليها وينخرطوا فيها. ولقد سار على هذا الطريق ثلة من الباحثين العرب في القرن الماضي واستطاعوا تأسيس قواعد علمية باقتدار في وقت كانت التهديدات والاغتيالات تطال كل من يدعم النضال ضد الصهيونية أو يقف إلى جانب المقاومة الفلسطينية من الصحافيين والأساتذة الجامعيين والأدباء والباحثين. خذ مثلا غسان كنفاني والجامعي باسل الكبيسي والصحافي وديع حداد والمهندس فادي البطش وليس انتهاء بإدوارد سعيد الذي واجه كثيرا من الضغوط وتعرض مكتبه لعمليات تخريب ووصل الأمر إلى تهديده وأفراد عائلته بالقتل. وعلى الرغم من ذلك، فإنه استمر يواصل البحث العلمي معريا مزاعم الصهاينة واستطاع أن يصنع منها أداة عاضدت الأدوات الأخرى الموجهة لنصرة قضيتنا العادلة.
وسنضرب مثلا بالأنثروبولوجيا كحقل معرفي يمكن توظيف مفاهيمه ونظرياته في كشف حقائق زيفتها الصهيونية. وهو ما كان الدكتور جمال حمدان قد قام به في منتصف ثمانينيات القرن الماضي بكتابه «اليهود أنثروبولوجياً»، وفيه تمكن من تعرية أباطيل الصهيونية وأوهامها التي بها خدعت العالم. ومنها ستة فنّدها حمدان، وأولها وأكثرها بروزا النظر إلى اضطهاد اليهود على أنه معاداة للسامية بينما الحقيقة ببساطة وبلا تعقيد هي كراهية اليهودي وما اضطهاد النازية لليهود في ألمانيا سوى اضطهاد الألمان للألمان. والمغالطة الثانية قرابة الدم بين العرب واليهود. والحقيقة الأنثروبولوجية هي أنها كانت كذلك في زمن ماض هو زمن الأنبياء لكن القرابة انحلت فيما بعد فاختفى يهود التوراة وذاب اليهود وأصبحوا قوما غرباء لا علاقة لهم بإسحق فضلا عن إسماعيل. أما يهود العصر الحديث فهم أقارب الأوروبيين والأمريكيين لحما ودما. والمغالطة الثالثة الادعاء بأن اليهود شعب وقومية ولهم أرض موعودة في فلسطين والحقيقة أن اليهودية طائفة دينية تتألف من أخلاط لا علاقة لهم انثروبولوجيًا بفلسطين.
المغالطة الرابعة أن اليهود أصحاب أرض وزراعة بينما هم سكان مدن و(طفيليات عواصم بالتفضيل والامتياز). وعزز حمدان آراءه بإحصائيات سكانية في شكل جداول ألحقها بكتابه مؤكدا أن الدولة التي تسمى إسرائيل هي (حثالة مدن العالم انصبت واستقطبت في دولة) ص113، و(ليس في العالم كله مجتمع يهودي زراعي واحد يستحق الذكر كما لا يُعرف في التاريخ الحديث أن اليهودي ارتبط بالزراعة.. والاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة لا يعرفان يهوديا واحدا من عمال المناجم. وقديما كانت كلمة اليهودي مرادفة لكلمة التاجر.. وحديثا اقترنت بوظائف الطب والمحاماة والصحافة..) ص115.
المغالطة الخامسة أن اضطهاد الآخرين لليهود جعلهم يعيشون في غيتوهات في حين أن الغيتو هو اختيارهم الذاتي في العيش بطريقة العزل السكاني كقانون يتبعه اليهودي في أية مدينة يسكن فيها. أما لماذا الغيتو من صنع اليهود أنفسهم فلسعيهم (كأقلية مسحوقة إلى التركز والاحتشاد في نقطة واحدة ضمانا للحماية في حظيرة واحدة.. مسورة داخل مدن الشتات) ص118-119. المغالطة السادسة ادعاء نقاوة الأصل أو تجانس السلالة وهذا محض خرافة إذ لا أساس علميا له وإنما هو من صنع اليهود ونتيجة لإحساسهم الطائفي وشعورهم المتضخم بكيانهم الديني. واستند حمدان إلى الدراسات السيرولوجية (علم الأمصال) وما جاءت به أبحاث المستشرقين مثل رينان ودالبي وربلي وأشلي مونتغيو وأبحاث البيولوجيين مثل جوليان هكسلي في إثبات أن اليهود مختلطون جنسيا ومنحدرون من أصول متنوعة. ولذلك يبدون فيما بينهم معدل تفاوت كبير جدا في فئات الدم ما ينفي تجانس الأصل ويؤكد عمق انفصالهم جنسيا عن الأصل القديم. ونسوق من عندنا مثالا قويا على ذلك هو أن في نسل هتلر -عدوهم اللدود- دماء يهودية.
ودلل حمدان كيف أن اليهود حاولوا الإفادة من فكرة النقاوة المزعومة في توجيه أنظار العالم إليهم بوصفهم مضطهدين وحسب ما يناسب أغراضهم، ففي أيام النازية ادعوا أن أصلهم آري ونوردي كي يفلتوا من العقاب ولكنهم بعد اغتصاب فلسطين صاروا يدعون أنهم ساميون.
إن هذه المغالطات وغيرها هي احتيال ودجل، بها تحولت الصهيونية من كيان هجين إلى دولة تأسست من الخيال وبنزعة العزلة وروح الانفراد والمتاجرة بالاضطهاد. ولعل أهم توصلات حمدان الأنثروبولوجية هي «أن فكرة خلق إسرائيل هي فكرة الغيتو بحذافيرها ولكن على مقياس مجمع كبير» و«أن اليهود اليوم ليسوا من بني إسرائيل وأن هؤلاء شيء وأولئك شيء آخر أنثربولوجيا ولا رابطة بين الطرفين إلا الدين والدين فقط».
وإذا عدنا إلى راهن البحث العلمي العربي لوجدناه يحتاج إلى تطوير أدواته وضرورة أن تندمج تخصصاته وتتعمق فرعيات كل تخصص؛ فعلم الاجتماع مثلا يحوي علوما فرعية يمكن تسخيرها لهذا الغرض كعلم اجتماع المعرفة ويعني البحث في دراسة علاقة الأفكار بالمجتمع وتبلور العقائد والأيديولوجيات بين مجموعة أفراد يكونون لأنفسهم من خلالها جماعة ذات رؤية وموقف سلوكي خاص. ومن هنا تبرز أهمية هذا العلم في تحليل أوهام قيام دولة الكيان الخيالية. ويعد كتاب «الأيديولوجية الصهيونية» للدكتور عبد الوهاب المسيري مثالا مهما لهذا النوع من التخصصات الفرعية. أما أبحاث إدوارد سعيد فخير مثال على توظيف التعدد الاختصاصي في تعرية أباطيل الصهيونية، فكان يجمع بين التاريخ القديم والحديث والنقد الأدبي والجغرافية السياسية والديموغرافية والميثولوجيا والدراسات الثقافية والواقعية السوسيولوجية بكتبه (دفاعا عن الإسلام/ القضية الفلسطينية والمجتمع الأمريكي / النص والعالم والناقد/ مسألة فلسطين – الذي قدمنا وترجمنا بعضا من فصوله ونشرت في جريدة الصباح العراقية).
وتعد الظروف الحالية مواتية تماما لأن يكون البحث العلمي سلاحا مهما إلى جانب الأسلحة الأخرى ومنها البترول الذي لم يفعَّل في دعم غزة خاصة وفلسطين عامة. وللمجلات ذات الصيت والإمكانيات أن تساهم في زيادة وتيرة البحث العلمي بما تعده من ملفات وندوات واستكتابات تساهم من خلالها في توجيه جهود الباحثين العرب على هذا النهج. وسواء بهذا أو بدونه، فإن الأباطيل والحيل لن تدوم للأبد، ولا بد أن تنكشف الخديعة ذات يوم. وما يفعله البحث العلمي هو أنه يسرِّع بلوغ ذلك اليوم، وعندها سيموت المخادع فقيرا كما يقول المثل العراقي «اللي يعيش بالحيلة يموت بالفقر».
*كاتبة من العراق