ورطة العالم مع ترف الانتخابات
ورطة العالم مع ترف الانتخابات
توفيق رباحي
ستشهد 2024 عددا كبيرا من الانتخابات عبر العالم قد يجعل منها سنة استثنائية في التاريخ المعاصر.
صدفة عجيبة تشبه الظواهر الفلكية النادرة. مع نهاية هذا العام سيكون ما يقارب نصف سكان الكرة الأرضية يعيشون في عشرات الدول قد توجهوا إلى صناديق الاقتراع. سيشهد العالم أشكالا متنوعة من الانتخابات.. رئاسية ونيابية ومحلية وقارية كما هو حال التصويت في انتخابات البرلمان الأوروبي.
ضمن قائمة الدول التي نظمت (أو ستنظم) انتخابات هذا العام عدد من أكبر بلدان العالم وأقوى اقتصاداته: الولايات المتحدة، روسيا، فرنسا، بريطانيا، البرازيل. وهناك قائمة طويلة أخرى.. الأرجنتين، جنوب إفريقيا، الهند، كوريا الشمالية، إندونيسيا، باكستان، الجزائر، سوريا، المكسيك، سلوفاكيا، السلفادور، تونس، كوريا الجنوبية، السينغال، بنغلاديش، جورجيا، إيران، غانا ودول أخرى.
التأمل في قائمة الدول هذه يحيل إلى توزعها الجغرافي عبر قارات العالم، بالإضافة إلى توزعها بين ما يسمى الدول النامية، والقوى الصاعدة ثم تلك المصنَّفة كأقوى بلدان العالم اقتصاديا وعسكريا.
في بداية العام الجاري نشرت وكالة أسوشيتد برس تقريرا بعنوان «2024 سنة الانتخابات التي ستغيّر العالم». ما لم تذكره الوكالة هو أيّ وجهة سيأخذها التغيير المرتقب. وسط الحروب والمجاعات والكوارث الطبيعية والصراعات الأهلية، قد يبدو هذا الكم الهائل من الانتخابات مدعاة للتفاؤل وعلامة على أن العالم بخير وأن البشرية، أو جزءا معتبرا منها على الأقل، تعيش ترفا يُتوِّجه حق التصويت في الانتخابات. لكن منذ متى كان التصويت في أيّ اقتراع مرادفا للكرامة والحرية؟ ومنذ متى كان تنظيم انتخابات يعني بالضرورة أنها حرة ونزيهة ونتائجها محترمة؟
هناك دول ابتُليت بكل شيء وخسرت الكثير، لكنها تحتفظ بإصرار عجيب على تنظيم الانتخابات، مثل باكستان وبنغلاديش.
وهناك شعوب أصبحت تخشى عواقب الانتخابات. ودول أخرى اقتربت من حافة الحرب الأهلية بسبب نتائج الانتخابات، مثلما هو حال البرازيل إثر رفض الرئيس جايير بولسونارو تسليم الرئاسة للفائز لولا دوسيلفا. فرنسا تتجه نحو المزيد من التمزق الاجتماعي أيًّا كانت النتيجة النهائية لانتخابات الأحد الماضي والأحد المقبل. الولايات المتحدة ليست في مأمن من هذه المخاوف إذ لا أحد يعرف ماذا سيحدث إذا خسر المرشح دونالد ترامب انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
من ميزات الواقع الذي بلغه العالم انقراض الحياء السياسي لدى الذين يمسكون بزمام الحكم والقرار. قبل عقدين أو ثلاثة كان المسؤول الغربي يتنحى إراديا لمجرد الاشتباه في أنه أخطأ، ثم ينتظر التحقيق والمساءلة
من المؤسف أنه لا يوجد ما يؤشر إلى أن العالم يتجه نحو استقرار وسلام أكبر. والدليل أن سنة 2024 دخلت نصفها الثاني ولا شيء يوحي بأن الانتخابات سارت بالبلدان والشعوب التي نظمتها حتى الآن نحو واقع أفضل. ولا يبدو أن الانتخابات التي جرت هنا وهناك عبر العالم حتى الآن غيّرت الدول التي نظمتها نحو الأفضل. عدا استثناءات قليلة، كما هو حال السينغال، المشهد مقسَّم بين تكريس الواقع الموجود، السيئ أصلا، أو استبداله بمشهد ليس أفضل منه.
المشكلة أن ترف الكمّ في التصويت يقابله ضيق في الخيارات وقلة البدائل. الشعوب مجبرة على الاختيار بين السيئ والأسوأ، الفاشل والأكثر فشلا: لا أدري ماذا ارتكب الأمريكيون حتى ينتهي بهم المطاف مجبرين على الاختيار بين مرشحَين في أرذل العمر أحدهما نرجسي لا يؤتمن جانبه وآخر فاقد لقدراته الذهنية والبدنية. البريطانيون لا خيار لهم غير المحافظين أو العمال (وجهان لقطعة واحدة). الأرجنتينيون انتخبوا شعبويا متطرفا رئيسا لبلادهم. الروس مدعوون لتحمل فلاديمير بوتين ست سنوات أخرى.. إلخ.
العبرة من هذا الانسداد أن الديمقراطية وطرق الحكم التي عرفها العالم خلال السبعين عاما الماضية بلغت مداها فأصبحت تُنتج الفوضى السياسية التي نشاهد الآن.
من ملامح وصول قطار الديمقراطية إلى نهايته كفر الشعوب بالمؤسسات. ونتيجة ذلك هيمنة أحزاب اليمين ووصول أشخاص من خارج الإطار المؤسساتي المتعارف عليه، بعضهم بلا خبرة أو علم، إلى أعلى مناصب المسؤولية. ومن ملامح النهاية (ونتائجها أيضا) عجز المؤسسات عن إنتاج قادة عظماء من فصيلة الذين عرفهم العالم بعد الحرب العالمية الثانية.
المحصلة أن من ميزات الواقع الذي بلغه العالم انقراض الحياء السياسي لدى الذين يمسكون بزمام الحكم والقرار. قبل عقدين أو ثلاثة كان المسؤول الغربي يتنحى إراديا لمجرد الاشتباه في أنه أخطأ وأساء استعمال منصبه، ثم ينتظر التحقيق والمساءلة. اليوم يتمسك المسؤول بمنصبه وعندما ينتهي التحقيق والمساءلة يبدأ رحلة التفنيد والتشكيك ولعب دور الضحية بلا أدنى حياء. لا فرق بين مستبد في دولة ديكتاتورية متخلفة وحاكم منتخب في دولة غربية تُصنَّف متقدمة وديمقراطية. تمسُّك رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بوريس جونسون بمنصبه إلى آخر رمق رغم الفضائح التي لاحقته في قضية حفلات رئاسة الوزراء في ذروة جائحة كورونا والبريطانيون يموتون بالمئات يوميا، نموذج صارخ على انقراض الحياء السياسي وقيم الحكم. جونسون ليس وحده.
انهيار منظومة قيَم الحكم الغربية تُلمس أيضا في هيمنة المال على صاحب القرار في ما يشبه صفقة بالتراضي، لا الأول يستحي ولا الثاني منزعج. إيلون ماسك لا يجد غضاضة في التأخر على مواعيد مع كبار قادة العالم وازدرائهم. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يدير بلاده كأنه رئيس مجلس إدارة شركة ذات أسهم ويتعامل مع رؤساء كبريات شركات التكنولوجيا كأنهم مستشاروه.
الذين يقودون العالم ويتحكمون في مصيره أعادوا تشكيله جذريا وغيّروا البشرية في العمق. لكنه تغيير ليس بالضرورة نحو الأفضل.
لقد أصبحت الانتخابات مشكلة للدول. تنظيمها مشكلة والتهرب منها مشكلة أكبر. وأصبحت مشكلة للشعوب كذلك.. المشاركة فيها مشكلة ومقاطعتها مشكلة أخرى. العالم الآن في مرحلة لاجدوى الانتخابات، وقريبا ستكون مرحلة الانتخابات الضارة والخطيرة على المجتمعات.
سيأتي يوم (غير بعيد) نتابع فيه انقلابات في دول ديمقراطية كنا نعتبرها نموذجية. ليس ضروريا أن تقتحم الدبابات القصر الرئاسي ومبنى البث التلفزيوني كما هو الحال في إفريقيا وأمريكا اللاتينية. وليس الهدف بالضرورة نزع الحاكم ثم إعدامه أو وضعه في السجن حتى يتعفن. الانقلابات تطورت هي الأخرى وأخذت أشكالا تناسب العصر، بعضها (العصري منها) «صوفت» غرضه البقاء في الحكم أو منع تغييره وسط التصفيق والترحاب ودون أن تسيل قطرة دم واحدة.
كاتب صحافي جزائري
كاتب وإعلامي من الجزائر