ثقافة وفنون

بين الجزائر وفرنسا: بحر محبة وسحابة عداوة

بين الجزائر وفرنسا: بحر محبة وسحابة عداوة

سعيد خطيبي

خلف سحابة العداوة، التي تعكر العلاقة بين الجزائر وفرنسا، بين الفينة والأخرى، ينتصب تاريخ من العلاقات الصلبة بين الطرفين، يتبادلان فيها الأدوار، فكل واحد منهما يوطد علاقته مع الآخر، ومهما طرأت من عداوة فإن الحلاوة ستجمع بينهما في النهاية. في الغالب يجري التأريخ للعلاقات بين الجزائر وفرنسا إلى عام 1830، في العام الذي وصلت فيه الحملة الكولونيالية واستمرت ما يربو على قرن وثلاثين سنة، لكنه تاريخ مبتور من الواقع، فالعلاقة مع فرنسا تعود إلى أبعد من ذلك التاريخ، تعود إلى القرن السادس عشر، عندما أنشأ الفرنسيون حصناً في ساحل القالة (شرق البلاد) وانشغلوا باستثمار المرجان والمتاجرة فيه، ثم تحويله إلى مارسيليا. هذه اللحظة التاريخية المجهولة تتحدث عنها الكاتبة زهرة كشاوي في روايتها الأخيرة «مدن المرجان» (2023) وتفتح في عملها باباً مجهولاً من العلاقات القديمة بين البلدين. وإن كان التاريخ الفرنسي في الجزائر شابه الكثير من الألم والجروح، إثر الاحتلال ثم حرب التحرير، فلا بد من أن نذكر أن الجزائر كانت سبباً في سقوط الجمهورية الفرنسية الرابعة وقيام الجمهورية الخامسة، والسبب يعود إلى حرب التحرير نفسها، هذه الحرب كانت سبباً في سقوط ست حكومات متتالية في باريس. وعندما استقلت البلاد في 1962، وجدت نفسها بلا خبرات، فاستعانت بالفرنسيين، ووصل ما يقرب من 30 ألف فرنسي، اشتغلوا في التعليم والإدارة. أما الدولة الناشئة في الجزائر، عقب التحرر، فقد اقتبست الطريقة اليعقوبية في الحكم كما طبقها الفرنسيون، نظام يقوم على فصل السلطات وعلى التكنوقراطية والبيروقراطية، نظام المركزية، تماماً كما عليه الحال في فرنسا، واستلهمت الجزائر بعض قوانينها الداخلية من الأنظمة والقوانين في فرنسا، كذلك استعانت فرنسا من سنوات وجودها في الجزائر وطورت قوانينها. مثلاً قانون حالة الطوارئ، كما يعرفه الفرنسيون، والذي جرى تطبيقه في عام 2015، عقب اعتداءات إرهابية، هو قانون مستلهم من التجربة الفرنسية سنوات حرب الجزائر. بالتالي، عندما نقارن بين الحالتين الفرنسية والجزائرية، نجد تطابقاً بينهما، في الكثير من المفاصل، والخلافات بين الطرفين لا تعدو أكثر من لحظات عابرة في تاريخهما.

من عمال في مصانع إلى عمال في ملاعب الكرة

عقب الاستقلال، شهدت فرنسا موجة من هجرة الجزائريين إلى فرنسا. فالبلد كان قد خرج لتوه من الاستعمار، لا يتيح مناصب عمل ولا مستقبلاً للشباب، كان بلداً قيد الإنشاء، ووصل إلى فرنسا ما يقرب من 3 ملايين عامل، غالبيتهم من الجزائريين، مستفيدين من قانون التعاون بين البلدين، من حرية التنقل بينهما، وحسب إحصائيات فإن ثلث العمال في ورشات البناء كانوا من الجزائريين، وكذلك في المصانع وفي قطاع الخدمات. وفي نهاية الستينيات من القرن الماضي، اندلع ما اصطلح عليه أحداث مايو/أيار 1968، وهي أحداث شهدت انقلاباً اجتماعياً في فرنسا، ساد فيه العصيان والاحتجاجات والاضرابات والاستيلاء على مؤسسات حكومية، كانت ثورة ضد الأنظمة الاجتماعية القديمة، في تلك الأثناء كان هواري بومدين يرأس الجزائر. وخشي أن تصل حمى الغضب إلى الجزائر.
كان الناس يخرجون إلى الشارع، في الصباح، وأعين الأمن ترصدهم. تقوم الشرطة بحلق شعر كل شاب تظهر عليه ملامح التشبه بالغاضبين في فرنسا. كل من يطيل شعره أو يلبس سراويل الجينز، كان محل شبهة. ظن البعض أن الأمر يتعلق بحفظ الأخلاق وحماية الأعراف، لكن القضية كانت سياسية. اهتزت الأرض في فرنسا عقب مايو 1968، لكن الارتجاجات وصلت إلى الجزائر، وكانت الشرطة تلاحق كل من يتشبه بالمحتجين في الضفة الأخرى، خوفاً من أن تمتد الإضرابات إلى الداخل. لم تكن الجزائر من يتأثر بما يحدث في فرنسا، بل كانت العملية في الاتجاه الآخر كذلك، فعندما اندلعت العشرية السوداء، وقعت الاعتداءات في فرنسا أيضاً، وقادت الجماعة الإسلامية المسلحة (أو ما يطلق عليها: الجيا) عمليات إرهابية في باريس، لا سيما في عام 1995، وقبل ذلك التاريخ بستة أشهر، تورطت تلك الجماعة في محاولة اختطاف طائرة تتبع الخطوط الجوية الفرنسية. هذه كانت بعض اللحظات القاتمة في التاريخ المتبادل بين البلدين، لكن عام 1998، عندما سجل زين الدين زيدان هدفين، في نهائي كأس العالم، انفتح تاريخ آخر. زيدان سجل في فرنسا، والناس احتفلت في الجزائر. ولا تزال الكرة رابطاً قوياً بين الطرفين. فالجزائريون يطالبون بحقهم من دم كيليان مبابي. وفي الثقافة كانت فرنسا ولا تزال عتبة مهمة للفنانين والكتاب القادمين من الجزائر. الرواية الجزائرية الحديثة خرجت من مطابع فرنسية، وموسيقى الراي صعدت في سلم العالم، عندما صدرت تسجيلات من فرنسا، والخط بين البلدين، في شؤون السينما، لم ينقطع ولا تزال أعمال مشتركة تصدر كل مرة.

خلافات تحت الطاولة أو في العلن

في الجزائر يوجد ما لا يقل عن 30 ألف مقيم يحملون الجنسية الفرنسية، بينما الجزائريون في فرنسا، يقدر عددهم بالملايين، كما أن اللغة الفرنسية لا تزال تحظى بمكانة أساسية، في الشارع كما في الإعلام، تصدر الجريدة الرسمية بالفرنسية كذلك، والوثائق الشخصية مثل جواز السفر للمواطن الجزائري يكتب أيضاً بالفرنسية، وعلى الرغم من الخلافات التاريخية بين البلدين، في الماضي، فإن العلاقة لم تنقطع، بل هي في تصاعد بغض النظر عن سوء الفهم الذي يطرأ، من حين لآخر، بشكل علني أو تحت الطاولة. لقد تجاوز الطرفان حقبة الاستعمار، مع أننا في الجزائر لا نزال نلاحظ من يستعين بتلك الحقبة في تصفية حساب مع الفرنسيين، والحال نفسه في فرنسا، لا تزال هناك مجموعات صغيرة تتحدث عن جزائر فرنسية، وعن حنينها إلى الماضي، لكن الثابت أن الوصل بين الطرفين يشهد تطوراً، على أكثر من مجال، والمتحول هو الخلافات الموسمية، التي سرعان ما يجري دفنها.

كاتب جزائري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب