“تلات ستات… سيرة من ليالي القاهرة”: كيف تتحول الكتب إلى عدو للسلطة في مصر؟
“تلات ستات… سيرة من ليالي القاهرة”: كيف تتحول الكتب إلى عدو للسلطة في مصر؟
محمد عبد الرحيم
عرضت دار المرايا لمداهمة من قبل الأمن المصري، حيث صودرت بعض مطبوعاتها بدعوى التهرّب الضريبي. الحقيقة أن المداهمة جاءت بعد نشر الدار لديوان “كيرلي” لأحمد دومة، الذي طالبت بعض الجهات بمصادرته مؤخراً. جاءت المداهمة بعد أقل من ساعة من انتهاء ندوة حول كتاب “تلات ستات.. سيرة من ليالي القاهرة”، والتي سنستعرض بعضاً من تفاصيلها ونناقش الكتاب ذاته.
يتناول الكتاب بعضا من تفاصيل سيرة ثلاث سيدات مختلفات من بائعات الهوى ـ تعبير أكثر رومانتيكية ـ أو وفق المصطلح الذي تم اعتماده مؤخراً حتى يليق بالتنوير ما بعد الحداثي (عاملات الجنس). صاغ التجارب كل من الكاتبين محمد العريان وعمر سعيد. وشارك في الندوة الناقدة والأكاديمية نيفين النصيري، الكاتبة الصحافية داليا شمس، والمحلل الاقتصادي وائل جمال.
العديد من الأسئلة
بدأت الحديث الكاتبة الصحافية داليا شمس، موضحة بعض النقاط التي جاءت في مقدمة الكتاب، بأنه كان في الأساس مشروعا صحافيا وفيلما وثائقيا، ولكن المؤلفين استقرا على أن يكون الشكل النهائي في كتاب وعبارة عن سرد مرئي، دون الانشغال بفكرة التصنيف، من حيث كونه سيرة أو أدبا محضا، فهو يتخذ من الوقائع والحقائق معياراً بالأساس، وما الخيال إلا كسياق أدبي يمكن سرد الأحداث من خلاله. وتتواتر أسئلة شمس إلى مؤلفي العمل.. لماذا اقتصر الموضوع على السيدات الثلاث؟ وهل تم دمج عدة تفاصيل من نماذج متشابهة في تجربة هؤلاء فقط؟ وكيف كانت رحلة الثقة التي جعلتهن يتحدثن بكل هذه الصراحة؟
رحلة ثقة
أجاب عمر سعيد قائلاً، إن الوصول إلى شخصيات الكتاب لم يكن بالأمر الهين، وقد أخذ البحث عنهن والاستقرار عليهن عدة أشهر. فالنساء الثلاث يمثلن ـ رغم كونهن من طبقات مسحوقة ـ (هو قال كده ) نماذج مختلفة .. “عفاف” التي عملت خارج مصر لفترة، و”سمرا” فتاة من الصعيد، جاءت إلى القاهرة، وعاشت فترة كطفلة شوارع، ثم استقرت أخيراً في مهنتها، وأخيراً “انشراح” وهي امرأة ستينية. وهذه الاسماء مستعارة، وليست حقيقية. وبالفعل كان هناك خمسة نماذج، ولكن هؤلاء كان لديهن الرغبة في الحديث وسرد حكاياتهن. مع ملاحظة أن الإضافات التي قمنا بها كانت محدودة للغاية، فقط لتوضيح السياق الذي تُحكى فيه القصة. واستكمل محمد العريان الإجابة عن التساؤلات، موضحاً أن فكرة الحديث بصراحة معهما ــ المؤلفان ــ مرّ عبر عدة مراحل، وقد وضحنا لهن في البداية أننا لا نمتلك أي حُكم أخلاقي، وهذا ما حقق حالة من التقارب بيننا وبينهن، مع ملاحظة أنهن في الأساس يُردن الحكي. ومن ناحيته ـ كمحلل اقتصادي ـ يرى وائل جمال أن الأمثلة الثلاثة مرتبطة بالظروف الاجتماعية، التي تعكس الظرف الاقتصادي والسياسي، فالاحتياج المادي هو السبب، ووطأة الآثار الاقتصادية على النساء أكثر، فهناك مسؤولية اقتصادية يقمن بها بديلاً عن الرجال في الأغلب.
في صحة الهامش
وترى الناقدة والأكاديمية نيفين النصيري أن الموضوع أكثر تعقيداً، سواء في مجتمعات تقليدية أو متحررة. ورغم أن هناك تفاصيل عادية.. ظرفا اقتصاديا أو قصة حب هي سبب هذا التحول في حياتهن، فإن هناك تفاصيل دقيقة تخص كل شخصية على حدة. كذلك يبدو الوصف التفصيلي لـ(الأباحة) مفيدا في عملية التلقي والاستجابة، لأنه سيفسر العالم من حوله، من خلال بُعد أكبر هو السياسي، وقبله الاقتصادي، بمعنى.. (صوت يُعبّر عن نفسه) ـ هنا كان لا بد من الناقدة الاستشهاد بعنوان كتاب غاياتري سبيفاك هل يستطيع التابع أن يتكلم؟ بما أن فيه صوتا وهامشا، وكل المصطلحات المعهودة في مثل هذه الجلسات أو القعدات ـ وهي حالة يمكن أن نطلق عليها (التمكين) من الحديث، أو صوت يتحدث، وبذلك يصبح جزءا من التاريخ العام، من خلال ذوات لها مكانتها، بخلاف الأبطال التقليديين المحافظين على الأعراف، وهو ما يتخطى المنظور القومي النخبوي المتواطئ مع السياسة الرسمية. ومع إني مش فاهم أي حاجة، بس خلص الكلام. نشوف الكتاب بقى بعيداً عن أصحاب الليلة وكل ليلة.
إخراج هزيل
(عفاف).. رحلة طويلة تقطعها عفاف التي تتجول الآن في شواع وسط البلد وهي ترتدي النقاب، حتى لا يتعرّف عليها أحد. نبدأ من حلوان، أسرة كبيرة، والبنت تحلم بتفصيل الملابس، وتتقنها كمهنة أولى، لم تقرب المدارس، لكن أهلها اقتربوها، أب ينام مع أختها الكبرى أمام أمها، وشقيق يلتصق بها ليلاً، ويحاول النوم معها بعد زواجها، وهو رَد سجون شهير. المهم.. زواج وطلاق، ثم زواج وطلاق، ومساومة بالنوم مع آخرين، والسفر إلى ليبيا، والعمل هناك تحت حماية ضابط شرطة، والزواج من زبون مصري، وقيام الثورة الليبية، والعودة وقد استقرت الأمور، وأصبحت عفاف جدّة الآن. في هذه الحكاية التي صاغها عمر سعيد نجدها تخلصت من آفة البلاغة والتهويمات الخيالية، ونماذج الإبداع الروائي ما بعد الحداثي، التي ضربت الحكايتين الأخريين.
إنشراح
“أشعر بأني كطير ينتقل من غيط لآخر ومن شجرة لأخرى طوال النهار، يجمع الطعام وحينما يستعد للأكل يُطيّر الهواء الحبوب، أعمل طوال سنين وأموالي جزء لرجب، وجزء لأمي وجزء لأولادي. أنا الجاموسة الحلوب، أنا الست اللي بتعرف تتصرف كما تتباهى أمي، أنا الجائعة التي تتمنى أن تكون مسؤولة من أحد يهتم بها”. (إنشراح).. بكالوريوس تجارة، موظفة في شركة، تعرف أنها جميلة، وأمها أيضاً تعرف ذلك، وتستغلها حتى تسير الأمور. فبعدما يتم رفد والدها لخطأ لم يرتكبه، تذهب ابنته معه بعد تحريض أمها، وبالفعل تعد مديره بعلاقة ما ـ هي متزوجة وطالما تقتسم النقود مع زوجها فلا توجد مشاكل ـ استند المنظرون الثقافيون والاقتصاديون في الندوة إلى حالة (إنشراح) بالذات، لما في حكايتها من مبررات لسوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية. المهم تتقلب المرأة في علاقات لا تنتهي ـ برغبتها أحياناً وبالإكراه في الغالب ـ من زملاء العمل والمديرين، وكذا العديد من معارف المصادفة، مقابل نقود تساعد بها الأهل والزوج. وفي النهاية تعمل في (جيم) نسائي. ولا بد من ختام حكاية انشراح بمشهد استشراقي نسوي يليق بالمقام، وهو مشهد (الختان) الذي لم تنسه المرأة حتى الآن، والكاشف عن علاقة الكراهية بينها وبين أمها، التي أصرّت أن تكون العملية أشبه بالمجزرة.
سمرا
(سمرا) فتاة هربت من صعيد مصر، بعدما تخلى عنها ابن عمها وقد تعاهدا على الحب والزواج، وارتبط بابنة عمها الأخرى، فقد أصيب الأب ـ بابا سمرا ـ بجلطة ولم يعد قادرا على العمل، وبالتالي لم يستطع تجهيز ابنته للزواج، التي لم تستطع الحياة بعد هجر حبيبها لها، وهربت إلى القاهرة، لتعيش فترة كابناء الشوارع، حتى تلتقطها (امرأة) في مقهى في ميدان رمسيس، وتأخذها معها إلى منزلها، لتبدأ سمرا رحلتها في العمل، حتى أصبحت (نجمة جماهير) المكان، وتحت ضغط الشغل تحمل سمرا، وتطلب منها صاحبة البيت بيع طفلها أو طفلتها بعد الولادة، ولكنها ترفض، وبمساعدة أحد الزبائن الطيبين الواصلين، الذي يقوم بتهريبها من البيت، تعمل فترة راقصة في مراكب نيلية، كما تنام مع أصحابها لتأمن مأواها، حتى تصل إلى المستشفى، وتلد طفلة ميّته، لتواصل رحلة الهرب، وبمساعدة الواصل الطيب تقوم بدفن طفلتها في مقبرة تابعة لأسرة الرجل صاحب السلطة. وحتى يستطيع (التابع أن يتكلم) نطالع بعض العبارات التي وردت على لسان (سمرا)..
“لكنه المكتوب ونحن نتحرك في دروبنا، ونظن أنها إرادتنا. المهم هو القدر لا أكثر، حتى أكون هنا معكم أحكي”. “يشدني ضوء أصفر بعيد كحشرة في طريقها لصاعق، سمعت صوته من بعيد يهز الكون، أكبر دودة يمكن أن تراها، نعم سأركب القطار”. “تعاملت مع الرجال بالحيلة ومعرفة ما يريدون، كأني في مطعم أطبخ للزبائن ما يريدون، وما يجعلهم يأتون مرة أخرى جائعين وفي فمهم مذاق جسدي”.
وفي النهاية.. ماذا لو وضعنا اسم الكاتب الراحل خليل حنا تادرس كمؤلف للكتاب؟ والرجل كان مؤلفا للعديد من القصص المشابهة، لما جاء في الكتاب، فوصفه النقاد بعد طرده من مملكة الأدب بأنه كاتب أدب رخيص، رغم أن الرجل لم يكن يدّعي تنظيراً اجتماعياً وسياسياً، وكذا لم يدّع استنطاق (الهامش) ليُسجل انتصاراته على (المتن) النخبوي السلطوي القومجي.