تحقيقات وتقارير

أستاذ علم الاجتماع في جامعتي صنعاء وعدن حمود العودي: الوجدان العميق للإنسان اليمني لا يزال بخير بينما الدولة خراب

أستاذ علم الاجتماع في جامعتي صنعاء وعدن حمود العودي: الوجدان العميق للإنسان اليمني لا يزال بخير بينما الدولة خراب

حاوره: أحمد الأغبري

في هذا الحوار نناقش مع أستاذ علم الاجتماع في جامعتي صنعاء وعدن، حمود العودي (1946) وهو أحد أعلام اليمن في مجاله، تداعيات الحرب الراهنة في بلاده، وخاصة على واقع المجتمع وعلاقاته الفردية والجمعية، مقارنة بواقع ما تبقى من الدولة (أطراف الصراع) وما يمكن أن تكون عليه تلك العلائق مستقبلًا.
صدر للدكتور حمود العودي، وهو من أبرز علماء علم الاجتماع العرب، عشرات الكتب والدراسات، وأسهم في تأسيس عدد من التخصصات الأكاديمية، وأسس عددًا من مراكز الأبحاث، وأنشأ هيئة تنسيق التحالف المدني للسلم والمصالحة الوطنية عام 2015 وعايش عن قُرب وفاعلية العمل السياسي والوطني بكل أطيافه في اليمن منذ ستينيات القرن الماضي؛ وأسهم من خلال فاعليته المدنية مع آخرين في حلحلة بعض القضايا المتعلقة بحقوق الناس لدى أطراف الصراع؛ كالطرقات والمرتبات. التقيناه في صنعاء وأجرينا معه هذا الحوار وفي ما يأتي نصه:
○ في المستهل كيف تقرأون كعالم اجتماع اللحظة اليمنيّة الراهنة، أقصد حرب السنوات العشر، هل كان متوقعًا أن يصل الحال باليمنيين إلى هذا المآل؟
• أستطيع أن أقول إن ما شهده اليمن في هذا العقد من الزمن بالتأكيد لم يكن متوقعاً إلى هذا الحد الذي وصل إليه. لكن من مجريات الأمور والأحداث التي تعلمناها من تاريخ هذا البلد، أن كثيرا من الأوضاع والظروف والمتغيرات كانت دائماً مقترنة بين الحرب والسلم والعنف والسلام.
ما نعيشه في اليمن هو جزء لا يتجزأ من محنة يعيشها الوطن العربي كله والأمة العربية بشكل عام، ربما نستطيع أن نقول إن العالم يعيش حالة من التوتر. لكن المؤسف أن نصيبنا أكبر بكثير مما نال الآخرين.
هذه الحرب أثرت على كثير من مقومات الحياة في المجتمع اليمني، وبالذات مقوماته الرئيسية المادية والبنية التحتية في الطرق، المواصلات، الاتصالات، الحركة بين الداخل والخارج، بين الداخل والداخل. كما تركت أيضًا أثرًا عميقًا وسيئًا فيما يتعلق بالبناء الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية؛ لأنها استطاعت أن تُحدث شروخا، وأقول شروخا، وليس هدما، حتى يُفهم الموضوع بشكلٍ دقيق من وجهة نظر اجتماعية.
أُصيب المجتمع بشروخٍ مؤلمة ومحزنة، طائفية، قبلية، مناطقية، سلالية، كل ما تستطيع أن تقرأه في هذا القاموس السيء، الذي ما قامت الثورة والجمهورية في اليمن إلا لتستأصله، وكانت الثورة والجمهورية في اليمن قد نجحتْا في ذلك. إلا أنه للأسف عُدنا إلى ما وراء ذلك، لكن على الرغم من ذلك، أستطيع القول باطمئنان شديد على الرغم من نزيف الحرب إن الوجدان العميق للإنسان والمجتمع اليمني لا يزال بخير، وأن الخير ما يزال قائما وموجودا، ليس في ضمائر الناس فقط، وإنما أيضاً في سلوكهم وتصرفاتهم. سأعطيك مثلًا بسيطا: نحن نعيش بلا دولة، بلا نظام، بلا قانون، بلا ضوابط، لكنك تستطيع أن تذهب إلى أي مكان في اليمن وأنت آمن، لن يُنتهك عرضك، لن ينال أحد منك، إلا السلطة، هي التي تُهينك وتذلك في نقاط التفتيش، وفي الطرق، هي التي تعتدي عليك، لكن لا توجد عصابة أو كراهية هنا أو هناك تُصادر حقك أو كرامتك. أنت تعيش في أمان، خارج أذى الدولة أو السلطة بكل أشكالها، التي تتعدد الآن وتجدها في كل واد. أنت في صنعاء، إذا ركبت الدباب (ميكروباص) لتنتقل من باب اليمن إلى حي القاع أو إلى أي مكان، وقلت لصاحب الباص إنه ليس لديك فلوس، سيقول لك تفضل ولن يمنعك.. وبالتالي الدنيا ما زالت بخير.
الشيء الآخر؛ أنك تذهب في كل مكان، وتجد المواطن يبني وينظف ويفتتح أشياء جميلة كالمطاعم الرائعة والمتاجر المزدهرة، وتجد مبانٍ تُقام في كل مكان، والدولة بجانبه عفن وخراب ودمار، وهذا هو الواقع الذي يمكن أن نلخص به هذه الصورة أو اللحظة الراهنة.

التعليم مشكلة وليس حلا

○ أن يفقد معظم اليمنيين مرتباتهم، وتغلق أهم طرق تنقلاتهم، ويعانون من النزوح والشتات، ويتسرب الكثير منهم من التعليم، ولا يحصل الكثير من الأطفال على التطعيم، وقبل ذلك يتمزق نسيجهم الاجتماعي والوطني. أهذا أخطر ما يتهدد اليمن ومستقبله من وجهة نظرك؟
• بكل تأكيد، أنت أثرت أو نكأت جرحًا نعاني منه، ونحاول أن ندمله منذ سنوات للأسف الشديد، حق المعاش وحق الراتب. معاش المتقاعد الذي أعطى الوطن عمره، وأودع حقه في ذمة الدولة، ولم يجد هذا الحق. أريد أن أقول إننا لو أودعنا هذه الحقوق في أي مكان في العالم عند أيا كان، لا يمكن أن تضيع، وللتأكيد أقول إن لدينا أسرا وعائلات وكبار سن في اليمن ممن شاركوا في الحرب العالمية الثانية، هم لا يزالون حتى اليوم يتسلمون حقوقهم من بريطانيا وفرنسا شهريًا كمعاشات مُلزمة لأسر الشهداء أو المتوفيين، وهنا نسأل: أين هذا من ذاك؟ أين نحن وما ندّعيه من حقوق الأخوة والإسلام والتعاون والدين والحق والنظام والقانون في مقابل من ندعي عليهم ليل نهار: اللهم أحصيهم عددًا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا. هذه الدعوة نحن الذين نستحقها، وليس هم.
المعاشات والتعليم والتطعيم والتطبيب حقوق لا يمكن التخلي عنها أو إسقاطها. كان للثورة اليمنية التي قامت في الستينيات شعار هو الحرب ضد ثالوث الجهل والفقر والمرض؛ فالتعليم أستطيع أن أقول إننا كنا قد قطعنا فيه مسافة كبيرة تحت ظلال الجمهورية، ووصلنا إلى مستوى مقبول إقليميًا وعالميًا. وجامعة صنعاء كنموذج كانت قد وصلت إلى مصاف الجامعات العالمية المعترف بها، والآن لا يُعترف بشيء في اليمن. كان لدينا قبل الثورة، وهذه معلومة أقولها للقارئ والتاريخ، معلومة أنا حصلت عليها من جامعة الدول العربية، وهي أنه لم يكن في اليمن أكثر من خمسين ألفا يحسنون القراءة قبل الثورة، في مجتمع يزيد تعداده على خمسة ملايين نسمة حينها في الستينيات. بعد الثورة، ورغم كل الظروف الصعبة والحرب الملكية الجمهورية، والصراع والعدوان على الثورة، وصل عدد الملتحقين بالعملية التعليمة إلى أكثر من 6 ملايين نسمة من الثلاثين مليونا، وهو معدل 25 في المئة من السكان، وهم دائماً من يكونوا في أي مجتمع في سن التعليم. اليوم بعد هذه المأساة الذي حلت بنا من 2014 حتى الآن، حدثت انتكاسة في كل شيء بما في ذلك التعليم. أولاً: تسييس التعليم، وتحويله من حق وطني وقومي وإنساني وأخلاقي إلى حقوق سياسية وإيديولوجية. كلً يريد أن يقتلع له جزءا من عقول أبنائنا ويعبيها بما يريده، ونخرج في النهاية لكي نقتل أو نكفر بعضنا البعض.
الشيء الآخر، إن التعليم صار له ثمن وثمن باهظ، لا يطيقه الإنسان البسيط، يعني الآن إذا كان الطالب مضطرا لأن يدفع لكلية الطب أكثر من ستة أو سبعة آلاف دولار سنويًا، فعليه أن يذهب إلى أمريكا للدراسة فهي أفضل من هذا البلد. التعليم أصبح مشكلة وليس حلا.
في علم الاجتماع، هناك شيء نسميه تنمية التخلف؛ والتعليم الآن هو معمل لإنتاج التخلف والكراهية والبغض، والقطيعة، وتزييف الوعي بطريقة مخيفة. الذي يعزينا في هذا الأمر قليلاً أنه لا يوجد أمر أسود على طول. العالم مفتوح، ولم يعد التعليم مقصورًا على ما يقوله المعلم في المدرسة أو الإذاعة، أو ما يقوله المرشد، أو المزيف، أو الدجال؛ فالعالم صار بين يديك. ثانيًا: صار هناك اختيار واسع، ويستطيع الإنسان أن يكسب المعرفة والمعلومة التي تفيده عقلياً ووجدانياً من أي مصدر، وليس لمصدر واحد أن يدّعي أنه يستطيع اليوم أن يصنع عقول الناس.
○ كيف نستطيع تعويض تسرب الأطفال من التعليم ومواجهة تخلف تعليم الباقين؟
• الآن لا نملك أي فرصة لتصحيح شيء، لا نملك أي فرصة لفعل شيء يمكن أن نحل به مشكلة التعليم أو الصحة أو المواصلات أو الطرق؛ وبالتالي التعليم سيظل شأنه شأن كل القضايا المرتهنة لأزمة التخلف والدمار والخراب والعدوان الداخلي والخارجي. أستطيع أن أقول من أجل أن أطمئن الناس، إن التاريخ لا يمكن أن يسير بعكس قوانينه الطبيعية. إن التطرف والغلو لا يمثلان حلًا ولا يثمران خيرًا، سيأتي يوم على هؤلاء ويكتشفوا في المستقبل انه تم الكذب عليهم وتزييف وعيهم؛ فينقلبوا إلى الضد تسعة وتسعين درجة، وبالتالي الخوف من تعصب هؤلاء الذين سيكونون هم الضحية وسيكتشفون كيف كانوا ضحية، وهذه قضية اجتماعية بالدرجة الأولى.

الإعلام

○ يحرص أطراف الصراع على توظيف الإعلام والثقافة، وكل ما هو متاح من أجل المعركة، لكن الثمن باهظ، فلم يعد اليمنيون إزاء بعضهم يمنيين، بل صاروا خصومًا شديدي الخصومة، بل أعداء إن صحت التسمية. كيف تقرأ هذا الأثر الذي أفرغته الحرب في علاقة اليمنيين ببعضهم؟
• إذا جاز أن نأخذ هذه المسألة أو هذا السؤال على محمل المصداقية، فهو يصدق على السياسيين أكثر من غيرهم. هم الذين تشبعوا بهذه الروح العدوانية وبفجور الخصومة فيما بينهم، ويشبعونها بدرجة مخيفة ومرعبة لهم ولضحاياهم. أقول لك مرة أخرى، كما سألت في السؤال السابق، إن الوجدان العميق للإنسان اليمني لا يزال بخير.
○ لكن تأثير الإعلام صار مخيفًا؟
• هذا أيضًا له نفس التأثير، تأثير خطير. وسائل الإعلام، إذا كان يُقال في الماضي بأنها هي السلطة الرابعة، فالآن هي أصبحت كل السلطات بشكل أو بآخر، وعبئها وثقلها خطير، سواء كانت على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي، ولا يمكن التعامل مع هذا الأمر ببساطة أو بسهولة. بل إنني أستطيع أن أقول إن هذا الأمر هو أعظم كارثة، ليس على اليمنيين، وإنما على مستوى العالم. وسأعطيك مثلًا بسيطًا جدًا: كان يُنظر إلى الغرب، بأنه نموذج للنظام والقانون وحقوق الإنسان والحقوق المدنية وإلى آخره، لكن حرب غزة فضحت هذه الأكذوبة الكبيرة، وأبرزت أنه لا يزال حاضرًا ذلك العمق الحقيقي للروح الاستعمارية والاستبدادية الغربية والآرية العنصرية، لا يزال حاضرًا بأبشع صوره، والتي تتجلى فيما كان عليه الموقف من حرب غزة؛ وبالتالي فهذا الإعلام كذب على شعوبه، لم يكذب علينا بل كذب على شعوبه، وشعوبه هي التي تستفيد اليوم من معركة غزة الإنسانية، التي تحرر فيها الإنسان الأوروبي من زيف وعيه الذي تم تزييفه على مدى مئتين سنة أو مئة وخمسين سنة على الأقل من خلال الإعلام الجديد.
نحن في اليمن ضحية، بل أكثر الضحايا ضعفًا واستسلامًا لهذا البؤس، ومع ذلك نعزي أنفسنا، بأن الإنسان لا يمكن أن يتحول إلى إناء فارغ تملأه بما تريد، وهو يبلعه، دائمًا الإنسان لديه حاسة الفضول، حاسة الانتقاد، حاسة الأنا مع الآخر، وليس العلاقة الصفرية، وبالتالي ستجده لا يتحول إلى إناء فارغ؛ لأن كثيرا من الناس والسواد الأعظم في الرأي العام على المستوى المتوسط والأدنى لديه فكر نقدي واسع وقوي وفعال، وسأعطيك مثالاً يمنيًا: بعد حرب صيف 1994 سيئة الصيت والبؤس، كان السوء الذي عكسته السلطة في التعامل مع الشمال والجنوب إن عمقت الكراهية بين الناس، بين شمال وجنوب. وهذا ما كنا نلمسه خلال زيارتنا لعدن، لكنه كلما مرت سنوات نجد في زيارتنا تراجعًا لتلك المظاهر، وما هي سوى سنوات حتى استعاد هذا الشعب وعيه، وتجاوز التزييف الذي حاول الإعلام تكريسه عقب تلك الحرب.

الأسرة

○ على المستوى الأسري، أسهمت الحرب في تفكيك عُرى التماسك الأسري وتمزيق النسيج الاجتماعي، ماذا عن مظاهر هذا الخطر في علاقة الأسرة والمجتمع؟
• ربما لا أريد أن أقول إنني لا أتفق مع هذا السؤال، ولكن لا أقول بأنه صحيح 100في المئة؛ لأن بنية وعلاقات الأسرة هي جزء من علاقات قاع المجتمع، والمكان الذي ليس هو مكان للمهاترات السياسية والمتغيرات الاقتصادية أو كيفما كانت، وبالتالي هو صحيح، ربما.
أنا اتفق معك، هناك اختلال، وهناك شرخ، مثلما قلت آنفًا، لكن لا يوجد هدم، والذي أسهم في هذه المسألة أمور كثيرة، منها التعليم، ووسائل الإعلام، ومنها تقنية العصر التي لا يستطيع أحد أن يسيطر عليها، ولا يوجد من يوجه ويرشد بها، فهذه حقيقة. الشيء الآخر مرتبط بالجيل هذا نفسه. نحن نعاني كثيرًا من أبنائنا؛ وهو جيل وجد نفسه في مرحلة ما مستقرا، وكل شيء موجود ومتوفر له، وعواطفنا كآباء نقولها صراحة ربما كانت زائدة، حرصا منا على أن نعوضهم عما عانيناه نحن، وبالتالي نجدهم لا يستطيعون أن يستفيدوا أو يقرأوا ما مررنا به جيدًا، فدائما إذا قلت له شيء مما هو صحيح، ينظر إليك بأنك أنت خيالي، وأن هذه الأمور لا مكان لها، وأنه هو على حق وأنت على خطأ. هناك نوع من الاختلال في العلاقة بين الأب والابن، وبين جيل وجيل؛ لكن لا يوجد هدم؛ فالعلاقة ما زالت صحية على حد ما.
○ لكن ماذا عن تأثير الحرب في هذه الجزئية؟
• الحرب بالتأكيد هي أحد المؤثرات الرئيسية، التعليم، الإعلام، التعبئة المغلوطة. للحرب تأثيرها؛ لأنها أفقدت الكثير من الأسر من يعولهم، وصاروا متروكين للأم أو للأقارب، بصورة مباشرة أو غير مباشرة. النزوح والدمار والتنقل، أيضا ترك أثرًا مؤلماً ومحزنًا، لكن دعني أقول إن هذه المتاعب وهذه المآسي، أحيانًا، تكرس قيمًا اجتماعية معينة كالتضامن، والبقاء والتراحم بين الناس، ولو ذهبت أنت إلى معسكر أو مخيم نزوح واشتغلت على دراسة اجتماعية تتمحور حول كيف يتعامل الناس مع بعضهم البعض، لوجدت أن معدل الخير أكثر من معدل الشر، ومعدل النفع أكثر من معدل الضرر؛ ستجد واقعا مدهشًا في علاقة الناس بالقيم الاجتماعية، والبلد يعيش ما يعيشه اليوم.
○ وبما تفسر زيادة مؤشرات حالة الخلع والطلاق في المحاكم خلال سنوات الحرب؟
• هذا المؤشر بارز في الفئات الاجتماعية الوسطى والعليا المترفة بشكل أكثر من الفئات الدنيا. أعرف، مثلاً، في حضرموت هناك مجتمع محافظ، وعنده من القيم والأخلاقيات الدينية والإنسانية أكثر من غيره من المناطق، لكن نسبة الفشل الزواجي فيه عالية ومخيفة بشكل كبير جداً، والسبب في هذا أن الشباب وقعوا في دائرة التعامل مع تقنية التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت الموجهة كحرب، وبالتالي خلقت عنده اهتزازا عميقا، وكان الطلاق نتيجة الفشل، وكانت هناك مشاركة في الحرب، التي خلقت تأزمًا نفسيًا. كثير من الناس أُصيبوا بالهلع والهستيريا، وبالذات عندما يكتشف في النهاية أنه ذهب في غير ما كان ينبغي أن يذهب إليه بصورة أو بأخرى، بمعنى هناك مشاكل تتضافر مع بعضها، لكي تُخلق مشكلة من هذا النوع تتعلق بالتفكك الأسري أو حالة عدم الاستقرار كما ينبغي.
○ فيما يتعلق بعمالة الأطفال والعنف القائم على النوع الاجتماعي، كان الأطفال والنساء أكثر فئات المجتمع اليمني معاناة خلال الحرب…كيف تقرأ هذا الواقع؟
• لعل من أشد مساوئ الحرب ونتائجها دائماً أنها تخلق جيشًا من الأيتام، وانعدام من يرعونهم اقتصاديًا واجتماعيًا. فالأسرة التي تفقد راعيها تعيش وضعًا معيشيًا صعبًا، ولا تجد الأم التي أصبحت مسؤولة عمن تبقى من الأسرة إلا أن تدفع بأطفالها إلى سوق العمل لكي يسدوا رمق عيشهم، وأحيانًا ذهاب الأطفال لسوق العمل يأتي استجابة لمزاج الطفل؛ لأنه لا يوجد ضابط يضبط إيقاع حياة هؤلاء الأطفال داخل البيت وفي المدرسة ويعوضه. لذلك تجده يذهب للعمل في مطعم أو في غيره حتى يشعر أنه صار رجلًا، وفي حال كانت الأسرة كلها تمضي في هذا السياق فهذا من تأثير الحرب الواضح جراء افتقاد معيل الأسرة، وهنا يكون لعمالة الأطفال تأثيراتها العميقة. أيضا العنف المتعلق بالنوع الاجتماعي ناجم عن ماذا؟ شخص مضطهد في مكان عمله، حُرم من راتبه، ومن حقه في العمل، ومن حقه في التعبير عن الرأي، فتجده يفرغ طاقته في ممارسة العنف على من حوله وعلى أقرب الناس إليه، وهي زوجته أو ابنته أو أخته؛ وبالتالي ترتفع نسبة ممارسة العنف الاجتماعي، حتى التحرش والاعتداء الجنسي والبغاء والجريمة وإلى آخره، تنجم عن مثل هذه الحالات النفسية؛ أنت تُقهر فتبحث عن من تقهره، أنت يُؤخذ حقك فتبحث عن من يكون ضحية لك، وبالتالي تتوالد المشاكل الاجتماعية نتيجة المعضلة السياسية وتتكاثر في كل الاتجاهات.

الهجرة

○ في الأرياف ارتفعت مؤشرات الاغتراب، حتى باتت هناك قرى تخلوا من غالبية رجالها، هل سبق لليمن إن عاش هذا الوضع مع الهجرة؟
• الاغتراب والهجرة في حياة اليمن واليمنيين ظاهرة أصيلة وتاريخية، ولها تفسير ربما يختلف إلى حد ما عن ظواهر الاغتراب في مجتمعات أخرى التي تتوقف عند البحث عن معيشة أفضل وفرص عمل أفضل.
لدى الإنسان اليمني معادلة إضافية إلى فرصة العيش الأفضل، وهو البحث عن ذاته، البحث عما فقده في وطنه بشكل أو بآخر، بمعنى، شخص تعارك مع آخر نهب أرضه، ماذا يفعل؟ يفعل شيئا من إثنين؛ إما يذهب ويقتل هذا الذي أخذ أرضه ويهرب، أو يسافر ويجلب فلوس ويأتي ويقاضيه ويسترجع أرضه.
الهجرة بالنسبة لليمنيين هي موقف اجتماعي وسياسي، قبل أن تكون مجرد فرصة للبحث عن عيش أفضل، وهي ليست هروباً من الحرب كما نشاهد في كثير من مجتمعات الحروب، مثل سوريا، ليبيا وغيرها. اليمنيون في عز الحرب يعودون إلى وطنهم ويغادرون من أجل العمل كبحث دائم عن الذات؛ لأنه يذهب ويغادر ويعيش في المهجر، وهو مرتبط بأمل العودة بإصرار، وبأبسط حقوقه؛ وبالتالي علاقة الإنسان اليمني بأرضه قوية جدًا. وعندما يُقهر فيها فهو قد يضطر للمغادرة لكي يعود وينتزع حقه. الشيء الآخر أن طبيعة موارد اليمن الاقتصادية زئبقية، أي ليست ثابتة وليست مستقرة، ولا تعطي للإنسان اليمني ضمانا وأمانا، باعتبار أن هذه الأرض التي يزرعها ويحرسها وتعتمد على أمطار موسمية محصولها مضطرب، مرة يكون محصولها وفيرا ويكفيك سنة وسنتين، ومرة لا تعطيك لقمة العيش؛ ولذلك الهجرات اليمنية مرتبطة بحالة الاختلال الاجتماعي أو الطبيعي. الآن اللحظة الراهنة التي لمستها في سؤالك فهي نتيجة اختلال اجتماعي وسياسي؛ ولذلك هناك عملية رفض لما يجري من خلال السفر؛ ولهذا من يصدق أن مصر تستقبل ثلاثة ملايين يمنيّ حاليًا؟!

الطرق

○ للحرب تأثيرها على إغلاق منافذ التنقل الداخلي في اليمن، وقد كان لكم دور في الإسهام في فتح بعض الطرقات والسعي لفتح أخرى، كيف نفهم هذه الإشكالية في سياقها الإنساني والاجتماعي؟
• أجزم وأعتقد أن أسوأ جريمة اُرتكبت في حق اليمن واليمنيين هي عملية قطع الطرق، وهذا الأمر لا نعرف كيف نفسره، وما هي دوافعه. أريدك أن تقول لي ما مصلحتك في أنك تقطع الطريق على إنسان مسالم؟ في الأعراف الاجتماعية والقبلية هناك أعراف تضمن فتح السبيل وحماية عابر السبيل، وهناك عقوبات لمن ينتهك ذلك.
لو وصلت إلى أرض عدو، وتريد أن تعبر منها، فعليك أن تترصد أقرب شخص من منطقة عدوك، وتقول له سيّرني، بمعنى انقلني إلى المكان الذي أريده بأمان. عدوك الذي دمك عنده ودمه عندك يجب أن يُلزم نفسه إنسانيًا وأخلاقيًا وعرفيًا أن يحميك، ويوصلك إلى مأمنك.
لو كنتُ في جولة القصر بتعز، ومن أجل أزور أسرتي داخل مدينة تعز عليّ أن أسافر ثمان ساعات بدلًا عن عشر دقائق؟ خمس سنوات ونحن نعمل على فتح الطريق، وبالكاد تم الأمر.
○ استطعتم من خلال هيئة تنسيق التحالف المدني للسلم والمصالحة حلحلة بعض القضايا، كيف كان تفاعل الأطراف مع جهودكم، وما الذي ينقص جهود المصالحة الداخلية حتى تحقق نتائجها الإيجابية؟
• من أجل أن تكون الصورة واضحة، أولًا نحن لسنا حزبا، ولا حتى مكونا قائما بذاته، نحن هيئة تنسيق جهود، يعني جمعنا أهم مكونات المجتمع المدني، اتحاد العمال، اتحاد نساء اليمن، اتحاد الغرف التجارية، اتحاد منتجٍ الأدوية، اتحاد الأدباء، اتحاد نقابة هيئة التدريس، منظمات فاعلة، وعددا من الشخصيات الوطنية الفاعلة، وهذا هو مفهوم هيئة تنسيق التحالف المدني للسلم والمصالحة، ونعمل في اتجاهين: الأول: حقوقي، وهو ما له علاقة بحقوق الناس، معاشات، مرتبات، تعليم، طرقات، ومناصرة كثير من القضايا المتعلقة بالحق العام. الثاني: في اتجاه المصالحة الوطنية.
○ كيف كان تفاعل أطراف الحرب معكم؟
• أولاً، أننا وُضعنا موضع اتهام، أينما نذهب تجد كل طرف يحسبنا مع الطرف الآخر، وبالكاد وبصعوبة بمرور الوقت استطعنا، والحمد لله، أن نقنع الجميع بأننا لسنا كذلك، وقلنا لهم: لا تعتقدوا أن العالم قد انتهى عند الطرفين، ففي الدنيا أشياء كثيرة، صوت الوطن مغيب، وصوت العنف والكراهية هو الصاعد، وبالتالي دعونا نهمس، ونقول شيئا، كان هناك تجاوب، وكل من ذهبنا إليه، يقدم نفسه كملاك، وأنه لا يوجد أحسن منه، وأنه مستعد، ونجحنا في بعض القضايا، ولم ننجح في كثير. نجحنا، مثلًا، في موضوع الطرق. فيما يتعلق بالمعاشات والمرتبات، نجحنا، ومعظم المعاشات كمعاشات المتقاعدين بشكل عام ومرتبات كثير من المرافق كجامعة صنعاء والقضاء والصحة والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، وكان الباقي في طريقه… لكن هذا المشروع توقف مع إصدار الطبعة الجديدة من العملة في الجنوب، وقطعنا خطوات لتجاوز الإشكالات، لكن ظلت تتوالد المشاكل أكثر وأكثر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب