وسائل الاتصال الحديثة: ثورة قاربت الناس وباعدت بينهم بسحرها النافذ
وسائل الاتصال الحديثة: ثورة قاربت الناس وباعدت بينهم بسحرها النافذ
نواكشوط / عبد الله مولود
ثورة كبرى في التلاقي بين بني البشر، تلك التي أحدثتها قنوات التلاقي الحديثة أو «وسائل التواصل الاجتماعي» بمختلف شعبها ومنصاتها المذهلة.
وبالفعل، قاربت هذه الوسائل الاتصالية الحديثة بين الأشخاص المتباعدين جغرافيا، وحولت العالم إلى حي واحد في قرية صغيرة بما أتاحته من سهولة التواصل وتبادل المعلومات والخبرات والأفكار، وإن كان هذا التقارب لم يجعل العالم متناغما ولا منسجما في القيم والأفكار والرؤى.
ومع أهمية هذا التقارب، فإنه قد أحدث تباعدا كبيرا؛ فكأن هذه الوسائل، بما فتحته من قنوات وبما أتاحته من اتصال وتواصل آني، نفخٌ قد في الصور: فقامت قيامة العالم، ليفر كل مرء من أمه وأبيه وأخيه وفصيلته التي تؤويه.
وإذا كان سكان العالم الآخر، يدركون أهمية تخطيط الوقت ويبرمجون أوقات إبحارهم على الإنترنت، فإن في بلدان العالم الفقير وخاصة أفريقيا من لا يولون أية أهمية لدقائق الحياة الرائحة إلى غير رجعة: فترى أبناء الأسرة الواحدة مجتمعين في صالون واحد طول الوقت عاكفين على جوالاتهم وألواحهم، وكلهم يبحر على شاكلته في عالمه الخاص أصم أبكم عن أمه التي بجانبه وعن أخيه وأخته اللذين بإزائه.
وبذلك تكون ثورة الاتصالات قد أحدثت تناقضا ومفارقة غريبة؛ فقد قربت المتباعدين وأبعدت المتقاربين، فترى الشخص يتواصل مستمتعا مع أشخاص من أقاصي الأرض، ويخصص لذلك أوقاتا غالية، ولكنه يستثقل المرور على والدته للاطمئنان عليها، ويعجز عن منح أبنائه ساعة من الوقت يلتقون خلالها.
وترى السيدة العاقلة النابهة، لا تتحمل ربط علاقة بجارتها وتضيق حتى عن إلقاء تحية إليها عن بعد، بينما تراها في تواصل مع عشرات الصديقات من دول مختلفة؛ فوسائل التواصل تتيح بناء جسور وخلق وشائج للتلاقي والتفاهم مع أشخاص مختلفين، وهي بذلك تشغلهم حتى عن أقرب المقربين.
الكثيرون يتهمون وسائل التواصل الحديثة بالقضاء على الحس الاجتماعي بما نتج عنها من إدمان يقطع الشخص عن محيطه؛ لكن هناك معارضين لهذا الاتهام ممن يرون أنه انغلاق أمام تطور كبير من أروع ما اختبرته البشرية.
وأكدت دراسة أجراها خبراء من جامعة طنطا عن الآثار الاجتماعية للإنترنت على الشباب أن 50.07 في المئة من العينة يذهبون إلى أن شبكة الإنترنت تؤثر سلبا على الوقت الذي يتم قضائه مع أسرهم، ورأى 52.5 في المئة من المبحوثين أن لشبكة الإنترنت تأثيرا سلبيا على العلاقات الأسرية، وذهب 60.8 في المئة أن لها تأثيرا سلبيا، كذلك، على العلاقات مع الأقارب حيث تقل معدلات الزيارات الأسرية.
وذكر مختصون في علم النفس «أن الاستخدام الفردي للكمبيوترات والإنترنت يعزز الرغبة والميل للوحدة والعزلة لدى المراهقين والشباب ما يقلل من فرص التفاعل والنمو الاجتماعي والانفعالي الصحي الذي لا يقل أهمية عن النمو المعرفي، وعن حب الاستطلاع والاستكشاف.
وتتحدث دراسات عدة عما يدفع له استخدام الإنترنت من تعريض للأطفال والمراهقين لمواد ومعلومات خيالية وغير واقعية ما يعيق تفكيرهم وتكيفهم وينمي بعض الأفكار غير العقلانية لديهم.
ولعل من أكثر انعكاسات الإنترنت السلبية على الأسرة إدمان أحد الزوجين على الإبحار على الإنترنت، بل وافتتانه بمواقع شاذة، تجعل الزوج يزهد في زوجته ويوليها ظهره؛ فيندفع شيئا فشيئا نحو جو العزلة الإلكترونية منشغلا بالدردشات وبالمواقع الهابطة.
ونشأ عن تقييم وتقويم أدوات التواصل، اتجاهان أحدهما يرى أن شبكة التواصل انقلاب على الحياة وعلى الروابط والوشائج الاجتماعية، بينما يرى الاتجاه الآخر أن الشبكة العنكبوتية من نعم الله على البشرية، متسائلا عن الفائدة من رؤية الجوانب المظلمة في هذه الظاهرة الكونية؛ داعيا للنظر إليها بموضوعية، وبالحكم عليها لا من خلال نصف الكأس الفارغ وحده، بل من خلال نصفه الملآن أيضا.
«القدس العربي»: