السرد بوصفه نسيجا في رواية «من المكتوب إلى المصير»
محمد تحريشي
عبد القادر تيوتي روائي من مدينة بشار يكتب باللغة الفرنسية، بعدما تشبّع من قراءة الكثير من النصوص الروائية منذ نعومة أظفاره إلى الآن، عمّق تجربته بكثير من المتابعات والنقاشات والحوارات، حول موضوع الكتابة والفن والجمال والموسيقى، وهو يمتلك رصيدا محترما زكّى به رؤيته للكتابة، وفق مشروع حضاري يضمن له الوجود مع الكتّاب الكبار، ليس على مستوى محلي، وإنما على مستوى أفق أكبر، وغامر مرتين؛ الأولى عندما اختار الكتابة في الرواية بموضوع إشكالي عويص، يقع من حوله الاختلاف والتوافق، حتى التلفيق (combinatoire)، والمرة الثانية عندما اختار الكتابة باللغة الفرنسية التي يتقنها، في مجتمع أصبحت غالبيته معربة مع محدودية القراءة، وركب هذا الكاتب التحدي، عندما توجه إلى دار نشر فرنسية (Nombre 7 éditions) لطبع كتابه وتوزيعه في أوروبا قبل حتى أن يوزع في الجزائر. صدرت هذه الرواية في شهر أبريل/نيسان 2024.
تنهل الكتابة السردية عند الكاتب عبد القادر تيوتي من رؤية فنّية مميزة؛ تقوم على نسج الحكاية بعقدة أولى تكون الأساس، ومن حولها تتفرع كل العقد المشكلّة للنسيج الروائي. كاتب يقوم بتسدية الخطوط الكبرى بحسابات دقيقة على أساس فردي وزوجي وثلاثي بخيوط سميكة ورفيعة، تحكم النسج في ما بعد وتربطه؛ حتى إذا ما أقام المنسج ترابط النسج وتناسق وانسجم بقدرة هذا الكاتب على الربط بين الخطوط الأفقية والعمودية، التي تتحكم في بنية الحكاية في هذه الرواية، تضع القارئ أمام لوحة فنية تثير فضوله بقدرتها على المفارقة التي تجمع بين المتناقضات بلمسة فنية سحرية.
من المكتوب إلى المصير… العنوان بوصفه نسيجا
يطرح عنوان هذه الرواية إشكالا مفاهيميا يخلخل أفق القارئ بهذه المفارقة الجامعة بين كلمتين؛ الأولى عربية والثانية فرنسية، تتقاربان في الاستعمال وفي الدلالة، وتتباعدان في الطرح الفكري والعقدي. إنّ الجمع بين المكتوب والمصير في هذا العنوان دليل على أن الكاتب يقصد حمولة دلالية تتأسس من رحلة الكلمتين في الاستعمال العربي والفرنسي، ويتغذى هذا الطرح من أنّ الانطلاق من المكتوب وأن الوصول إلى المصير ثقافيا وفكريا؛ على الرغم من التباين بين المصطلحين. إنّ المكتوب هو مصطلح عربي يُشير إلى ما هو مكتوب أو مُقدّر، ويعكس فكرة القضاء والقدر، التي تعني أنّ كل شيء مكتوب ومحسوم مسبقا. بمعنى أنه يحمل دلالة على الحتمية وعدم القدرة على تغيير ما هو مقدر. إنّ المكتوب هو: «القول بأن كل حدث له سبب وأن كل شيء في الكون يعتمد بصورة كاملة على القوانين المسببة له ويسير وفقاً لها. بما أنّ من يؤمنون بالمكتوب يعتقدون أن كل الأحداث، بما في ذلك التصرفات الإنسانية، مقدّرة مسبقاً، فإنّ الإيمان بالمكتوب لا يتوافق مع الإرادة الحرة». ويفهم من المصير على أنّه نتيجة الأحداث عبر الزمن بنوع من الحتمية التي تساهم الأفعال البشرية في تشكيله.
يقوم عنوان هذه الرواية على مفارقة بين المكتوب الذي يوحي إلى القدر المحتوم والمحدد سلفا، والمصير الذي قد يُفسر بأنه مزيج من الحتمية والإرادة الحرة. هذا يُعطي انطباعا بوجود نوع من التوازن أو الصراع بين الحتمية (ما هو مكتوب) والحرية الإنسانية في تشكيل مصائرها. قد يراد بهذا العنوان الإشارة إلى رحلة الإنسان بين قبول ما هو مكتوب، ومحاولة تغيير مصيره من خلال أفعاله وقراراته. يثير العنوان لدى القارئ أيضا تساؤلات حول مدى قدرة الإنسان على تغيير ما هو مُقدر، ومدى تأثير الإرادة الحرة في مسار الحياة. فكل من البشير وبيير لم يموتا في الثورة، وإنما مات البشير محاولا تحرير الرهينة، ومات بيير متأثرا بما حدث.
رواية من المكتوب إلى المصير ذخيرة لغوية
القارئ لهذا الرواية يقف على حقيقة أنها ذخيرة لغوية بامتياز من خلال الرصيد اللغوي الموظّف بعناية واهتمام وبكل اقتدار؛ الذي يميز جيدا بين الفروق اللغوية بين الكلمات المقاربة في المعنى والمتباينة في الدلالة، إلى درجة أن الكاتب لا يكرر الكلمات في نصه، وحتى بعض التراكيب الدارجة، بل في بحث مستمر عن التركيب المراد للفكرة المعبّر عنها من دون الوقوع في التكرار والمعاودة. ذلك أن الرصيد اللغوي للكاتب ثري وغنّي، وأنّه متحكم في البنية اللغوية لنصه، بل أكثر من ذلك فهذا النص يساهم في تثقيف القارئ بمعالجته الكثير من القضايا بأسلوب سهل ممتنع. «ماذا أقول لك؟ هناك شيء يدفعنا إلى التجوال في أراضٍ بعيدة بحثا عن أحلام تكون غالبا في متناول أيدينا. وعندما ندرك خطأنا، يكون الأوان قد فات. يدفعنا ذلك للتساؤل: لماذا نبحث دائما بعيدا عما يكون عادةً قريبا؟»(من المكتوب إلى المصير). قد تكون هذه الفكرة القائمة على مفارقة بين القريب والبعيد مما نفكر فيه، غير أن الكاتب عبّر عنها بأسلوب سلس لا تكرار فيه ولا معاودة ولا تثاقل أو تعقيد. من بين القضايا المهمة التي عالجتها هذه الرواية موضوع الهوية والانتماء للمكان والارتباط به ››لا يوجد شيء أكثر إحباطا من رجل يشعر بالغربة في بلد ليس بلده. خاصةً بالنسبة لمن يحمل، مثلنا جميعا، خلف ملامحه هوية يُنظر إليها بازدراء أمام إنسانية بعيدة لا تحبه… من الأفضل أن تتجنب انتباه ذلك «الآخر» الذي تنبعث منه رائحة كريهة ويصر على مراقبتك بشك، فقط لأنه لا يحب الاختلاف… هذه الأماكن حيث النظرات تكون سيئة، والخبز يصبح مرا، ولا تملك أي وصفة سحرية لتغيير أي شيء». (الرواية). بمثل هذا الطرح يدفع الكاتب القارئ إلى التحاور والنقاش وإبداء الرأي في مسائل شائكة. إن هذا النص لا يهادن المتلقي، بل يناوشه بهذا الزاد اللغوي الذي يحمل مجموعة من الأفكار حول الإنسان وعلاقته بأخيه مهما تغيرت الأحوال والأزمنة والأمكنة، وفي حال الحرب وفي حال السلم، وفي حال الهجرة من أجل حياة أفضل وفي حال السفر والسياحة من أجل المتعة والاستكشاف.
النسج على منوال من المكتوب إلى المصير
يقوم الحكي في رواية «من المكتوب إلى المصير» على الحبك بالعقد السردية، التي تبدأ بعقدة واحدة تتعلق بسليمان وحياته البائسة، ثم تنتقل إلى علاقته بأخته لتكشف عن وضعية البنت التي تعاني من المضايقة والتقييد داخل هذه الأسرة، ومن ثم تنسج عقدة الأصدقاء سليمان وحميد ومراد للحديث عن وضعية الشباب، الذي لا يفكر إلّا في الهجرة السرية عبر قوارب الموت (الحرﮔة)، وكانت العقدة النسيجية الثالثة هي حضور العام لأحد الأصدقاء والخال لآخر المجاهد بشير يوزيان، فتنمو الأحداث وتتطور في شكل نسيج محكم. تصبح هذه العقدة النسيجية لهذا المجاهد هي المحرك للأحداث والمحفزة للشخصيات. إن العقدة النسيجية المركزية في هذا النص السردي هي لما يقع هذا المجاهد في بداية عهده بالثورة التحريرية في كمين للجيش الفرنسي، ويجد نفسه أمام فوهة بندقية جندي فرنسي والذي يتردد في قتله ثم يحزم أمره يسمح له بالفرار، فيصر بشير بوزيان على معرفة اسمه، وبعد نقاش يخبره أنه: بيير فاندار (Pierre Vandard)، وتبقى هذه الحادثة حبيسة الذاكرة وتتحرر الجزائر وتنال استقلالها، ولما يقرر الشباب الثلاثة الهجرة السرية إلى فرنسا، يقبل العم والخال بشير مساعدتهم بشرط أن يبحثوا له عن صديقه هذا. تنمو الأحداث وتتطور فيصل هؤلاء الشباب، بعد سنتين من الإقامة، إلى عائلة الجندي السابق في صفوف الجيش الفرنسي، ويلبي بعض من عائلة هذا الجندي دعوة البشير لزيارة الجزائر ومنطقة بشار على وجه الخصوص. تنسج أحداث أخرى أثناء هذه الزيارة، خاصة تلك الزيارة إلى تاغيت المدينة السياحية الخلّابة، فيقع بعض هؤلاء الفرنسيين في أسر جماعة إرهابية، فيحاول البشير تحرير الرهينة فيسقط في سياج بئر فيموت، ولما يصل خبر هذا الأسر مصادفة إلى عائلة بيير فاندار يصاب هذا الأخير بصدمة قوية يدخل على أثرها المستشفى، وبعد أيام من العناية المركزة يموت.
كاتب جزائري