منوعات

الواقعية في الفيلم الروائي: إنتاج الواقع وليس تكراره

الواقعية في الفيلم الروائي: إنتاج الواقع وليس تكراره

مروان ياسين الدليمي

مقارنة ببقية الأساليب التي حفل بها تاريخ الفن السينمائي فإن أسلوب الواقعية في الفيلم الروائي من أبرز وأهم الاتجاهات الفنية في السينما، وربما الأكثر حضورا وتأثيرا على المتلقين، ويعود ذلك إلى أنه يقدم صورة موضوعية للواقع وللحياة الإنسانية. والواقعية كأسلوب في رؤية العالم ترسم طريقها من خلال العثور على الإنسان والتعرف عليه من الداخل وليست مجرد تكريس للمظاهر التي تشير إلى الواقع، وقد لعبت دورًا محوريًا في تطور الفن السينمائي، ليس فقط من خلال تقديم محتوى يعكس الواقع وما يظهر على سطحه من صور تعكس الفعل والنشاط الإنساني، ولكن من خلال تقديم تقنيات جديدة في السرد وصناعة الأفلام، وتقديم وجهة نظر ذاتية لعالم موضوعي وتعكس انطباعا شخصيا، بمعنى أن المخرج الواقعي عندما يسقط ذاته في مشروعه فإنه يقدم تصوره الداخلي للواقع الخارجي. فالسينمائي المنغمس في الأسلوب الواقعي يسعى إلى أن تكون موضوعاته ذات مرجعية واقعية، كما أن رؤيته لها لا تخضع لآليات ميكانيكية في السرد.
ورحلة الواقعية كأسلوب تبدو على صلة وثيقة بالسينما منذ أيامها الأولى، حيث كان صناع الأفلام مفتونين بالتقاط الواقع – قطار يصل إلى محطة، عمال يغادرون مصنعًا – أحداث عادية تم تصويرها في الوقت الفعلي. ومع تطور السينما، تطور أيضًا نهج الواقعية. وشهد القرن العشرين ظهور نظرية المونتاج السوفييتية، التي على الرغم من عدم واقعية تصويرها، إلاَّ أنها كانت تهدف إلى استحضار المشاعر الحقيقية للإنسان وسط المجموع عبر مواجهة ادراكه الذاتي بالواقع، وتلك النتاجات السوفيتية التي قدمها ايزنشتاين (1898- 1948) وبودفكين (1893 – 1953) رغم أنها كانت مؤدلجة إلاّ أنها مهدت الطريق للواقعية لتتخذ في ما بعد شكلاً أكثر سردية وعاطفية لأنها كانت تبحث عن أسلوب فني لرؤية الواقع.

نشأة الواقعية سينمائيا

المتابع لتاريخ الفيلم الروائي وتطوره سيلاحظ أن بذور الشكل الواقعي ظهر في السينما في منتصف القرن العشرين، من بعد أن كانت المبالغة قد طغت على الأفلام الصامتة ومن ثم الناطقة في بدايات الفيلم الروائي إضافة إلى شيوع شطحات الخيال في العديد من النتاجات السينمائية، وهذا ما دفع بعدد من السينمائيين وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية إلى أن يكون لهم رؤية أخرى إزاء فهمهم لطبيعة الفن السينمائي ومدى الإمكانات التي يزخر بها، بما يؤهل هذا النشاط الإبداعي لأن يكون عنصرا جماليا مؤثرا في الواقع الإنساني، فكان أن ظهرت في إيطاليا الخارجة من الحرب العالمية الثانية أبرز علامات النضج في الأسلوب الواقعي، وليس صدفة أن تكون روما نقطة الانطلاق الثورية للواقعية، وذلك لأن مجتمعها خرج من الحرب محطما، فكان لابد من إعلان التمرد بكافة سبل التعبير، وإحداث تغيير في بنية المنظومة السياسية والثقافية والمجتمعية التي ساقت البلاد إلى محرقة الحرب. وفي تجربة الواقعية الإيطالية استخدم مخرجون مثل فيتوريو دي سيكا (1901 – 1974) في فيلم «سارق الدراجة» ممثلين غير محترفين ومواقع حقيقية لإضفاء مناخ واقعي حقيقي على الشاشة. وعلى نحو مماثل، انفصلت الموجة الفرنسية الجديدة، في ستينات القرن الماضي عن السرد التقليدي، بقيادة روادها مثل جان رينور (1894- 1979) وفرانسوا تروفو(1932- 1984) وجان لوك غودار (1930 – 2022) وخاصة غودار المتمرد حتى على نفسه، فاستخدموا الكاميرات المحمولة والحوارات المرتجلة لالتقاط عفوية الحياة الواقعية. ولم تصور هذه الحركات الواقع فحسب؛ بل إنها عكست أيضًا المناخات الاجتماعية والسياسية في عصرها، ما أدى إلى تقديم بيان عميق عن الحالة الإنسانية. ولا يختلف إثنان على ما أحدثته الواقعية السينمائية في الموجة الفرنسية الجديدة من تقنيات جديدة في لغة السرد السينمائية، فكسر مخرجوها قواعد صناعة الأفلام التقليدية لكنهم حافظوا على التزامهم بتقديم تجربة إنسانية أكثر أصالة. ونتيجة لهذه النقلة الجديدة وبعيدا عما كان يتم إنتاجه من أنماط تتجاوز معطيات الواقع في أستديوهات هوليوود، اختلف المخرجون الإيطاليون والفرنسيون في فلسفتهم الجمالية الواقعية مع ما كان سائدا من نماذج سينمائية.
بدأ المخرجون المنخرطون في حساسية الأسلوب الواقعي في إحداث تغيير ثوري في تقنيات سرد الفيلم الروائي وطبيعة الموضوعات التي يتناولونها، والكيفية التي ينظرون من خلالها إلى الواقع. ولعل أبرز ما أخذوا يسعون إلى إنجازه تحويل العالم الواقعي إلى مساحتهم الذاتية، وخلق تجربة فنية واقعية الأسلوب هي أقرب إلى الواقع من الواقع نفسه، وذلك عبر تقديم قصص تُعبر عن حياة الناس اليومية بدون أن يلجأوا إلى تجميلها، وهذا يعود إلى أنهم وجدوا في الفيلم أحد مكونات الوعي باعتباره فاعلا اجتماعيا وفرصة جمالية لاكتشاف الواقع من خلال الذات.
غالبًا ما يُنظر إلى الواقعية في الأفلام على أنها انعكاس مستنسخ للعالم الحقيقي، فالأمر هنا لا يتعلق بتكرار الواقع ولكن بتمثيله كما يراه صانع الفيلم، إي أن هناك جهدا لتفسيره وتقديمه بطريقة فنية تعيد إنتاجه، والرؤية الفنية للواقع بطبيعة الحال تختلف من مخرج إلى آخر، حيث يعتمد كل مخرج وجهة نظره الفريدة إزاء الواقعية.
التحولات الواقعية أخذت تظهر في معظم تقنيات صناعة الفيلم ابتدأ من تركيزهم على أن يكون التمثيل طبيعيا ويحاكي العفوية في الاسترخاء، فأخذ المملثون يبتعدون عن المبالغة في إيصال مشاعر الشخصيات الداخلية، ويحرصون على أن تكون أفعالهم أقرب إلى ما يتم التعبير عنه في مظاهر الحياة اليومية، كما أن الإضاءة لابد من أن تخلق لدى المتلقي إحساسا بواقعية ما يراه من صور تتدفق في أماكن واقعية وليست في مواقع مصنَّعة في أستديوهات، والأهم من ذلك اعتمادهم في صياغة العلاقات الإنسانية حبكة سردية تعمل على غحداث تأثير وجداني لدى المتلقين. فالواقعية في جوهرها تسعى إلى خلق وهم بالواقع، من خلال تقديم قصص وشخصيات تعيش على مجرى تيار الحياة الجارف وعلى هامشه أيضا، وهذا ينطوي على أهمية أن تكون هناك دراسة متأنية للتصوير والإضاءة الطبيعية وعلى أن تكون حركة الكاميرا غير ملحوظة من قبل المتلقي، وغالبا ما يتم اعتماد اللقطات الطويلة لتعميق الإحساس بحركة الواقع، كما تتجنب الواقعية التلاعبات الصريحة والحادة في المونتاج لأجل الحفاظ على التدفق الطبيعي للأحداث. علاوة على ذلك، فإن الصوت في الأفلام الواقعية يستل مفرداته من البيئة الواقعية، فضلاً عن صياغة حوار يتموضع في سياق ما يتدفق في الحياة اليومية من ألفاظ وجُمَل، فالحوارات ليست قسرية أو درامية بشكل مفرط؛ بل تعكس الطريقة التي يتحدث بها الناس في الواقع المحسوس.
هذا النوع من الواقعية في السينما يعكس تعقيدات وفروق الحياة الحقيقية، ما يمنح المتلقين فرصة أن يروا جوانب مهمة من ذواتهم وحياتهم على الشاشة ومن خلال استكشاف هذه التقنيات، في بناء وتركيب الفيلم، نفهم أن الواقعية في السينما تعني الوصول إلى توازن دقيق بين السرد والحرفية الفنية، وهذا المزيج الفني المبتعد عن التقليد والاستنساخ هو ما يغمر الجمهور بالدهشة والمتعة بمعناها المعرفي والوجداني، لأن الشريط يبدو وكأنه شريحة من الحياة الفعلية، وليس سردًا مُصطنعًا.

أمثلة من سينما أخرى

ولكي لا تقتصر الأمثلة على نماذج من السينما الأوروبية التي كانت رائدة بهذا المسار الأسلوبي، لابد من الإشارة إلى المخرج البنغالي ستيا جيت راي (1921 – 1992) الذي يعد واحد من أشهر مخرجي الأفلام الواقعيين، ويُعد عمله «ثلاثية أبو» درسًا رئيسيًا في الواقعية السينمائية. وأفلام راي تشتهر بإنسانيتها العميقة والتصوير الأصيل للحياة الهندية، كما أن استخدام راي للمشاهد الطبيعية والممثلين غير المحترفين إلى جانب السرد الذي يحاكي عن كثب مد وجزر الحياة الواقعية، وضع معيارًا جديدًا للواقعية في السينما. وفي هذا السياق يقول المخرج راي: «إن المادة الخام للسينما هي الحياة نفسها».
ما ينبغي التأكيد عليه أن مفهوم الواقعية في السينما ليس قالبا ثابتا، بل يخضع للتحولات وبشكل مستمر مع ما يحصل من متغيرات في الزمن والواقع وفي مقدمة ذلك الموضوعات التي تتناولها السينما الواقعية. فقد برزت في الوقت الراهن قضايا جديدة أمست تفرض نفسها بقوة على المجتمعات في عصر العولمة مثل قضية العنف ضد المرأة والمثلية، وانعكاس الصراعات السياسية والاجتماعية على المهاجرين والمهمشين في مجتمعات المدن الكبرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب