نوادر ومساخر السينما والمسرح حول التاريخ والجغرافيا والفلسفة

نوادر ومساخر السينما والمسرح حول التاريخ والجغرافيا والفلسفة
كمال القاضي
قبل سنوات طويلة فطن المُبدعون من كُتاب السينما والمسرح إلى الموقف العدائي للجهلاء والسوقة والدهماء من العلم والفكر والفن، فعملوا على مواجهة تيار الجهل باستخدام السخرية، كوسيلة للرد على من يتهكم على علماء التاريخ والجغرافيا والفلك والفلسفة، ونجحوا إلى حد كبير في لفت النظر للظاهرة السلبية المُعادية للعلوم الإنسانية.
في واحدة من المسرحيات الناجحة لأستاذ المسرح فؤاد المهندس، بعنوان «السكرتير الفني» تم تقديم مُعالجة درامية كوميدية لقضية الجهل بأهمية دراسة الجغرافيا والتاريخ، حيث جسد البطل فؤاد المهندس شخصية الأستاذ ياقوت مُدرس الجغرافيا، الذي دخل في مواجهة غير متكافئة مع جمال إسماعيل ولي أمر أحد التلاميذ، الذي اعترض على قانون كروية الأرض ودورانها حول الشمس، واتهم الأستاذ ياقوت بتضليل ابنه واضطهاده ومنحه صفراً واحداً فريداً بدلاً من عدة أصفار في مادة الجغرافيا!
وأصر المعلم تاجر الروبابيكيا على استبعاد المُدرس الذي يزعم أن الأرض كروية، وظلت الأحداث الكوميدية في المسرحية المهمة الكاشفة للفارق العلمي والثقافي الشاسع بين التاجر الذي لا يؤمن بشيء غير المكسب المادي والربحي لنشاطه، والمُعلم الذي يؤدي دورة العلمي والتنويري بكل كفاءة ولا يؤمن بأن شيئاً ما يُمكن أن يُضارع العلم في قيمته ومضمونه وجدواه.
وفي مسرحية «أنا وهو وهي» قدّم فؤاد المهندس أيضاً عملاً إبداعياً نموذجياً للمواجهة بين المحامي الكبير، ورجل العصابات النمساوي بك، وفي مشهد محوري ومهم للغاية واجه المحامي الضليع في القانون والمرافعات، واحدة من أرباب السوابق أرادت الاستعانة به ليُدافع عن زوجها القاتل والمضبوط مُتلبساً بجريمة القتل، وحين حاول المحامي الاعتذار عن عدم قبول القضية والمرافعة، اتهمته بالفشل وتوعدته وهددته بالانتقام، فهي قادرة، حسب رؤيتها على شراء ألف محامٍ بالفلوس.. هنا اتضحت رسالة المسرحية التي سخرت من أولئك الذين لا يؤمنون إلا بالأنشطة التجارية التي تُدر أرباحاً وفيرة ويسفهون عن جهل، من قيمة العلم والفكر والثقافة.
وفي فيلم «الأيدي الناعمة» بطولة أحمد مظهر وصلاح ذو الفقار وصباح وليلى طاهر ومريم فخر الدين، إخراج محمود ذو الفقار، أشار الكاتب توفيق الحكيم صاحب القصة إلى عدم إدراك رموز الطبقة الطفيلية الصاعدة المُتمثلة في أحد المعلمين، وتجار الخردة لأهمية العلم وسخرية التاجر الجاهل من شهادة الدكتوراه التي حصل عليها صلاح ذو الفقار، وفق الأحداث في اللغة العربية والتعامل معه بخفة لمجرد أنه لا يمتلك أموالاً ولا ينتمي لطبقة الأثرياء. وكذلك قدمت السينما المصرية مُعالجة شديدة الأهمية لإشكالية المُقارنة الدائمة بين العلم والمال في فيلم «انتبهوا أيها السادة» بطولة محمود ياسين وحسين فهمي وناهد شريف وإخراج محمد عبد العزيز، فهذا الفيلم الذي أنتج عام 1978 نبه مُبكراً إلى خطورة إهمال العلم بالاتجاه الكلي نحو الأنشطة التجارية، والرغبة في الثراء على حساب القيمة الأساسية للمُجتمع، واعتبار الغنى والثروة هما مقياس النجاح الوحيد في الحياة، حيث وضع كاتب السيناريو أحمد عبد الوهاب أستاذ الجامعة حسين فهمي في مواجهة مادية واقتصادية صريحة مع جامع القمامة «المعلم عنتر» محمود ياسين، صاحب الملايين والعقارات للإشارة إلى عملقة رأس المال وهزيمة العلم والفكر أمام سطوة الفلوس ومظاهر الثروة الطائلة والطاغية. وكذلك جسد نور الشريف في فيلم «زمن حاتم زهران» شخصية الرجل الانتهازي الذي لا يؤمن بأي قيمة إلا القيمة المادية فقط، فمع نظام الانفتاح الاقتصادي في سبعينيات القرن الماضي تزايد الإقبال على الأعمال الحرة وسادت سياسة الاستثمار في كل شيء حتى صارت هي القانون المُهيمن والمفروض بقوة رأس المال على جميع أوجه الحياة في مصر فتولدت ثقافة المشروعات والبزنس وتراجعت القيمة العلمية والفكرية والثقافية والإنسانية.
الظاهرة المُرعبة والمُخيفة نفسها أشار إليها الكاتب نجيب محفوظ، وحذرت منها السينما في فيلم «أهل القمة» بطولة سُعاد حسني ونور الشريف وعزت العلايلي وعمر الحريري، الذي كشف عن بؤر اللصوص وأرباب التهريب في زمن السرقة والفوضى وصعود طبقة التجار والرأسماليين على أكتاف الموظفين والمُثقفين وأصحاب الشهادات الجامعية العُليا، الذين هُزموا بالضربة القاضية من عمالقة الاقتصاد المشبوه، والداعمين لسياسة السلب والنهب والخطف والنشل والاستغلال.
وليس فيلم «أهل القمة» وحده هو الذي استشرف المستقبل وتنبأ بانتكاسة المجتمع وتراجع قوته الأساسية من المُتعلمين والنوابغ، وإنما هناك الكثير من الأعمال الفنية والإبداعية، التي ناقشت الظواهر السلبية المُتصلة بهذه الظاهرة كمسلسل «الراية البيضاء» للكاتب أسامة أنور عكاشة والمخرج محمد فاضل، فشخصية المعلمة فضة المعداوي، التي جسدتها بعبقرية الفنانة سناء جميل، كانت دالة بقوة على تدهور القيم الإنسانية والعلمية في ظل تعاظم التيار الانتهازي، وصعود طبقة المُستغلين الذين عملوا على تهييف العلم والفكر والفلسفة، وخلقوا بفضل سياساتهم التجارية البحتة أنماطاً غريبة من الخطاب الإعلامي، الداعي والداعم لسياسة الحرب على الثقافة والفكر والإبداع والتنوير، وكل ما يمت للعلوم الإنسانية بصلة!
كاتب مصري