«مقامرة على شرف الليدي ميتسي» رواية المصري أحمد المرسي: تشابكات التحرّر من فيروس الأمنيات الخطرة
«مقامرة على شرف الليدي ميتسي» رواية المصري أحمد المرسي: تشابكات التحرّر من فيروس الأمنيات الخطرة
المثنى الشيخ عطية
تتعدّد أشكال الإصابة بالفيروسات، لكنّها تبقى خفيّة، ولا نشهدُ منها إلا كونَها تتجسُّد مرضاً، يصعبُ الخلاص من ألمه، المستعذَبِ إن ارتبط بالشغفِ وضخِّ الأدرينالين في حالة المقامرة بالحياة. وينجحُ الخلاص الصّعب عبرَ الألم في حالاتٍ، ويكون مستحيلاً ولا راحةَ من آلامه إلا بالموت في حالات.
في سياق الإصابات المجهولة المصدر يغوص العلماء إلى أعماق البحيرات المصابة، مستخدمين البحوث وتحليل التقاطعات لاكتشاف مسبّبات المجهول الخطر، مثلُهم مثلُ أطباء النفس، في جعل المريض يغوص إلى أعماق ماضي ما صَدَم نفسَه فانغلقتْ لحمايته، ودفعتْ ثمن الحماية بالتجسّد مرضاً يصعب الخلاص منه، لكنه يدفع لمعالجته عند تعريته؛ في الوقت الذي يَتركُ العلماءُ المستحيلَ لمصيره، إذ تعجزُ عن بلوغه التمنّيات.
ما يَحدُث في الواقع يحدث إلى درجةِ الدهشةِ في رواية المصريِّ أحمد المرسي، «مقامرة على شرف الليدي ميتسي»، التي يستخدم في إنجازها البحثَ التاريخيِّ كعالمٍ، ويحلّل التشابكات، ويغوص إلى أعماق نفوس أبطاله، ليخلقَ سرديةً يفتح باب أسرارها للقارئ بصيغة سردِ الراوي العليم. وذلك تحت عنوانٍ لصيقٍ بما يعني، إذ تُعالجُ الروايةُ سيّدةَ الشغفِ/ المقامرة التي طالما أسرت الروائيين والقراء من جهة كونِها تتعلّق من دون انفصامٍ بنفوسهم، تماماً كما فيروسٍ تنبعث حياتُه بحياةِ مضيفه ليكونا في زواجٍ كاثوليكيٍّ، واحداً في السرّاء والضرّاء، يصعبُ فصمُهما. ويدعوان العلماء الروائيين/ القراء إلى معالجة الصعوبة، كلٌ من جهته في تشابكات الرواية، حيث نقرأ كجزء من هذا رسالة التحلّي بالحكمة الموجهة من الليدي ميتسي إلى مرعي المصري الذي أحبّها كأمنية يصعب التخلّي عنها:
«هل تذكر عندما أخبرتكَ بأن بعض الأمنيات خطرة؟ أحياناً يا عزيزي مرعي يكون علينا أن نتخلّى عن الأماني التي ترفض أن تكتمل، أن ننسى الماضي معها، إن جزءاً من تعلقنا بهذه الآمال الكاذبة هي لأنها جزء من ماضينا، جزء من أرواحنا، ولكن من أقرّ هذه الأحلام إلا نحن؟ بعض الأشياء مقدّسة؛ لأنه مرَّ عليها الوقت ليس أكثر، نحن لا نولد بأحلامنا، ولكننا نخلقها، ونضيفها إلى ذواتنا، كأنها أجنحة تجعلنا نطير، لكن.. من قال إنه لو قُصَّت هذه الأجنحة سنموت؟ ربما استطعنا وقتها أن نرى ما ينتظرنا فوق الأرض، ربما ما نريده حقاً هو تحت أرجلنا يا مرعي، وليس في سابع سماء».
مشابكة الأمنيات:
تحفل الحياة بالعديد من المتشابكات التي ترتبط ببعضها وتفترق كما لو كانت أقداراً يشابهها المرسي في تلاقي وافتراق أبطاله الأربعة بِكُرات البلياردو التي تصادمتْ: «في لحظةٍ خاطفةٍ من الزمن، تقاطعتْ حيواتُهم، ثم ارتدَّ كلٌّ منهم في اتجاهٍ. ولم يلتقوا ثانيةً.. أبداً».
وفي هذه المتشابكات التي يبلورها المرسي، يلمس القارئ منذ البداية في تقديم الرواية بجملة برمهنسا يوغانندا: «إن الأمنيات التي لم تتحقّق هي أصلُ عبودية كل إنسان»؛ سعيَ الرواية إلى خلقِ محرّضات التحرّر من أسرِ الأمنيات المستحيل تحقّقها. ويقوم المرسي بذلك من خلال بلورة معاني دواخل شخصيات الرواية، وبالأخصّ أبطالها الرئيسيين الأربعة، وتطوّر فعل وأوهام الأمنيات لديهم بتطوّرات أحداث حياتهم، متشابكةً بأحداث واقع مصر على أبواب الحداثة بعد الحرب العالمية الأولى، عام 1920، وما جرّته تحتَ الاحتلال الإنكليزي على الطبقة الوسطى والفقراء من ويلات الاحتلال وفساد المرتبطين به. كما لو أنّ التاريخ يعيد نفسَه، وإن لم تتحدّث الرواية بذلك صراحةً: في المرّة الأولى كمأساةٍ، تتمثل في بناء المدن الجديدة مثل هليو بوليس/ مصر الجديدة، وفنادقها ومضمار سباق الخيل فيها، ومدينة ملاهيها، وفي الثانية التي تمثّل حاضر مصر ومدنها الاقتصادية المفلسة، وقصورها الفخمة الخاوية ومدنها السياحية الخالية حتى من أهلها، و«لويسها البونابرتي» المسخ كمهزلة، تطحنُ الطبقة الوسطى والفقراء، وفق تطبيق مقولة كارل ماركس.
فبطلها الأول سليم أفندي حقي، (الضابط المرفود من وظيفته، لوقوفه ضد الإنكليز وأفعالهم بقتل الأطفال في المظاهرات، يبيع أثاثَ بيته الفخم قِطَعاً، وآخرها الجرامافون، الذي له مكانة خاصة لدى زوجته عايدة المريضة التي يحبّها، وتحبّه، من أجل توفير ثمن علاجها). تأسرُه الأمنيات بأوهامِ الرّبح من المراهنة، في صراع الديوك الذي يعاني فيه من زعران هذه الرهانات، وفي سباق الخيل الذي يتقاطع قدره فيه مع مرعي المصري، دلّال الخيل المحترف ومستشار المراهنات، الهلفوت في ذات الوقت، المثقل بماضي التسبّب في انتحار زوجته حرقاً للخلاص من إذلاله لها، والملوَّثُ بأفعال النصب، والذي يعيش أمنية تنظيف نفسه والخلاص مما يثقله بالحب.
ويتقاطع هذا القدر مع فوزان الطحاوي/ الصبيّ ابن الرابعة عشرة، الذي قتل عمُّه والدَه، واستولى على ثروته، وأذلّه مع أمه، وأرسلَه لقبض ثمن المهرة التي باعها لسليم ومرعي نيابة عن الليدي ميتسي، جنيهاتٍ ذهباً، معهما من جزيرة سعود، موطن الخيل العربي الأصيل إلى القاهرة، والمثقل كذلك بصورة أبيه مقتولاً، وأمنياته في الانتقام له من عمّه.
مثلما يتقاطع هذا القدر مع الليدي ميتسي التي تعاني من مأساة موت ابنها المريض الذي كان يحب سباق الخيل ولم يفز مرة واحدة بالرهان فيه، وتعيش أمنية أن تُحييه بالفوز، فتشتري المهرة العربية الأصيلة شمعة باستشارة دلّال الخيل مرعي الذي اتفق مع سليم على المراهنة عنه عليها بنسبةٍ، لأنه ممنوع من المراهنة بأكثر من جنيه لمعرفته بمن يفوز مسبقاً وفق كونه من يقوم بترتيب وتزوير الفوز مع إدارة السباق.
وفي هذه الأمنيات العادية التي تجري حكايةً تاريخية ظاهراً، يقوم المرسي بترقيتها إلى مفهوم الرواية اللامعة، بتعميق تشابكات الأمنيات في دواخل ودوافع نفوس الأبطال، وكشف جوهرها المخفي في ثياب ظاهرها، وبالأخصّ ما يتعلق بالحبّ في مجتمع ذكوريٍّ يُحْسَب لقيم الرجولة المخادعة فيه الحساب. وفي ذلك يعالج المرسي مسألة حبّ سليم لعايدة بعمقٍ تحليلي نفسيٍّ، وتطويرٍ يُعرِّف فيه بطلَه على دوافع داخله التي لا يعيها، وكانت تُمرض الزوجة الحبيبة بقدْر ما تُحاول إشفاءَها، ثم تدفعُها لقرار العودة إلى بيت أبيها البيك، بعد مقاومتها الفقر دعماً لكبريائه الذكوري، عند اكتشاف كذبه عليها باستمراره في المراهنة، حين يرسل لها سليم رسالة اعتذار يكشف فيها ما عرفه عن دوافعه:
«اعذريني إن كانت حياتك معي بهذا السوء، ولكني حصيلة وهمي في النهاية.»… «لقد كنتِ دائماً بين يديَّ، ولكنّي كنتُ أبحث عنك في مكان بعيد… «عشتُ سنواتٍ طويلةً أريد أن أثبت لنفسي أني أستحقّك، غير عابئ بك، أو بما تشعرين به، إن خيطاً رفيعاً يفصل بين الحبّ الحقيقيّ والأنانية، فاعذريني إن كنت تخطّيت من هذا إلى تلك».
للتحرّر من أسْر الأمنيات:
في تعميق تشابكات الأمنيات، يقدّم المرسي مأثرةً فنيةً مميزةً بحقّ:
• في البنية التي يُهَيْكلها ببساطة الجريان في أحد عشر فصلاً، يبدأ الأول منها بعنوان «عتبة»، والأخير بـ «خاتمة»، وتأخذ الفصول التسعة على التوالي عناوين: (جزيرة الخيول، السيدة الإنجليزية، السباق، البارون، لو كانت الأمنيات خيولاً، الخيل وخيَّالها، الحقيقة، السقوط، الرحيل).
وفي هذه البنية يضع المُرسي سيناريوهاً بسيطاً، مطروقاً لكنه أخّاذٌ ويناسب روايته، يفتتحه في الحاضر، بموت عجوزٍ ثمانينيٍّ هو فوزان الطحاوي، الذي تنتشر حوله إشاعة قتل عمّه برجس وسرقته. ومسارعة ابن القتيل الشيخ غالب الطحاوي إلى تفتيش بيته للعثور على ما أشيع من أوراق الملكية التي سرقَ، ولا يعثر إلا على صورةٍ مؤرّخة بالعام 1920، تضمّ الصبيّ فوزان يمتطي المهرةَ شمعة وبجانبه رجلان هما سليم حقي ومرعي المصري، وسيدة إنجليزية هي الليدي ميتسي خشّاب. مع ثياب جوكي مازالت على حالها منذ ذلك العام.
وتَجري الرواية بسرد الماضي الذي تتضمّنه الصورة حتى الخاتمة التي تسرد الحاضر في معرفة الشيخ غالب أن فوزان ليس القاتل، والتسامح مع ما حدث.
ـــ في منظومة السّرد: بصيغة سرد الراوي العليم، الذي يبدأ من الحاضر بصيغة فعل الماضي، ثم ينتقل إلى سرد الماضي بالعثور على صورة فوزان مع أبطال الرواية الثلاثة، ثم ممارسة العودة إلى الحاضر في الثلث الثاني من الرواية، بتشابك رابط لبدايتها، في رؤية فوزان الصبي لنفسه بملابس الجوكي، التي قرر الاحتفاظ بها حتى مماته، في صيغة سرد المستقبل، من نقطة الماضي: «في تلك الليلة التي سيموت فيها سيعثر خدم غالب الطحاوي على…» ثم العودة إلى سرد الماضي حتى خاتمة الحاضر.
• في المشهدية والتصوير الحركي المتفاعلين مع داخل الشخصيات، وتجري بهما الرواية فيلماً مشوِّقاً وعميقاً متداخلاً بذات القارئ، بلغةٍ سلسةٍ فصحى، وحوارٍ بالعامية المصرية الأقرب إليها، مع وضع شروحات للغريب منها، إضافة إلى شروحات الشخصيات والأحداث والأماكن التاريخية التي تغني الرواية.
• في التشويق الذي يصوّر إصرار الإنسان على غرقه في أوهام الأمل، وشدّ القارئ الذي يتمثّل الأبطال بهذا الوهم ويتابع مصير مراهناتهم كما لو كانت مراهناته، واستمرار التشويق بخلق المنعطفات، والمفاجآت التي ترتبط بكشف الجوهر الذي تمت رؤية ما يخالفه في الظاهر.
• في طريقة بلورة الشخصيات وتطويرها، ونقل حركة داخلها بسلاسة، كما يحدث في ثورة مرعي المصري على مستخدمه خليل بك، الذي نعته بكلب، مستعيداً كرامته: «إنت اللي كلب إنت والخواجات اللي معاك»، وكما في إرادته أن يثبت لميتسي أنه تغيّر، وكما في مداخلات ما يمر به سليم بالأحداث وحركة جسده، كأمثلة.
• وأخيراً، المهم الذي يربط العنوان والتقديم وجريان الرواية وحركة دواخل شخصياتها مثل عقدٍ تتوسطه: ثيمةُ الرواية/ الأمنيات، التي تتجلّى خلال القراءة بـ: الأمنيات التي لا تُطال. والأمنيات التي تشبّهها ميتسي بخيول السباق. والتي في فلسفتها أنها «في أحلامنا فقط، حيث لا أحد تتطابق أمانيه مع واقعه». والأمنيات التي تعبِّر عن الأمل، في مشهد ميتسي السعيدة بفوزها، وتغفو على كتف سليم كأنما استعادت نفسها وجمالها، «للدرجة التي شعر بأنفاسها الحارة، فانفرج فمه لا إرادياً حتى يرتشفها، فهمست:/ ــ دائماً يوجد أمل. حتى بعد ضياع كل شيء، دائماً هو موجود».
لكنها المُحال، إذ لا يعود ابنها من الموت. والأماني التي تكشف لسليم شَبَه المهرة الحرّة بعايدة حيث: «كان يجب أن يدعها تذهب من البداية، بحرّية، وألا يتمسّك بها دون طائل».
أحمد المرسي:
«مقامرة على شرف الليدي ميتسي»
دار دوِّن للنشر والتوزيع، القاهرة 2023
499 صفحة.