الفيلم الهندي «حياة الماعز»: حبكة ميلودرامية وخطاب معبأ بالعنصرية

الفيلم الهندي «حياة الماعز»: حبكة ميلودرامية وخطاب معبأ بالعنصرية
مروان ياسين الدليمي
منذ نشأتها، كانت السينما على علاقة وثيقة بالسياسة، سواء من خلال تأثيراتها على الرأي العام أو من خلال الاستجابة للأحداث السياسية والاجتماعية. فإلى جانب أنها في مقدمة الفنون التي تقدم متعة الترفيه والترويح عن النفس من متاعب الحياة، إلاّ أنها تبقى من أهم الوسائط الفنية التي تمتلك مقومات جمالية عالية من حيث التقنيات سواء في آليات سرد خطابها أو في تأثيرها على المتلقي، بالشكل الذي يجعلها مصدر اهتمام السلطات والقوى السياسية لايصال أفكارها إلى مساحة أوسع من الجمهور. بمعنى أن السينما منصة قوية التأثير في خطابها، وفي أن تكون ميدانا مؤثرا لإيصال الرسائل السياسية وتعزيز القضايا الاجتماعية بشكل غير مباشر، وهنا تبرز خطورتها في قدرتها على إحداث تغيير في قناعات المتلقين من خلال تقنياتها الجمالية.
وتخضع الأفلام للرقابة والتوجيه من قبل السلطات السياسية في ظل الأنظمة الاستبدادية، فهي تتحكم في محتوى الأفلام وتوجيه العاملين فيها لخدمة أهدافها السياسية. بالتالي فإن مثل هذه الممارسات السلطوية تحيل الفن السينمائي من وسيط جمالي يساهم في التنوير المعرفي وإيقاظ المشاعر الإنسانية إلى أداة طيعة للترويج الأيديولوجي، منساقا خطاب الفيلم مع سياسات التزوير والتزييف والتخريب والتضليل التي تنتهجها تلك الأنظمة، مثلما هو الفيلم الهندي «حياة الماعز» إنتاج 2024 للمخرج بليسي. حيث لا يخرج في قصدياته عن ما يصدره خطاب النظام السياسي الحاكم للهند منذ عام 2014 عندما استلم رئاسة الوزراء ناريندار مامودي الذي يترأس حزب بهارتيا جاناتا الذي لا يخفي عداءه للعرب والمسلمين، وقد شهدت الثلاث دورات التي فاز فيها تصاعدا كبيرا في موجات العنف والكراهية والعنصرية ضد المسلمين الهنود، كما انخرط مامودي في تأييده لسياسات الكيان الصهيوني المعادية للعرب.
تتأسف كثيرا عندما تجد الفن ينحدر إلى مستوى متدن في خطابه، فيتحول من وسيط باعث على القيم التي تحترم كرامة الإنسان وآدميته إلى ماكنة لإنتاج التدليس وإشاعة مشاعر الكراهية والعنصرية تجاه الشعوب لأسباب قومية أو دينية..الخ. وفيلم «حياة الماعز» ينطلق من وجهة نظر غارقة بالعنصرية تجاه العرب، وهو أقرب إلى أن يكون فيلما دعائيا سياسيا منه إلى أن يكون فيلما يحاول أن يتناول قضية إنسانية، ولن أشك في أنه يعكس وجهة نظر ما مودي رئيس وزراء الهند.
هل العرب رائحتهم كريهة؟
نبرة العنصرية في الفيلم تجاه العرب واضحة لا لبس فيها، ابتدءا من حوارات المشاهد الأولى للفيلم في اللحظة التي تصل فيها الشخصية الرئيسية إلى مطار المملكة العربية السعودية، فنجده يأنف من رائحة العرب فيسد أنفه لأنها كريهة، ويصفهم بالقذرين رغم العطور التي يستخدمونها. وخطاب الكراهية في هذا الشريط السينمائي ليس موجها ضد النظام السياسي في المملكة العربية السعودية، بل مرتبط بالجانب الديني والقومي، انسجاما مع أجندة الصهيونية والسياسة الغربية في نظرتهم إلى العرب والمسلمين.
هناك من كتب عن الفيلم، وأبدى تعاطفه مع الشخصية الرئيسية وما تصادفه من محنة شديدة وجدت نفسها فيها، متجاهلا عن قصد أو دون قصد الرسائل المبطنة بالإساءة المتعمدة للعرب/المسلمين، مكتفيا بالوقوف أمام الجانب الفني للفيلم، وما أحرزه من مستوى حرفي وجمالي إلى الحد الذي صنع شريطا سينمائيا، نجح في أن يستدر عواطف المتلقين ويسحبهم إلى ضفته الرخوة، كما لو أنه مارس عليهم تنويما مغناطيسيا عبر ضخه شحنة من الميلودراما، كما هي الطبخة التقليدية في معظم الأفلام الهندية، التي يهمها أولا من الناحية الشكلية أن تلجأ إلى الإفراط في كل شيء على حساب المنطق والواقعية، وجاء اعتماد هذا الأسلوب في الفيلم للتغطية على محتوى الرسالة، وكأن الكيفية التي تم فيها تناول الموضوع منفصلة من وجهة نظر الأقلام التي أثنت عليه، بمعنى أن أصحاب هذا الرأي يجدون في الشكل الفني وما تضمنه من جماليات مبررا للأعجاب به حتى لو أن الفيلم تضمن خطابا معبأ بالعنصرية، وهم بذلك على سبيل المثال سيصفقون لكل الأفلام التي أنتجها الكيان الصهيوني وقدمت الفلسطينيين الذين يقاومون سياسات جيش الاحتلال على أنهم إرهابيون لمجرد أنها من الناحية التقنية كانت أفلاما مصنوعة على مستوى عال من الحرفية والجمال من الناحية الشكلانية.
غسل أدمغة المتلقين
خطورة الفيلم السينمائي تأتي عندما تُستخدم عناصره الجمالية اللافتة للنظر، في خيارات لا تتفق مع وظيفة الفن التنويرية، بل تُختزل في صياغة خطاب عاطفي مغرق بالميلودرامية بقصد غسل أدمغة المتلقين، فمن حيث العلاقة مع المتلقي، يطرح هنا سؤال: ما الفرق بين وظيفة هذا الفيلم وأفلام أخرى مثل «قائمة شندلر « 1999 وفيلم «ميونخ» إنتاج 2005 عن وظيفة الأفلام التي كانت تنتجها الأجهزة الدعائية للأنظمة الشمولية الشيوعية والنازية ؟
هناك أسئلة آخرى تمتلك أيضا أهميتها: هل من حق الفنان أن ينحاز ويتعصب في ما يطرحه من مشاريع فنية؟ وهل نحن كمتلقين لا علاقة لنا بما يقدمه من محتوى وتنحصر علاقتنا بالكيفية التي يقدم بها رؤيته للحب والكراهية والتعصب؟ وهل المهم محتوى الخطاب أم الكيفية التي يقدم بها؟
لا جدال في أن من حق المبدع أن ينحاز، لكن بشرط أن لا يلجأ للتزييف والتضليل على حساب الحقائق، ومن حقه أن ينحاز إلى فكرة ما، بدون أن يتورط في أن يطلق أحكاما بالجملة من غير أن يحتمي بمنطق عقلاني، قافزا فوق الوقائع بهدف تمرير رسالته المخادعة.
والفيلم السينمائي المستند في تفاصيل حكايته على الواقع لا قيمة له مهما بدا من الناحية التقنية على مستوى عال من الحرفية والجمال، إذا كان ضاربا عرض الحائط للحقائق الواقعية، أو كان ذاهبا في مقاصده إلى تحريك ودغدغة غرائز الكراهية والعنصرية تجاه أي مجموعة بشرية بشكل مطلق مفتقدا بذلك للموضوعية، وجامعا في سلة واحدة دونما تمييز بين الأخضر واليابس. وعلى الرغم من أن الفن الحديث عادة ما يفهم على أنه تعبير عن موقف ورؤية شخصية إزاء العالم، ويتعامل مع الموضوعية بطرق أكثر تنوعًا مما كانت عليه في التجارب الكلاسيكية، حيث تبدو ميادين الفن الحديث أكثر تعبيرًا عن الذات والابتكار، إلاَّ أن هناك أيضًا تجارب تستند إلى الموضوعية ولا تستطيع أن تتجاوزها خاصة إذا كانت التجربة الفنية تعتمد على استلهام قضية أو حكاية محتواها وشخوصها وزمنها ومكانها من الواقع مثلما هو فيلم «حياة الماعز» ويمكن للفنان المعاصر أن يجمع بين الواقع والخيال، أو يستخدم الموضوعية كأداة لتحفيز ذهن المتلقي على طرح أسئلة حول قضايا معاصرة، إلاَّ أن العلاقة بين الموضوعية والفنان في تجربته الفنية تدفعه بالنتيجة إلى تقديم تصوير واقعي للواقع، بعيدًا عن التأثيرات الشخصية والعاطفية التي تحدث خللا في السياق المنطقي.
فهل توفرت الموضوعية في هذا الفيلم عندما بدت الشخصيات العربية نمطية في قسوتها وغلاظة مشاعرها وجشعها وأنانيتها وجهلها واحتقارها لمن هو أدنى منها طبقيا أو يختلف عنها عرقيا ودينيا، خاصة العمال الأجانب من الهنود والآسيويين والأفارقة، إلى الحد الذي يجعلونهم يعيشون حياة العبودية في الصحراء رغما عنهم، فيأخذونهم إليها وكأنهم دواب وليسوا بشرا سالبين منهم آدميتهم وكرامتهم وحقهم في إبداء رأيهم، أو يعيروا أهمية لمشاعرهم؟
الإجابة على هذا السؤال في هذا الفيلم تذهب باتجاه ترسيخ التوقعات التقليدية المنمذجة في معظم الأعمال السينمائية الغربية وخاصة الأمريكية والإسرائيلية حول الشخصية العربية المسلمة، ويتناغم هذا الطرح مع الخطاب الذي يتم تصديره عن العرب والمسلمين وخاصة بعد احداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001.