الحَيَوان وعلم السرد ما بعد الكلاسيكيّ
نادية هناوي
لم تُعنَ النظريات الأدبية الأنكلو- فونية بدراسة سرد الحيوان، ولا بتتبع تطوراته الأدبية، وما اتسم به قديما وحديثا من متغيرات. وقد ساهم ذلك في انزواء هذا النوع من السرد كانعكاس طبيعي لما أملاه الفهم النفعي على الإنسان من اهتمام بمصالحه، وعدم اكتراث بالنظام البيئي وعناصره الحية وغير الحية. وليس المقصود بسرد الحيوان أنسنته، إنما الأنسنة جزء من فاعلية أشمل، فيها الحيوان سارد يحكي بلسان آدمي، متحكما في المسرودات الحيوانية والبشرية، يعبِّر عن أغراضه بمنظور ينتقيه بفكره وبما لديه من تجارب وخبرات.
وقد يذهب الظن خطأ إلى أنّ سرد الحيوان اقترن بالعصر البدائي وفيه تكلم الحيوان ثم صمت نهائيا في العصر البطولي، والحقيقة أن سرد الحيوان حاضر في كل العصور. وبالاستناد إلى ذاك التاريخ الطويل من التخييل الحر، يغدو توظيف العنصر الحيواني في السرد دالا على ما اختزنته الذاكرة من خرافات وأساطير، كانت قد شكَّلت اعتقادات البشر وأساليب عيشهم وطرائق مواجهة ما يهددهم.
وعلى الرغم من تكرار توظيف الحيوان في الحكايات الشعبية والملاحم الشعرية والقصص الفلسفية والنصوص الرحلية، وما للحيوان فيها من أدوار ومشاعر ومنظورات، فإن النقاد لا يعدون هذا الكائن مستقلا بنماذج خاصة به، بل يرونه جزءا من النماذج الإنسانية في توصيل الغايات وتقصي الحالات وإدراك الالتباسات والجماليات واستيعاب أبعادها. وفي هذا تقصير نقدي، وإهمال فكري لسردية الحيوان وما فيها من نماذج خاصة لكائن حي بمشاعر نفسية، تتلبسها غرائز جسدية، شكلت جزءا من المرويات الأدبية التي عرفتها أقدم الحضارات، كالبابلية والإغريقية والصينية والفرعونية وغيرها. وتكررت عبر الأزمان اللاحقة فكانت لها تقاليد، استمر توظيفها في آداب العصور الوسطى والحديثة، حتى ترسَّخت نماذجها مقرونة بالخير، أو الشر، ومتضمنة مختلف الدروس الأخلاقية وحسب، سلبية أو إيجابية الدور الذي يؤديه الحيوان وبشكلين: الأول هو الخارقية، التي تتأتى من الجمع بين صفات الإنسان والحيوان، كما في حكاية (الراعي بيتو) وهي من الأدب المصري وملخصها، أن الراعي غدر بأخيه فأراد الأخ أن ينتقم منه فتحول إلى عجل، والشكل الآخر هو التناسخ وفيه يتحول الحيوان إلى إنسان أو بالعكس كما في حكاية (ناقة البسوس) وفيها تتحول الساحرة اليمنية البسوس من شابة جميلة إلى عجوز شريرة، تَدهن الناقةَ بالمسك كي تثير الخصومة وتنشب الحرب.
وإذا كان الطابع الأخلاقي هو المميز لسرد الحيوان في العصور القديمة والوسطى والحديثة، فإن هذا السرد يبدو في العصر الراهن فاعلا باتجاه الدفاع عن الحيوان، ليس لأنه جزء من حياة الإنسان، بل لأن النماذج الحيوانية راسخة وقارة أيضا، وفيها تكون أدوار الحيوان وفاعليته محددة، ويكون الخيال حرا بكل ما هو استحالي وغير ممكن الحصول؛ فالإنسان لم يصل إلى تحقيق أغراضه بالعقل وحده وإنما بالخيال أيضا، ولا يعني الخيال أدب الفنتازيا والتغريب، بل هو كل أدب يتخيله الذهن فيصوره على أنه واقعي، وتكون الدهشة والتشويق والإثارة جزءا لا يتجزأ من هذا التخييل. والحيوان بالطبع واحد من الموضوعات التي حولها ابتكر الإنسان متخيلات، لا يمكن الإحاطة بطبيعة علاقاتها ووظائفها إلا باستحضار البعدين الواقعي والخيالي معا.
وهذا ما أخذت الدراسات الأنكلو أمريكية بالاهتمام به في العقدين المنصرمين من القرن الحالي، تحت باب السرد غير الطبيعي، وبالاعتماد على منهج التنوع الاختصاصي. وبغيتها إعادة دراسة المرويات التراثية، سواء التي أنجزها العقل البشري الأول، أو التي أنتجتها آداب العصور الوسطى. ولا يُبنى السرد غير الطبيعي لمجرد تغريب الواقع وتمويهه، بل هو سرد غير واقعي، توظف فيه اللامحاكاة التي تذهب بسرد الحيوان مذاهب أبعد من أن تكون فانتازية أو غرائبية أو عجائبية. والبون كبير بين أن نفترض سرد الحيوان واقعيا، وأن نفترض أنه سرد لا واقعي. ولا شك في أن الافتراض الواقعي يجرِّد الخطاب السردي من قوته اللاواقعية ويُضعف ما فيه من رمزية وقيمة أخلاقية هي مقصد الأديب، وفيها تتجلى فلسفته.
وليست الفانتازيا والغرائبية سوى جزء من كلية سردية أساسها لا واقعي وفيها الرمز والقناع والصدق والكذب والوضوح والغموض، وسائل بها يتأكد ما للمخيلة البشرية من طاقات، وما للإنسان من مركزية في صلته بما وبمن حوله. وبسبب هذه المركزية صارت الأولوية في القص للإنسان بوصفه كائنا معرفيا. وما سواه من الكائنات الحية الحيوانية والنباتية والمجهرية ثانوي ومساعد، وما من أهمية إلا لتلك التي تنفع الإنسان في وجوده، ولها دور في تشكيل معارفه وثقافاته وأخلاقه. وإذا كانت مركزية الإنسان مرهونة بالسرد الواقعي، فإنها في السرد غير الواقعي تتوزع بين الإنسان والحيوان، بدءا من المرويات الأدبية التي أنتجها العقل البشري الأول، وفيها اجتمع الاثنان في شكل كائنات مبتكرة غير واقعية، كما في الآلهة في ملحمة جلجامش، أو العمالقة في ملحمة الأوديسة. ويبقى للبعد الأخلاقي دوره في توظيف الحيوان في السرد الواقعي، لكن ذلك لا يعني مشاطرته الإنسانَ، المركزية كما في السرد غير الواقعي. وفيه تصنف الدروس الأخلاقية المستقاة حسب فاعلية الحيوان، كأن يكون خيِّرا أو شريرا، طاهرا أو نجسا، صديقا أو عدوا، مسخا أو حسنا.
وقد وضعت أدبيات التحليل النفسي والتفسيرات الميثولوجية أمام المنظر السردي أدوات مهمة في فهم تلك المعتقدات، وتقدير سلوكيات الإنسان لكنها في المقابل لم تركز على الحيوان، ولا أولت اهتماما مناسبا لفهم دوره كفاعل حيوي له محيطه واستجاباته التي تفرض على المنظِّر السردي البحث في فكر الحيوان وسلوكه، بكل ما فيه من غرائز ودوافع واستجابات، والانتباه إلى خطر انتهاك حقوقه، سواء بالمدنية التي صنعها البشر أو بالقوانين والنظم الصناعية والبيئية والتكنولوجية والعمرانية، التي دمرت البيئة وهددت نظامها الطبيعي. وليس سهلا بالطبع تقصي هذا كله بالاعتماد على المنهجية والتخصصية الأحادية، ما لم تنفتح المنهجيات وتتعدد التخصصات.
ولأهمية مركزة الحيوان في الفاعلية السردية، اجترح المنظرون الأنكلوأمريكيون (علم سرد الحيوان) وهو مستقل وقائم بنفسه ويندرج ضمن علم السرد ما بعد الكلاسيكي. وهو بلا ريب يعيد إلى واجهة النظرية السردية أهمية النظر الى مهملاتها قديمها وحديثها، كموضوعات أو شخصيات أو أبعاد. وفي مقدمة تلك المهملات الحيوان من ناحية إدراك المسببات والاستجابات في تشكيل شخصيته، واحترام حقوقه ودور الإنسان الأخلاقي في فهم عالم الحيوان. ولا يكون ذلك إلا بالنظر غير الواقعي، بعيدًا عن أي محددات أو إشارات اعتاد النقد الأدبي بحثها والتطرق إليها.
وليس سرد الحيوان فرعا من السرد غير الطبيعي، وإن كان الأساس الذي يقوم عليه هذان السردان، واحدا وهو مخالفة المألوف والمراهنة على المستحيل وغير المعقول في بناء الأحداث وصياغة الأقوال السردية، اعتمادا على التضاد السردي، أو اللامحاكاة واستعمال الخيالية fictionality. غير أن الفارق الحقيقي بين السرد غير الطبيعي وسرد الحيوان هو أن تمثيلات الأول واسعة لشمولها كل ما هو محال أو استحالي أي موصوف، بأنه لا طبيعي أو غير واقعي في حين تكون تمثيلات الثاني مخصوصة في الكائن الحيواني ومحددة بصورته البايولوجية، مضافا إليها صورته التخييلية التي معها يُكمل الحيوان ما ينقصه وهو التفكير والكلام. وبكل ما يعنيه هذا الامتلاك من عقل ومنطق وحكمة.
كاتبة عراقية