ثقافة وفنون

يوميّات أصفهان

يوميّات أصفهان

حيدر المحسن

في إحدى سنين التسعينات، أي بعد غزو الجيش العراقي للكويت، سألت صحافيّة ألمانيّة الرئيس العراقي السابق صدام حسين عن أحزاب المعارضة في البلاد، وكان جوابه صادما للسيّدة. قال: «أنا نصفي معارضة» وكان يؤشّر بذراعه قاسما بدنه طوليّا إلى قسمين. بثّ تلفزيون بغداد المقابلة، ونشرتها الصحافة، فهو أمر متّفق عليه تقريبا وليس غريبا في البلدان التي تسيّرها أنظمة دكتاتوريّة صِرف، أن يكون هناك حزب واحد يقود دفّة الحكم، وبقيّة الأحزاب لا وجود لها لأنها ارتحلت إلى الخارج، أو غيّبتها الإعدامات وأقبية السجون. إعلان صدام حسين أن نصفه معارضة لا يدخل في باب السياسة، وإنما في خانة علم الأمراض، فالرجل يعلن صراحة أنه مصاب بانفصام الشخصيّة (الشيزوفرينيّا) وما كان بحاجة إلى أن يُجهد نفسه لإثبات ذلك، وبالتالي جاءت قراراته وخطواته في الحكم مضطربة إلى أبعد الحدود، انتهت بمشهد إعدامه الشهير. لا أقول إن نظام الحكم في الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران يشبه ما كان في بغداد تلك السنين، لكن ثمة قواسم مشتركة تجمع بينه وبين أنظمة شموليّة في بلدان مثل الصين وروسيا وكوريا الشماليّة، وغيرها، حيث ينعدم تقريبا دور المعارضة، وينفرد الحزب الواحد في سياسة البلاد.

كتب هيجل عام 1837 مقالا وصف فيه أثينا عاصمة الإغريق بأنها «المدينة التي عرفت النظام الديمقراطي حوالي 100 عام في القرن الرابع ما قبل الميلاد» وهي «المكان أو الواقع الذي يجد الفرد فيه حريّته». إن وجود أحزاب المعارضة يضمن استقلاليّة رأي الفرد، وبالتالي المجتمع، بغياب هذه الإرادة الجماعيّة لا يكون للأمة دور في بناء الحضارة. وعندما تغيب الحريّة يتموّج كل شيء في الفراغ، المؤسسات والبنايات والحدائق والشوارع، ومعها بقيّة إنجازات الهندسة والفن. وعلى هذا الأساس نقدّر الآن العبارة الشهيرة التي قالتها زوجة الرئيس الأمريكي نيكسون عند زيارتها للاتحاد السوفييتي، واصفةً موسكو بأنها مدينة «هادئة ونظيفة ومغمورة بالضياء الذي نراه داخل مستشفى». في هذا المبنى كلّ شيء متوفر وكلّ شيء مفقود، لأن حريّة ساكنيه تكاد تكون معدومة، أو أنها مؤجّلة إلى حين.
لم أستطع الكتابة عن أصفهان إلا بعد أن غادرتها، «فأفضل الكتابات أساسها الفقد والغياب» بتعبير إيتالو كالفينو. وأنا أستجلي أنحاء المدينة، كنتُ أتحرّى ظلال الحزن وأمارات الأسى على وجوه الناس، فهم غير راضين بقدرهم الذي انعكس في صورهم وأحاديثهم. بغضّ النظر عن الاختلافات العديدة بين الأمّتين، في إمكاننا رؤية حضور الثقافة الهيلينيّة بشكل واضح في أصفهان، والتيقّن كذلك بأن المادّة التي تدخل في تركيب جوّ المدينة العام، وليعذرني القارئ على وعورة هذا التعبير، لكني وجدته الأقرب لتبيان المرام، لا تشبه المادة تلك التي تتكوّن منها أكثريّة مدن الشرق، حيث الحاكم ظالم على الدوام بحقّ الرعيّة، ومتعسّف في طريقة حكمه. العلاقة بين بلاد فارس وحضارة أثينا تعود إلى عام 333 قبل الميلاد، عندما وقعت معركة إسوس بين الإسكندر المقدوني والفرس الأخمينيين بقيادة الشاهنشاه داريوش، وأسفرت عن هزيمة منكرة للشاه الذي فرّ من أرض المعركة تاركا زوجته وأمّه وبنتيه سبايا. ثم دخل الجيش الغازي المدن الأخمينيّة، وارتاع الملك المقدونيّ من الرقي الحضريّ فيها.

شرع بعد ذلك بتبديل طاقمه في الادارة والهندسة والموسيقى وغير ذلك بأبناء هذه البلاد، وحدث منذ ذلك الزمان تقارب وتماسّ ثقافيّ بين الاثنين. الفرس الذين يسيرون على «سجّاد نفيس ويتحدّثون شعرا» مثلما يقول صاحب المثل، نقلوا علوم المدينة المزدهرة إلى روما، وحمل الإسكندر الغازي بالمقابل مع قوّاته فنون الحريّة إلى هذه الديار.
هناك صراع مرير بين القديم والجديد يسود الشارع الإيراني الآن، ولا يريد أن يسلّم البعض بأنها سنين تغيير في كلّ شيء، وما كان كان، لأن الماضي لا يعود. الأجيال القديمة من الرجال والنساء تغلب عليهم الاستكانة والقبول بالأمر الواقع، بينما يكافح الجيل الجديد من أجل أن يثبت انتسابه إلى الحاضر بجرأة وشجاعة، وبالطبع يعلم القادة في إيران بصور الحريّة التي حصل عليها الشباب، بحيث لم تعد هناك مخاطرة في النفس لمن يجرُؤُ عليها. شابّ يعمل في مكتبة تبيع المؤلفات الأدبيّة والفنّية، جمعتني معه جلسة في النهار وأخرى تختلف كثيرا في الليل. يمكنني وصفه بأنه رجل يريد أن يضرم النار حتى في الماء، من أجل أن يجتاح المستقبل عنوة، أو يصحو وقد وجد بلده عاد مئات الخطوات إلى الماضي المذهل. حدّثني قائلا إن 90 بالمئة من الإيرانيين يعدّون العلمانيّة نسقا شاملا للتفكير ودليلا إلى تنظيم المجتمع، لا بسبب افتراض معاداتها للدين، ويدعمون في الوقت نفسه التعدديّة التي تفتح السبيل أمام الحكم الديمقراطي.

مدينة أصفهان محاطة بالجبال من جهة واحدة، وهناك نهر عريض يخترقها لكنه يجفّ في الصيف، يعبره جسر مبني من الطابوق يعود الى عهد الشاه الصفوي، يُدعى جسر الثلاثة وثلاثين قوسا. لم أشهد احتفالات مساء يوم الخميس تحت أقواس هذا الجسر. لكن صديقي الأديب والأستاذ المترجم في جامعة طهران (صادق دارابي) الذي لازمني طوال وقت زيارتي، قال لي إن الشباب يرقصون ويغنّون ولا يبقى أثر لحجاب يغطّي شعر فتاة. بما أن الأشجار كثيفة، فإن الخضرة بدت لي في الشوارع الظليلة ذات تدرّجات تعكس لمعانا كالذي نراه في الصور الملوّنة في الأفلام والمجلات. هناك في الطرقات وأينما اتّجهت عيناك أزهار جيرانيوم بيضاء وورديّة وبنفسجيّة فاتحة، لكن اللون الغالب هو الأحمر، وكنت أراها مثل قطرات فصدت من الشرايين. يقول الشاعر والفيلسوف الفارسي مولانا جلال الدين الرومي: «مع الزمن، يتحول الألم الى حزن، و يتحوّل الحزن إلى صمت، ويتحوّل الصمت إلى وحدة ضخمة وشاسعة كالمحيطات المظلمة». إنها صرخة احتجاج ضدّ رعب وعدميّة الحياة بصورة عامة. هل بلغتني هذه الوحدة وهذا الصمت وأنا أتجوّل في المدينة؟ الطريق الى الفندق في المساء يغدو طويلا، لأنه عليّ أن أعبر الجسر ذا الثلاثة وثلاثين قوس، يصلني في الحقيقة أو في الخيال صوت ناي ناحبٍ وقيثارة نوّاحة، وفي بعض الليالي كانت تبلغني أغاريد وأناشيد. يا للحظات صمت القمر الحبيبة، يستقي منها الأصفهانيّون معاني وآمالاً!

الساعة الآن السادسة صباحا، الشمس أشرقت للتوّ، وفي الغابة القريبة من محلّ سكني يقود معلّمٌ شابّ عددا من الشيوخ يؤدون تمارين رياضيّة على أنغام الموسيقى من جهاز تسجيل محمول. في غير بلد في الجوار من إيران، ترى الرجال كبار السنّ بلحى رماديّة يتصنّعون الوقار والحكمة والورع، وكلّ واحد منهم ينظر إلى السير في الشارع من غير مسبحة وعكّازة كرفاهيّة مستحيلة تقريبا. ليس بعيدا عن مكان الشيوخ، كانت النساء من نفس الأعمار يجتمعن في ركن من الغابة بعد درس الرياضة في حفل فطور صباحيّ. بدا المشهد منزليّا وحميميّا، حيث الهواء نقيّ وشفاف، والعشب الغضّ يسطع سطوع الزمرّد المرح، وفي جميع الجهات شجيرات عطريّة مزهرة وأشجار توت عملاقة.

كيف يمكن لأحد من المسؤولين في الحكومة إقناع هاتين الصبيّتين اللتين تبلغان حوالي 12 سنة، وكانتا ترتديان بنطلون جينز وتي شيرت ودون حجاب، تقودان دراجتين هوائيتين وتمسك إحداهما بكفّ الأخرى والذراع على استقامتها، بينما تتسرّب أشعّة الشمس مثل ستائر ضبابيّة وتتموّج، والصبيّتان تترنّمان بأغنية يتّفق إيقاعها مع ستائر النور وهي تُرفع وتُسدل من سماء زرقاء جُمانيّة. كيف تستطيع حكومة الجمهوريّة الإسلاميّة إقناع الصبيّتين بعد سنة من الآن، أن تضعا حجابا كاملا وغير منقوص على الشعر وغير الشعر؟ في هذه اللحظة ضجّت الغابة بصياح طيور الزاغ، حطّت كلّها على أغصان شجرة أثل عالية، وبدأت حفلها الذي لا يختلف كثيرا فيما يبدو عن المهرجان الذي سيُقيمه الشباب هنا في المساء.

الذباب ميت في أصفهان، أو إنه انقرض، ولا وجود لحشرة هائمة غير النحل، يطير في سماء الأماكن الخاصّة بالقمامة، وفي أماكن تنقية الحشائش، يقوم بهذا العمل فلاحون يرتدون البدلة الرجاليّة (سترة وبنطال وقميص) وإن كانت قديمة، مع قفازات عملٍ برتقاليّة اللون، يبكّرون في شُغلهم مع حلول الصباح. من الأمور الطريفة في الجمهوريّة الإسلاميّة أن عطلة العاملين في مؤسسات الدولة في الأعياد هي يوم واحد، في اليوم الثاني من عيد الأضحى شاهدتُ الموظّفين والعمّال يتوجّهون إلى مبنى البلديّة القريب، والعاملون في المصرف ذي الواجهة الزجاجيّة يجلسون إلى مكاتبهم في السابعة صباحا.
النساء الأصفهانيّات متحرّرات في الملبس وفي التجمّل وفي أنواع الحُلي وغيرها من إكسسوارات، والباقي من تعاليم الجمهوريّة الإسلاميّة أثرٌ لحجاب نزل شيئا فشيئا عن الرأس، وصار قطعة ديكور تشبه الشال اللطيف تتزيّن به المرأة وتتجمّل. من يصدّقني إذا قلتُ إنني تبضّعت مع ابنتي (رند) من أسواق المدينة ثيابا رجاليّة ونسائيّة لم تبلغ تفاصيلها مدنَ بيروت والقاهرة وإسطنبول أمّ الدنيا؟!

كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب