مقالات

عندما ينقلب الاعتدال العربي على نفسه؟

عندما ينقلب الاعتدال العربي على نفسه؟

جمال محمد تقي

الاعتدال في السياسة عكس التطرف، يمينا أو يسارا، وعليه فالوسط هو أقرب للاعتدال من الطرفين، وعلمتنا تجربة السياسة العربية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، أنها شهدت في كل مراحل محطاتها الكبرى والصغرى، مزيجا غنيا بالتناقضات والاصطفافات والتباينات التي يصعب أحيانا تصنيفها، ومرد ذلك، الطبيعة المركبة للصراعات الدائرة، وتنوع محركاتها ووجهتها العامة والخاصة، مكانيا وزمانيا، وفي المقدمة من كل ذلك إشكاليات تبعية النظام السياسي العربي برمته للاعبين كبار في العالم، وتحديدا في منطقتنا العربية، ذات الموقع الفريد في توسطها لأقاصي الشرق والغرب، وما تحتويه من ثروات حيوية، وإرث محفز للوثوب والتحدي، وهذا ما دفع اللاعبين الكبار للتغلغل فيها، وتعطيل نموها التلقائي، بنوع آخر من النمو المشوه، الذي يجعل من الفرقة والتناحر رديف للبقاء، فكانت سياسة فرق تسد، وكي تكتمل الشرنقة، ولا تقوم لوحدة الآمال قائمة، زرع مبكرا ورم إسرائيل ليكون أمرا واقعا برعاية وعناية وحماية حكومات الأخوين سايكس وبيكو، والعم سام، بعد أن سد الفراغ البريطاني والفرنسي، الذي بات محسوما منذ انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين 1948، ثم العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ليجعل من المشروع الصهيوني هو البديل، بوجه أي محاولة لإقامة مشروع عربي إسلامي، وجعل مجرد فكرته مثارا للتندر، وقيامته ميتة حتى لو قدر لها القيام!

الحرب الباردة

خرائط الانقسام العربي متغيرة حسب المتغيرات السياسية التي شهدتها البلدان العربية الرئيسية وتفاعلها مع تداعيات الحرب الباردة، فقبل اندحار النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، حاول بعض العرب تجريب نهج عدو عدوي صديقي، بمغازلة الألمان، للنيل من الإنكليز والفرنسيين الذين استعمروهم وجعلوهم أتباعا متصارعين، وبعد انتصار الحلفاء، وبروز المعسكر الاشتراكي كقوة عظمى تُنازع التكتل الغربي بزعامة أمريكا، تغيرت ملامح المشهد العربي وبرزت أنظمة تدعو للتحرر الكامل ومقارعة المشروع الصهيوني بتجميع الطاقات العربية نصرة للمجهود الحربي، ثأرا للنكبة العربية في فلسطين، والولوج بالمشروع الوحدوي الذي يتجاوز القولبة الشكلية التي قامت عليها جامعة الدول العربية، ومجلس دفاعها المشترك الذي بقي حبرا على ورق منذ 1950 بسبب التبعية للكبار الذين اختلفوا بأشياء كثيرة إلا قيام إسرائيل:
استقلال سوريا وجلاء القوات الفرنسية عام 1946، وثورة 23 يوليو/تموز 1952 في مصر التي أجلت الانكليز وأممت قناة السويس، استقلال السودان وجلاء الإنكليز 1956 ، وانتزاع استقلال تونس 1956 من الاستعمار الفرنسي، وثورة 14 تموز/يوليو 1958 في العراق التي أسقطت حلف بغداد الاستعماري، وحاصرت ملكية شركات النفط الاحتكارية، قيام ثورة الجيش اليمني 1962 التي أطاحت بحكم الإمامة، انتصار الثورة الجزائرية 1954 ـ 1962 وتحرير البلاد من الاستعمار الفرنسي، انطلاق ثورة 14 تشرين الأول/أكتوبر في اليمن الجنوبي ضد الاستعمار البريطاني 1963 ـ 1967 ، بعد قيام كل هذه الانقلابات الثورية، والثورات التحررية، التي شغلت بمخاضاتها وصراعاتها المحلية والإقليمية عقودا من المد والجزر، انبثقت أنظمة جمهورية عسكرية وشبه عسكرية ـ ثورية ـ شرعت بعلاقات ودية مع المعسكر الاشتراكي وعلاقات متذبذبة مع المستعمرين القدامى والجدد ، ودخلت أغلب هذه الجمهوريات في منازعات بينية مع الأنظمة المحافظة التي بقيت بعلاقات وطيدة مع قوى الهيمنة الغربية وفي مقدمتها أمريكا، وهذا ما انعكس على جديتها في مقارعة المشروع الصهيوني ربيب المشروع الإمبريالي، فالصراع المصري السعودي في اليمن بين فلول الإمامة والجمهوريين كان سافرا، وكانت بعض دول الخليج والسعودية والأردن والمغرب، تذود عن نفسها من تغلغل الحراك الوحدوي الناصري الذي يعيب عليها تبعيتها!

مشروع المواجهة

بعد حرب 67 حيث نكسة حزيران/يونيو، انحسر الزخم الوحدوي ، برغم اشتعال حرب الاستنزاف، وأطلت برأسها حلول التسويات لتصفية الحساب مع كل الرافضين للأمر الواقع.
واستمرت حتى بعد حرب 1973 التي شهدت عبورا نسبيا على واقع الهزيمة المطلقة، وعندما انحرف السادات وأخل علنا بالإجماع العربي بحل منفرد على حساب الأطراف المتضررة بشكل مباشر وغير مباشر، كانت المقاطعة العربية لنظامه متباينة برغم التوافق المعلن على ضرورتها، هنا انتقل مركز الثقل للدول المحافظة التي تقدم نفسها كدول معتدلة بتزكية الأمريكان، وذلك لاختلال ميزان المواجهة المحتدمة، والتي عمقتها وقتها الخلافات السورية العراقية والتدخل العسكري السوري في لبنان ومحاولات فرض الوصاية على القرار الفلسطيني، والشطحات الجانبية لنظام القذافي!

عدالة القضية

1979 كان عاما مزدحما بالأحداث الجارفة والمؤثرة على المناخ السائد في عموم المنطقة والعالم، نجاح الثورة الإيرانية، دخول القوات السوفيتية أفغانستان، احتلال الحرم المكي من قبل جماعة جهيمان العتيبي، سيطرة صدام حسين المطلقة على السلطة في العراق بعد تنحي أحمد حسن البكر، توقيع معاهدة السلام بين السادات ومناحيم بيغن في كامب ديفيد، ومن الشعور بخطر تصدير الثورة الإيرانية للعراق، والتحرشات الحدودية بين الجانبين اندلعت شرارة الحرب العراقية الإيرانية 1980 ـ 1988، ووقفت أغلب الدول العربية المعتدلة بما فيها نظام السادات إلى جانب العراق، بمباركة أمريكية، منطلقة من استراتيجية الاحتواء المزدوج لإيران والعراق، وذلك بضربهما ببعض، لتخرجا منهكتين وغير قادرتين على التحدي المخل بموازين القوى الإقليمية، وتحديدا التفوق الإقليمي الإسرائيلي، ولم تفوت إسرائيل الفرصة، لقد دمرت مفاعل تموز في العراق، وزودت إيران بالأسلحة عبر طرف ثالث، لتطيل أمد الحرب التي تحولت الى حرب استنزاف، المستفيد الأول منها إسرائيل، وحاول العراق إيقافها، وذلك بموافقته المبكرة على وقف إطلاق النار، والانسحاب الى الحدود الدولية، ولم تستجب إيران إلا مضطرة بعد ان أمطرت عاصمتها الصواريخ المزعزعة لأمنها الداخلي، وهنا لعبت دول الاعتدال العربي دورا سخيا ويكاد يكون دافعا لاستمرار تلك الحرب دون التفكر بالتسويات أو الجنوح للسلم على عكس موقفها من مواجهة العدوان الإسرائيلي، ويبدو أن السبب واضح في الحالتين!

اعتدال التطبيع مع الإبادة

كان احتلال العراق للكويت ومن ثم ضمها بالقوة، قمة الفشل المتدرج للنظام الرسمي العربي الذي يقاد فعليا من خارجه، بكل معتدليه المتعاملين مع المشروع الأمريكي الصهيوني وجمهورييه المتقافزين باستبدادهم، فمن تدافع وبدفع خارجي لإشعال حرب الخليج الأولى ليس حبا بالعراق وخوفا من ثورة الخميني وإنما بدفع أمريكي صهيوني لتنفيذ استراتيجية الاحتواء المزدوج، هو نفسه كان شريكا في محاصرة العراق بعد توقف الحرب مع إيران، ونظام صدام خرج مكتشفا للعبة الثلاث ورقات التي لعبتها معه أنظمة الاعتدال لقد تقمصت دور الحليف السخي، وعندما انتهت المهمة الموكلة لها، طُلب منها لعب دور الوجه الآخر، ولعبته دون وعي، فكانت حرب الخليج الثانية والثالثة.
والآن يستكمل المسلسل وهذه المرة مع إيران، حيث تلعب دول الاعتدال اللعبة ذاتها، استجابة للمشروع الامريكي الصهيوني ، وتحديدا بعد ان تكسرت أجنحة الأنظمة غير المعتدلة، فغياب القطط شجع الفئران على تجاوز الخطوط الحمر، بالتحالف المعلن مع المشروع الأمريكي الصهيوني، المغلف بالتطبيع التدريجي مع إسرائيل وتصفية القضية الفلسطينية، وإذا كانت هناك حسنة وحيدة لنتنياهو فهي فضحه لما تتستر عليه أنظمة الاعتدال الكاذب، فهو يُشهر بالخطب والخرائط ما تحت الطاولة، تحالف إقليمي استراتيجي بقيادة إسرائيل ورعاية أمريكية يتنافس على استكماله الحزبان الجمهوري والديمقراطي، ترامب أو هاريس ، كلاهما سينفذ الخطة، تحالف أمني عسكري اقتصادي سياسي ثقافي، مهمته الأولى تصفية القضية الفلسطينية، بالقضاء على المقاومة الفلسطينية وتمرير حلول الإدارة الذاتية للتجمعات الفلسطينية، بالتزامن مع تشديد الخناق على إيران ومحورها ومنعها من التسلح النووي بكل الوسائل بما فيها العسكرية!

جامعة الدول العربية

إذا كانت مقتضيات الاعتدال العربي تستدعي عدم تحريك أي ساكن إزاء إبادة قطاع غزة وقضم وضم القدس والضفة الغربية والتعامي عن سخرية إسرائيل بمبادرة السلام العربية وتصغير جامعة الدول العربية لصالح قيام منظمة إقليمية جديدة بالتشاور مع إسرائيل، واستغلال كل نقاط الضعف في الأطراف العربية المعارضة بغية تركيعها، بسيول من الضغوط المالية والأمنية، فإنه ليس أمام الباحثين عن الحقوق المشروعة في عالمنا العربي سوى التطرف، لأن هذا الاعتدال العربي هو انحراف مطلق عن السراط المستقيم!

كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب