مالك تطبيق تلغرام بين أمانة التشفير ومخاطر التقصير

مالك تطبيق تلغرام بين أمانة التشفير ومخاطر التقصير
بيير لوي ريمون
هذه قصة افتتان رقمي… حتى لا نتحدث عن «فتنة رقمية» في حدود الظرف الآني على أية حال. صحيح أن مغامرات بافل دوروف جديرة بأن تصنف ضمن قصص سيناريوهات أفلام الخيال العلمي، والتجسس والتحقيق البوليسي، وغيرها من أعمال درامية تحبس الأنفاس، لكننا لسنا هنا في واقعة من الخيال العلمي، بل في حضرة واقع يختلط فيه السياسي بالاقتصادي والاجتماعي.
كنت موشكا على إضافة «واقع افتراضي» وهذا ليس بعيدا عن الصحيح، فدوروف وماسك وزوكربيرغ والفرنسي كسافي نييل وغيرهم، أقطاب من الواقع الافتراضي وأرباب إمبراطوريات رقمية، جعلت من الافتراضي واقعا، ما حول التلاعب بالألفاظ إلى أمر هزيل. لكن واقعا آخر بدأ أيضا في الظهور ففرض اختلاط الرقمي بالسياسي، كنمط عمل على قادة العالم بما لا يقبل الرجعة.
نعم.. ثمة افتتان معروف للرئيس ماكرون بالشأن الرقمي. وتحويل فرنسا إلى حاضنة نموذجية لـ«هاي تيك» بل إلى «بلد – ستارتاب» (ستارتاب نايشن) حاضن للابتكار، هذا المشروع أخذ يتبلور ضمن توجيهات كان قد حركها إيمانويل ماكرون عندما كان وزيرا للاقتصاد، في ظروف كهذه، ليس من المدهش جدا أن تأخذ قضية دوروف أبعادا ترقى بالنسبة للبعض إلى فضيحة دولة، هنا، يحق للرئيس الفرنسي أن يقول ما قاله في صربيا عندما سئل عن الموضوع، فمقدمة رده عن السؤال الذي طرحه الصحافي عن دواعي حضور دوروف إلى فرنسا، ومدى إبلاغ ماكرون سلفا بذلك كانت في محلها تماما: «فرنسا محبة للحرية ومحبة للابتكار، لم أوجه أية دعوة لدوروف، وملابسات ظروف اعتقاله أمر يخص القضاء المستقل. وعلى العدالة أن تأخذ مجراها».
رفض دوروف التعاون مع السلطات، ورفضه تسليمها محتويات حساسة أمر ينبني على النقاش الفلسفي غير المتناهي، المعروف حول الحدود التي تنتهي عندها حرية التعبير
الكلام كلاسيكي كل الكلاسيكية. وليس عيبا أن يحل علينا دوروف ولا غيره من زملائه في مجالات الابتكار العلمي، ويجب انتظار مخرجات تحقيق ستسمح لنا باستنتاج ما يجب استنتاجه، لكن الاتهام خطير ويمكننا تلخيصه كالآتي: استخدام التشفير كضمان لعدم الشفافية، ما يختلف تماما عن استخدام التشفير ضمانا للسرية.. بعبارة أخرى، السؤال المطروح هو، إلى أي حد يمكن اعتماد تشفير مضامين يتم تداولها على «تلغرام» بكيفية تجعل من عدم التقنين قانونا، تحت ذريعة الحرية المطلقة في نشر المعلومة وتداولها. هنا يكمن بيت الداء. دوروف مخترع تطبيق يتابعه أكثر من 900 مليون شخص، ولك أن تكون مفتونا بالهاي تك، لك أن تكون مهووسا بأن يستقطب بلدك أعلام الستارتاب نايشن الفارقة، لك ذلك بكل تأكيد.. لك أيضا أن تجعل من خدمة تطبيق تراسل مشفر مثل «تلغرام» «أداة مقاومة» كما أرادها دوروف خلال ثورة «ميدان» الأوكرانية، تلك الثورة التي سميت بـ«ثورة الكرامة « والتي تمكن المعارضون عبرها من تداول سرية محتوياتهم بينهم بأمان. لك أيضا أن تستخدم تطبيق «تلغرام» في خدمات عملياتية نوعية كتدبير شؤون الدول.. أوليس وزراؤنا هنا في فرنسا يتفاعلون بها على مرأى ومسمع من الجميع؟
المشكلة ليست هنا.. المشكلة تكون عندما تنطبق السرية ذاتها، وينطبق ذاك التكتم على محتويات تتصل بالجريمة المنظمة واستغلال الأطفال في مواد إباحية، وتهريب المخدرات وما شابه ذلك من جنايات تقع تحت طائلة القانون.
رفض دوروف التعاون مع السلطات، ورفضه تسليمها محتويات حساسة أمر ينبني على النقاش الفلسفي غير المتناهي، المعروف حول الحدود التي تنتهي عندها حرية التعبير، وأصبحت ظروف التطور التكنولوجي توسع مدار النقاش ليشمل الآن حدود تبادل المحتويات على التطبيقات وتسليمها لسلطات موكول إليها إنفاذ القانون.
يمكن حسم هذا النقاش أخلاقيا بسهولة، لكن الموضوع الأكبر أبعد من أن يكون محسوما، وهو توسيع أرضية تطبيق قوانين حماية الأفراد على فضاءات يغلب فيها الإبداع التكنولوجي والرقمي على طرق إنفاذ القانون التقليدية بمسافات شاسعة بل شاسعة جدا.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي