ثقافة وفنونمقالات

قصة الفلسفة بقلم الدكتور رياض العيسمي

بقلم الدكتور رياض العيسمي

قصة الفلسفة
بقلم الدكتور رياض العيسمي
في عام ١٩٨١، وقبل مغادرتي للعراق في رحلة الدراسات العليا إلى الولايات المتحدة، أهداني أحد الأصدقاء كتاب “قصة الفلسفة: من سقراط إلى جان دوي” لمؤلفه ول ديورانت. وهو كتاب واسع وشامل يقع في حوالي ٥٠٠ صفحة. يشرح ظهور وتطور الفلسفة على مدى عدة عصور، من عصر سقراط الأستاذ والفيلسوف الإغريقي (BC 470-399) إلى عصر عالم النفس وفيلسوف التربية الأمريكي جان دوي (1859-1952). بدأت في قراءة الكتاب فور إقلاع الطائرة من مطار بغداد. وأكملت ما يقارب نصفه خلال رحلة دامت ٣٦ ساعة انتهت في مطار JFK في نيويورك. وأكملت ما تبقى من الكتاب لاحقا خلال فترة دراسة اللغة الإنكليزية في معهد جامعة نيويورك. استمتعت بقرأة هذا الكتاب كثيرا واستفدت منه ما لم أستفده من قبل من مادة فلسفة المسرح وملحقاتها التي درستها أثناء مرحلة البكالريوس في جامعة بغداد. ولهذا لم أتردد في اختيار مادة فلسفة التربية لتكون أول مادة أسجل عليها في برنامج الماجستير في جامعة توسكيكي في ولاية ألاباما. وفي أول درس لهذه المادة، استجمعت قواي الفكرية الكامنة ومتسلحا بما قرأته في كتاب قصة الفلسفة ومتحديا عائق اللغة الذي كان عاملا مؤثرا في بداية المطاف، لأدخل في جدل مع أستاذ المادة حول مفهوم الحقيقة المطلقة التي كانت عنوان الدرس الأول. وكان أستاذ المادة بدين ضخم القامة ومن ذوي البشرة السمراء الداكنة. وكان متدين وأصله من هندوراس ولديه لكنة خفيفة. وهذا ما شجعني على الكلام والدخول في جدل فلسفي معمق يحتاج إلى لغة متينة لا تأتي إلا بعد دراسة طويلة وممارسة مكثفة. وأنا لم أدرس سوى دورة لغة واحدة دامت لأربعة أشهر فقط. وما أن أكمل هذا الأستاذ كتابة عبارة “الحقيقة المطلقة” على السبورة، حتى رفعت يدي. فاستغرب من أن يكون هناك طالب لديه سؤالا حول العنوان. ومع هذا سمح لي بالكلام، ولكن على مضض. فقلت بشكل مباشر ودون مقدمات ومستغلا الحرية المتاحة في الولايات المتحدة: لا يوجد شيء في الوجود يمكن أن يكون حقيقة مطلقة. فزاد استغراب الاستاذ عندما سمع مني ما سمع. ولكن دفعه الفضول لأن يعرف المزيد لما عنيته بما قلت. وقال بهدوء: أعد ما قلت وأخبرنا لماذا لا توجد حقيقة مطلقة. فقلت: من المعروف بأن الحقيقة المطلقة تشبه بقطه سوداء تقبع في زاوية غرفة مظلمة. ولا يرى منها إلا عيناها. وهذا ما كنت قد قرأته في قصة الفلسفة. ولهذا قلت بنبرة الواثق: برأيي أن الحقيقة المطلقة تقتصر على مطلقين اثنين فقط، هما الكون الذي هو المطلق وذلك لأن الإنسان لم يستطع اكتشافه بشكل كامل بعد. والله مطلق المطلق لأنه يعتبر هو خالق الكون. وهو الذي لا نستطيع أن نراه، ولكن يمكن أن نستدل على وجوده من خلال نظام الكون المحكم الذي مازلنا نجهله بكل تفاصيله. وكل ما غير الكون والخالق هو نسبي. وبالرغم من ارتياح الأستاذ لسماع مداخلتي حول الله والكون بكونه متدين، لكن كلمة “نسبي” لا بد وأنها هيجت في داخله مكامن الفلسفة التقليدية. فوجدها فرصة لتثبيت مرتكزات الحقيقة المطلقة وأصول الفلسفة المثالية السائدة في فلسفة التربية وأن يضع النسبية في قفص الاتهام. فقال على عجل ولكن هناك حقائق أخرى مطلقة. وسارعت بالسؤال: وهل يمكن لك أن تسمي واحدة منها. تردد للوهلة الأولى لأنه لم يكن يتوقع مني هذا السؤال. وبانت على ملامحه علامات الامتعاض. وذلك لأن الأمثلة الرصينة في هذا الخصوص تحتاج إلى توصيف حالات معمقة، وهذا مجرد نقاش عابر بين طالب وأستاذ.. فنظر إليّ وقال: على سبيل المثال أنت الطالب “الأبيض” الوحيد في هذا الصف. وهذه كانت حقيقة بالفعل لأن هذه الجامعة كانت تستقطب الطلاب من أصحاب البشرة السوداء من كل أنحاء العالم وصدف بأن تكون هذه هي الحالة في ذلك الوقت حصرا. وكان جوابي عليه هذا صحيح، ومع هذا هذه ليست حقيقة مطلقة. وذلك لأن حضرتك نسبت اللون الأبيض للطالب عندما قلت طالب أبيض. وأبيض هي صفة الطالب وأصبحت مرتبطة به. والدلالة القياسية هنا هي للطالب، وليس ل اللون. ولو كانت الدلالة ل اللون فقط سيكون هناك أكثر من شيء واحد أبيض في هذا الصف يحمل صفة الأبيض. على سبيل المثال قطعة الحوار التي تمسكها في يدك هي بيضاء. قميصك أبيض وأسنانك بيضاء. وكذلك هي أسناني وأسنان كل الطلاب الموجودين هنا. فقال إذن هي كما تقول: الأبيض والأسود هما حقائق مطلقة. فكان ردي كلا. لا يمكن إطلاقها. وذلك لأننا ورثنا هذه الألوان كما هي على أنها حقائق من أسلافنا كما ورثها أسلافنا عن أسلافهم، وهكذا. كما وأن هذا لم يكن حقيقة معروفة قبل اكتشاف علم الألوان. كما وأن الحكم بالإطلاق لهذه الألوان لا ينطبق على شخص كان قد ولد أعمى لم ير النور، ولم ير أو يتعرف على شكل الألوان في حياته. واذا ما قلت له على سبيل المثال أبيض مثل الثلج أو أسود مثل الليل. فهو لم ير لا ثلجا ولا ليلا في حياته. لكن إذا قلت له بارد مثل الثلج فهو لا يمكن أن يعرف هذا كحقيقة إلا إذا أحس ببرودة الثلج من خلال اللمس، وليس من خلال الرؤية. قلت هذه الجملة عندما كان الوقت المخصص للنصف الأول من المحاضرة قبل الاستراحة قد شارف على الانتهاء. وكانت هي الفاصلة. فرمى بقطعة الحوار التي كانت بيده. وأخذ شهيقا عميقا حتى انتفخ صدره وارتفع إلى مستوى يقارب فمه واتبعه بزفير صاخب حرك الهواء الراكد في الأفق أمامه، وقال: لقد مضى علي في مهنة التدريس عشرين عاما ولم يمر علي أي طالب يجادل بهذه الطريقة وهذا المستوى. ولهذا سأطلب منك كتابة ورقة بحث مفصلة حول هذا الموضوع وان تناقشها في نهاية الفصل. وهكذا بدأت رحلتي مع مفهوم “الحقيقة المطلقة” وعدت لأبدأ بقصة الفلسفة من جديد، ولكن هذه المرة بنسختها الانكليزية. ومنذ ذلك الحين لم أنس هذا الاستاذ وأصبح مثلا وقدوة لي في الصبر والأناة، ومايزال. وعندما أصبحت أستاذا، كان لا بد لي أن أتذكره وأتذكر محاضرتي الأولى معه كطالب في كل محاضرة أقدمها لطلابي، وما أزال حتى اللحظة. وماتزال الرحلة مع “الحقيقة المطلقة” مستمرة.
مع أطيب التحيات
رياض العيسمي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب