فيتشية «السلاح» في مقابل فيتشية «الهوّة التكنولوجية»

فيتشية «السلاح» في مقابل فيتشية «الهوّة التكنولوجية»
وسام سعادة
تقوم كل فلسفة حرب العصابات أو حرب الغوار على أنّها، وبخلاف الحرب النظامية، تفسح بالمجال لإمكانية أن تنتصر على عدوك رغم الهوة التكنولوجية بينك وبينه. ذلك بالبناء على اجتماع جملة من أمور. في طليعتها، أن يكون جنود عدوك «مرئيين» وأنت مراوغ مستتر، بين كرّ وفرّ، تختبئ في المغاور أو في الغابات، وتوجد فيها «قاعدتك الآمنة» أو تمتد بهذه الأخيرة بين السكان، وخاصة الفلاحين، وتستمدّ منهم المزيد من العديد، وتضرب مجدداً، وتضيف مظلوميتهم بسبب انتقام الأعداء منهم، على هدفك المتوخى من إلحاق الهزيمة بعدوك، أو «فرط جبهته» بدءاً من التنكيل بالمتعاونين المحليين معه.
في الحرب الدائرة حالياً نجد مثلاً أن تحدي «المستتر» في مقابل «المرئي» تمرّست به حركة حماس نسبياً أكثر، وبات اسم يحيى السنوار إليه أقرب. هذا في وقت اتسعت فيه بقطاع غزة الهوة بشكل حاد، بين نجاح مقاتلي حماس والجهاد في الاحتفاظ بهياكلهم القتالية، وبين مصير عموم السكان في ظل حرب ذات سمة إبادية. وهذا بحدّ ذاته يعيد طرح كل الإشكاليات المتعلقة بنقل وصفات حرب العصابات من الجبال والوهاد والصحاري وحتى الأرياف إلى المدن والمناطق ذات الكثافة السكانية العالية.
في المقابل، يظهر خلاف ذلك في حالة «حزب الله». المفترض أنه موجود في مساحة من الأرض غير محاصرة، وأنه داخل في حرب يتحاشى فيها من الأساس استعجال الذهاب إلى محاولة استيلاد ما يشبه هجمات 7 أكتوبر في سياقه، وأنه يتمتع بسهولة تدفق السلاح والمقاتلين من امبراطورية الحرس الثورية الممتدة من خراسان إلى شرق المتوسط وجنوباً حتى باب المندب.
يبدو الحزب، منذ اغتيال مسؤوله العسكري البارز في الضاحية الجنوبية وحتى مجزرة أجهزة الاتصال في الأيام الأخيرة مكشوفاً إلى درجة غير مسبوقة في تاريخ كل الحركات التي تتعاطى حروب العصابات أو الأنصار أو الغوار، على ما تنوعت فيها التسميات.
والسبب هنا لا يمكن أن يعزى للهوة التكنولوجية وحدها، وإنما لاجتماع أمرين آخرين وأساسيين.
أولهما غياب عنصر «نقد التكنولوجيا» في ثقافة هذا الحزب. هناك طبعاً سردية «التكنولوجيا في نهاية الأمر لا تصمد أمام حرارة الإيمان» لكن هذا شيء مختلف. نقد التكنولوجيا يعني هنا عدم الانصراف لقدسنة السلاح، الذي هو في آخر الأمر تقانة، سيان في ذلك إن ابتكرتها أو استوردتها.
لقد أخذ الحزب مسلكاً مغالياً في «قدسنة السلاح» فما هى بين الوسيلة والغاية إلى أبعد حد، وغرق في «فيتيشية» ما يملكه من أسلحة وأعتدة، مغفلاً أنه ومنذ غابر الحروب في التاريخ يمكن للفأس الذين بين يديك أن يتحول إلى فأس يهشّم رأسك. انقلاب السحر على الساحر هو بمثابة المكرر في تاريخ الحروب، وليس الاستثناء فيها. سلاحك ليس لك وحدك لتناجيه طول الوقت. هذا هو المدخل الجدي لنقد التكنولوجيا وليس توهم مقارعتها بحرارة الإيمان عندما يكون هذا الإيمان مختلطاً بالنتيجة بفيتيشية ما في جعبتك من سلاح.
المتغير الأكثر وضوحاً في العصور الحديثة هو إمكانية تسخير أي ابتكار تكنولوجي أمنياً أو عسكرياً أو عنفياً بالمطلق أكثر من ذي وقت مضى. الرأسمالية، إذ تتضمن، بمثابة كمون محايث لها، إمكانية تسليع كل شيء، تتساكن، بل تتواءم، مع إمكانية «عسكرة» أو بالأحرى «تسليح» أو ربما «سلحنة» كل شيء.
ساهمت «فلسفة حرب الغوار » في إحباط إمبراطوريات استعمارية وتفكيك مجتمعات كولونيالية. لكنها أبعد ما تكون عن اكتساب سمة «الحتمية التاريخية»
يمكنك أن تحوّر طائرة مدنية كسلاح في الإرهاب الكلي كما يوم هجمات 11 سبتمبر. يمكنك تفخيخ هاتف، أو جهاز لاسلكي، أو شبكة كاملة من الأجهزة.
ليس هناك في نهاية الأمر معطى الهوة التكنولوجية فقط، بل إمكانية تسخير وتحوير كل تكنولوجيا بشكل متفاوت من حيث القدرة كما من حيث الاستعدادية وأسلوب احتساب الارتدادات والنتائج.
المجتمع الما بعد الصناعي، بما يعنيه ذلك من دلالة تصنيع فائق بالنتيجة، قادر على الوصل أكثر بين تكنولوجيات معدة من الأساس للاستخدام الحربي وبين تكنولوجيات لأغراض مدنية وسلمية في الأساس.
لا يلغي هذا في المقابل أن المجتمع الفائق التصنيع عنده احتمالات «سرعة عطب» هو الآخر، لكن سرعة العطب هذه ليست بالوفرة المتخيلة كي يبنى عليها طول الوقت. الرهان على شل القدرة الترابطية للوظائف العسكرية والأمنية المباشرة وغير المباشرة في مجتمع ما بعد صناعي هو رهان جائز، لكنه يتطلب أن تنجح أولاً في اختبار التفاضل بين «لامرئيتك» النسبية وبين «مرئية الخصم» أكثر، لا أن تفشل فيه.
وهنا يبرز العطب في منظومة أفكار وتصورات وخطط «حزب الله» في الحرب الحالية. ذلك أن غياب تقليد «نقد التكنولوجيا» لديه، لصالح «فيتشية السلاح» تكامل مع تراجع سمات «منظمة حروب العصابات» في تركيبته لصالح نوع من التهجين بين نموذجي الغوار من جهة، والجيش النظامي» من جهة أخرى.
تعني «الفيتيشية» في هذا المقام الإسراف في تحويل السلاح إلى «تميمة». وبالتالي المبالغة في تضييع المسافة بين المحارب وسلاحه.
«نظمنة» حزب الله، أي تحويله إلى جيش نظامي، رفعت لديه من احتمال صيرورته جماعة «مرئية» وهنا تضافرت المعرفة التجسسية، مع عناصر الإرهاق المتواصل من حرب إلى حرب، مع النزعة الطاووسية «الحتمو ـ انتصاروية» مع اتساع الهوة التكنولوجية بشكل أكثر جسامة من الماضي في السنوات الأخيرة، مع الاستثمار الإسرائيلي في واقع الانقسام العميق في المجتمع اللبناني حول الحرب الحالية، وبين رغبة معظم الشيعة، بل حزب الله كله، في درء تطور «حرب المشاغلة» إلى حرب كلية وشاملة، وتعامل إسرائيل على ما يظهر مع هذا الميل إلى «العقلنة والتروي» في مقابل الاصرار على الاستمرار في «الإسناد» على أنه مؤشر إلى ضعف في بنية الحزب أو بينه وبين بيئته أو بين هذه البيئة والأنسجة المختلفة من التركيبة اللبنانية.
هل يمكن أن ينفض «حزب الله» من تركيبته وبعد مجزرة البايجر سمات «الجيش النظامي» الذي أفادته في سوريا وأضعفته حيال إسرائيل؟ إسرائيل ستواصل في الأيام المقبلة الاستفادة من «مكشوفية» الحزب وبالتالي عودته إلى «دور الستر» الغوارية تطلب معاكسة للمناخ العام، الانقسامي أكثر في لبنان، والانهزامي بعد أن كان انتصاروياً لمرحلة طويلة عند عموم الشيعة. في الوقت نفسه، «تحرر» الحزب من سمات «الجيش النظامي» المثقلة عليه بالمرئية ليست مستحيلة. لكنها مهمة مريرة وهي تحصل أكثر فأكثر على حافة الحرب الشاملة من جهة، وإمكانية حدوث قلاقل عنيفة في الداخل اللبناني من جهة ثانية. بالتوازي، ينبغي التذكير بأن العودة عن سمات «الجيش النظامي» إلى تركيبة «حرب العصابات» على صعوبتها الآن، إلا أنها بحد ذاتها ليست كفيلة برأب الصدع لوحدها.
لقد ساهمت «فلسفة حرب الغوار» في إحباط إمبراطوريات استعمارية وتفكيك مجتمعات كولونيالية. لكنها أبعد ما تكون عن اكتساب سمة «الحتمية التاريخية». يمكن أن تربح فيها وتخسر. لا يمكنك تضييع الهوة التكنولوجية التي تفصل بينك وبين عدوك، ولا ردمها، لكن بإمكانك تعطيلها أو جعل تشغيلها عالي الكلفة وبلا طائل. في نهاية المطاف، هناك هذه الهوة وهناك قدر المجتمعات على تحمل امتداد نمط العيش «الطوارئي» بالنسبة لها إلى ما لا نهاية. هناك دائماً، وبالنسبة لكل معاش بشري حدّ يمكن تسميته بحدّ «الما لا يُطاق». لا يعود من الممكن بعده على هذا المجتمع مواصلة المواجهة الممتدة لسنين طويلة، حتى ولو كان في هذه المواجهة في الموقف المظفر تكنولوجياً. وهذا ينطبق سواء بسواء على الحروب بين الدول كما على الحروب بين الدول وبين الفصائل. لم يردم السوفيات في أي يوم الهوة التكنولوجية بين جيشهم وبين الفيرماخت الألماني، وكانت الشعوب والأقوام التي اجتاح الألمان أراضيها منقسمة بين المطواعية لهم وبين موالاتها للاتحاد السوفياتي. الحرب الوطنية العظمى بالاصطلاح السوفياتي لها كانت في الوقت نفسه حرباً نظامية، ورزمة من الحروب غير النظامية. تشكيلات الأنصار لعبت دوراً مهماً في إرهاق العدوانية الألمانية. وفي الوقت نفسه لم يكن المشهد إلا انقسامياً وبامتياز. كانت الحرب أهلية أيضاً في كل المناطق التي اجتاحتها ألمانيا الهتلرية: بين أنصار الشيوعية وبين القوميين المختلفين المنحازين للنازية فيما كانت الأخيرة ومطولا تتأفف من نصرتهم، رغم اعتراض وزير «المناطق (المحتلة) في الشرق» ألفرد روزنبرغ على هذا المسلك المتعجرف من جانب القيادة النازية تجاه الشعوب السلافية التواقة للاستعانة بالنازية للتحرر من الشيوعية.
تسمح حروب الغوار أو الأنصار بتعطيل متفاوت في النسبة والمؤدى للهوة التكنولوجية. لكن ذلك يرتبط بهوات أخرى أيضاً، كتلك الديموغرافية. وهذا ينطبق حتى على الحرب بين الأمريكيين البيض وبين السكان الأصليين لأمريكا الشمالية. بخلاف الصورة النمطية، لقد أجاد هؤلاء استخدام ما كسبوه من المستوطنين، سواء من جياد أو من بنادق. هزيمتهم بالنهاية كانت بسبب ارتباط الهوة التكنولوجية بين مجتمع صناعي – زراعي، يحاربهم وبين قبائلهم الرعوية، بهوة تنظيمية بين مشروع دولة أمة بسمات امبراطورية وبينهم كقبائل، وبالاستناد إلى ذلك زيادة اتساع الهوة الديموغرافية. في الحرب مع إسرائيل أيضاً، الديموغرافيا توازي التكنولوجيا، لكنها ترتبط رأساً بالمدى الفعلي لقياس الديموغرافيا القابلة لأن تنخرط في هذا الصراع، وليس الديموغرافيا المتخيلة أو المقدّرة فقط.
كاتب وصحافي لبناني